قصائد مريم شريف ليست غنائية
هناك تجارب شعرية تمتلك قاموساً محدوداً من الكلمات. مكاشفة تلك التجارب بهذا الوصف ليست من قبيل رصد عيب أو عجز، لكن من قبيل الإشارة إلى ميّزة وطريقة مخلصة في الكتابة. يمكن سحب هذه الملاحظة، إلى حدّ ما، على تجربة الراحل بسام حجار.
لكن لنتحدّث عن تجربة في المتناول أيضاً. إنها تجربة الشاعرة الفلسطينية مريم شريف التي تعالج، شعريّاً، وبمزيد من التقنية العالية موضوعات محددة؛ ليس لنا أن نعتبرها ضمن ما يطلق عليها “اللمسات الفنية” المقصودة. شاعرة في قصائدها زهدٌ وتمسّك:
زهد بأية إضافة ترهق القول الشعري، وتمسّك بالعمق للإضافة عليه، لملئه، لمراكمة وضوح القصيدة؛ لتظلّ الأخيرة نابضة بالماء المُعاش، منبّهاً معنويّاً، ومطهراً لأعماق الإنسان.
قصائد ليست غنائية، لكن فيها ملامح أصحاب الجوقة، خطفاً نراهم على الشاشة وصوت الرائي مكتوم.
ثراء في قيمة الإلماح والخفوت. حتى لينقلك ذلك إلى أقصى لحظتك كقارئ للعيش في رفاهيةٍ تصادق على دورها، بنفسها، كمرادف لشفافية سائدة.
وتشتغل الشاعرة على موضوعات واسعة: الصوت، النظرة، اللمس، الهواء، الريح.. بلغة اقتصادية محميّة، لا تقترب منها شبهة التكرار والاستعارة الدكناء والزخرفة.
قصائد مريم شريف من العمق الصاعد، بحيث يجد قارئُ الهواء والنظرة واللمسة والأسى نفسه أمام جدارة من يشعر باللغة قبل أن يكافئ بها الفكرة الآتية من سؤال ينابيع لا تحيط بها أحجار.
بهجة بعراء الينبوع، ورهبة جليلة محصّنة بإرادة الشرب منه.
قصائد مختارة للشاعرة
1
سأظنّ دائماً
أنني أحدّثك، وأنّك تسمع
أنني أشاهد إصغاءَ عينيكَ
كحكاية تأتي من مكان بعيد
أنّ ذلك العمق الدّفين
هو ما يجعل أنفاسي ترتبك
وصوتي يرتعش
هو ما يجعلني أترك أصابعي بين يديك
وأعود بيدين
لا تعرفان ملمسَ شيء آخر.
2
هذا الألم أريده كلّ يوم
كما أريدُ وجهك
هو أنت
وهو الأرضُ الشاسعة أمام قلبك
حيثُ أكونُ وحيث أغيب
هو أن أكون أنا خطواتي، لتسمعها
وأن أكون إصغائي ليستدعيني صوتك
هو أن يكون لي ظلّ صغير
مثل ظلّ شجرة
ألمسُ جدرانه الوهميّة بأصابعي
وأحبّك فيه بالتذكّر وحده.
3
الحزن الهادئ، والحزنُ الألم
التذكّر الهادئ والذاكرةُ الألم…
الصمت
والصمتُ من الألم..
نحن بقيّة كلّ ذلك
إلى أن يخلق الألم
البقية الأخرى.
4
قلْ شيئاً للصُدفة، لتغدو طريقاً
قل الكلمات التي دفنَتها الرمال،
خُلقتُ لِأُصغي،
إن لم يكن لكَ، للخفقان الخفيف
الذي يؤرجحُ الهواء ..
المسافاتُ ليست على الأرض
المسافاتُ ما ننسى أن نقوله ثمّ يسقط في النسيان
الشوارعُ تغادر المدن في كل لحظة
تأخذُ وتُعيد،
تأخذُ وتؤلمُ ..
الأبواب أيضاً تُفتحُ وتُغلق آلاف المرّات
من تلك الحركة المستمرّة كالزمن
تتعلّم البيوت الحنين
هل لمست الباب لتغلقه خلفك؟
يصرّ كالألم، أنا أسمعهُ
محفورٌ في أيامي منذ الأزل
ذلك الصدى…
5
الريح التي تهبّ منذ الأزل
وحتى آخر الكون
لا تأتي من خلف الجبال
تأتي من لحظةٍ في صوتك
الريح التي تمرّ من أمام عينيك
تأتي لتلمسني..
6
أسمع الخشخشة نفسها منذ ذهابك
الهواء الذي كان يحتكّ بمشيتكَ
كنتَ تأخذه معك،
والساعات القليلة
معلقةٌ هنا
مثل لوحة لا تنتهي
تحت كلّ نظرة يولد ظلّ
وإذا سهوتُ قليلا
تتحرك يدك في الظلّ، أو يهمس صوتك
هل هذه الدهشة صوتك؟
وكان يناديني؟
أنا الأثر الصغير لذلك الصوت.
7
ثمّة حزنٌ يجب أن يُعاش
أن ينطبع في العينين
ما دامت النظرة لا توجع نافذةً أو شجرة
أن يسير في الخطوات
ما دامت الدرب لا تسمع
ثمّة حزن بلا دويّ
فقط، هذه الهشاشة.
8
أعلم أنك أنت من تقول للأشجار أن تكون أكثر خضرة
للهواء أن يرقّ
حتى أرى كيف تكون صورة النهار حول وجهك
في المدى المنساب أمامي
أرى صوتك والمسه
ذائباً في الوجود، في الأشياء التي
تقف عن الأبواب وتخرج
دون أن تغادر حقاً.
