هناك قصيدة بعنوان “الألفاظ” ضمن ديوان “أقول لكم” لصلاح عبد الصبور، يمكن اعتبارها كانتباهه من انتباهات الشاعر لما يجب أن تكون عليه القصيدة، بمعزل عن الألفاظ الجوفاء، وبمناداة حثيثة لـ “بنت الصحراء الجرداء”، لأجل إبراء الكتابة من حشو الألفاظ وسراب الشعر:
“يا سيدتي، يا بنت الصحراء الجرداء
فلتقتصدي، فلتقتصدي في الألفاظ الجوفاء
الألفاظ الجوفاء”
ولكن من دون أن يتمّ إبراؤها من تكلف القافية والحشو.
أما قصيدة “العائد” في “أقول لكم”، فتحمل سمات جماعة “أبولو”، وأقربهم إلى الذكر إبراهيم ناجي، والذي يخيّل إلي أنه العائد في القصيدة، وبصوت عبد الصبور الذي يقول:
“نحن لم ننس، ولكن طول الجرح يغري بالتناسي
عندما يخلع صيف ثوبه من شتاء مكفهر قاس
وعلى عقبيهما يأتي خريفٌ مجدبٌ دونَ نداوة
وتعرّي كفّه العالم من كل بهاء وحلاوة
عندما ينقلب التذكارَ عبئًا وعذابًا وقصورًا
وبكاءً أخرس النبرة وحشيًّا ضريرًا”
عوضًا عن ذلك، كان عبد الصبور بحاجة لشطب “دون نداوة”، لأنّ ما يسبقها “خريف مجدب”. ذلك أن الدلالة لم تعد بحاجة إلى زيادة، فزيادة كهذه هي من باب حشو فم القافية بالأخضر واليابس. دون مراعاة أن كلمة ممتلئة بالمعنى المقتصد مثل: “خريف” أو “مجدب”؛ تحقق الإشباع للدلالة. وحذو هذه الزوائد نجده بكثرة عند عبد الصبور وشعراء كثر. مثلاً، لنرى إلى بيت نزار قباني: “وأنا محتاج … لامرأة تجمع أجزائي كشظايا البلور المكسور”. إن شظايا البلور تغني عن المكسور، لأن كل شظايا في حادثة، بالطبع، ناتجة عن انكسار شيء مادي، أو عن انكسار روحي، كما هي روح العاشق المكسور؛ الذي يحتاج امرأة تجمعه وتلمّه. فضلاً عن تبلور الفافية، أي تجسّدها المطلق، في كلمة “البلـّـور”. ولم تكن ثمة حاجة إلى تأكيد المعنى بالصفة “المكسو”، هاهنا. إن غياب الصفة لن يكسر الوزن، قد ينقصه وحدة ونصف وحدة من خبب المتدارك، ولكنه غيابٌ يملأ دائرة المعنى! وبالتالي، أنا واثق من أنه ما كان ليُعاقب قباني الحداثي بالمعنى الزمني، من المعرّي الحداثي بالمعنى الفني، القائل:
وناظم لعروض الشعر عن عرض وما يحسّ بأن البيت مكسور.
وبالنسبة لعبد الصبور، كان يحتاج كثيرًا لتلخيص بمعنى تخليص القصائد من الزوائد والحشو والاستطالة والشروح التي جعلت اللغة المستخدمة مليئة بوهم الشعر أكثر من أي وقت مضى. فيما كان الحرص مضاعفًا من الرواد؛ لأجل نصرة الشكل أو تعليق المنظر الجديد، وتسميته بـ” قصيدة التفعيلة”.
حين نعود مثلاً إلى ديوان “الناس في بلادي”، سنلاحظ هذا الحشد من الواوات والفاءات الزائدة عن الحاجة؛ والتي تتكرر، كمتاريس في وجه الذائقة، في بدايات السطور. لنأخذ، مثلًا، المقطع الأول من قصيدة “رحلة في الليل”، وهو معنون بـ “1- بحر الحداد”:
“الليل يا صديقي ينقضي بلا ضمير
ويطلق الظنون في فراشِي الصغير
ويثقل الفؤاد بالسواد
ورحلة الضياع في بحر الحداد
فحين يقبل المساء، يقفر الطريق، والظلام محنة الغريب”
كان هذا المقطع يحتاج لا إلى التخلص من الواوات وحسب. ولكن، بعد استبدال “الصغير” بـ “القصير” إلى التخلص من السطر الرابع نهائيًّا، لأن السطر الذي يعلاه عبّر عن بحر الحداد بسواد الفؤاد. وباعتقادي كل حداد ينادي السواد ليعمّ ويشمل؛ فإذا حضر المنادَى، سكت المنادِي عن التلفظ. ووفّى وكفّى السواد وأعطى وعكس الرسالة في عمق العباد والبلاد. لذا لم يكن ثمة داع إلى: “ورحلة الضياع في بحر الحداد”. ففي ذلك طفرة غير مقبولة. أللهم إذا قرئ “بحر الحداد” بمنظور جماليات المكان أو الليل والحداد! وهذا أغرب ما يجوز في حالة البناء الركيكة. وثمة الكثير من الشواهد التي تنطبق عليها هذه المعالجات النقدية، لدى السياب، والبياتي وغيرهم كثير. في قصيدة “هجم التتار” استطاع عبد الصبور أن ينجو