بالأثر الذي ما زالت تتبعه روحي
أسير في كلّ مكان
دون أن يلاحظ الآخرون
غربتي عن مدينتهم…
10
أدخل إلى الصباح الجديد
من تحيّتك القديمة
من صوتها كما فسّرته أعماقي
إنه الصدى
إنه كلّ ما أسمع
كم من المسافات غير المرئية
تقطعها الهمهمات المبهمة
الصدى اليقظ المقيم هناك
ليأتي حاملاً إليّ كلماتك
هل عرفت إذن
أنني الشبح السعيد المرسوم على حائط
أو الظلّ المنسكب على الأرض دون تعاسةٍ تُذكر
أنا.. نعم.. أنا
ودون أن أقصد ذلك أو أحبه..
دون قصد..
دون قصد.
“نزهة بحزام ناسف” لكاظم خنجر
ها هي مجموعة كاظم خنجر “نزهة بحزام ناسف” الآن. ماذا عساني أكتب؟ لو كتبت، على حساب الواقع، لشرحت ومرضتُ. فكتابة الشروح على نصوص الشعر هي من أشدّ أمراض النقد العربي المزمنة؛ سيما وأن شعريّة خنجر شارحة بطريقة لا تفسد، بحال، جماليات الشعر. بل هي طريقة تُعظّم القدرة الجارحة كجلاد، والمبكية كهيأة ضحية لديه. تلك القدرة التي تستحقّ الغبطة ونداء الله، على امتداد المجموعة.
لكن سأسمح لنفسي، هنا، أن تتواطأ، قليلاً، مع الإطناب؛ لمضاعفة ذروة الانتصار لعمل شعري أفلت من المقتلة
أيّ تحدّ هذا الذي يجعلني أنتهي من النزهة فيسلبني أدوات الكتابة في مواجهة المجاز؛ عن تجربة شعرية جليلة كمادة مباشرة، لا ينقصها جمال الشعر؟!
اختراق عمل شعري كهذا، موضوعه الحرب وضحاياها، نزقَ قارئ يتحاشى قراءة تجارب صارخة وناسفة للشعر؛ هو بمثابة انتصار وتعميق حقيقي للجرح كفنّ. الشعر جرحنا العميق، نخفي فيه الدواء حتى لا نتناوله عبر الفم ونسكت خروج الكلمات.
لكن سأسمح لنفسي، هنا، أن تتواطأ، قليلاً، مع الإطناب؛ لمضاعفة ذروة الانتصار لعمل شعري أفلت من المقتلة.
فخنجر يكسو العظام شعرًا بواقعية سحرية مرعبة في التزامها الجميل بالمأساة. مهارة في تثمين الأسى بعمق يتوخّى السطح، وبدقة أمارتها لغة مفادها تقريرٌ عن السُّدى والسَّداة. السطح هنا تعميم، إنه علامة مرفوعة إلى البسيط المُبكي من السرد.
شعرية مجهورة على الملأ، بطلاقة لا تؤذيها صلابة العظام. قصائد كاظم خنجر هي تأبين يتخلى صاحبه عن اللسان، وإن بدا الأخير مُوظّفًا للغة التقرير، يدفنه في معنى المعنى؛ لإخماد أساليب شعرية مكرورة أكل عليها الدهر وشرب أمام الموت والمأساة.
قصيدة عاجل
البارحة ذهبت إلى الطب العدلي. طلبوا بصمة مطابقة للحمض النووي. قالوا إنهم عثروا على بعض العظام المجهولة الهوية. وفي كل مرةٍ أدور مثل برتقالة على سكينة الأمل.
الآن أنا في المنزل يا أخي، أمسح الغبار عن الزهور الاصطناعية التي تحيط صورتك، وأسقيها بالدموع.
* * *
يقول التقرير الطبي بأن كيس العظام الذي وقّعتُ على استلامه اليوم هو “أنت”. ولكن هذا قليل. نثرتُهُ على الطاولة أمامهم. أعدنا الحساب: جمجمة بستة ثقوب، عظم ترقوة واحد، ثلاث أضلاع زائدة، فخذٌ مهشمة، كومة أرساغ، وبعض الفقرات.
هل يمكن هذا القليل أن يكون أخاً؟
يشير التقرير الطبي إلى ذلك. أعدتُ العظام إلى الكيس. نفضتُ كفيَّ من التراب العالق فيهما، ثم نفختُ بالتراب الباقي على الطاولة، وضعتكَ على ظهري، وخرجت.
* * *
في الباص أجلستُ الكيس إلى جانبي. دفعت أُجرة لمقعدين (هذه المرة أنا الذي يدفع). اليوم كبرتُ بما فيه الكفاية كي أحملكَ على ظهري وأدفع عنك الأجرة.
* * *
لم أُخبر أحداً بأني استلمت هذا القليل. أُراقب زوجتك وأطفالك يمروّن بالقرب من الكنبة التي تركتكَ عليها. أردتُ أن يفتح الكيس أحدهم. وددت أن يروكَ للمرة الأخيرة. لكنك كنت عنيدا حد العظم. في ما بعد تساءلوا عن بقعة الدمع التي على الكنبة.
* * *
منذ ساعة وأنا أرتب هذه العظام الرطبة في بطن التابوت، محاولا اكمالك. وحدها تدري المسامير التي على الجانبين بأن هذا قليل.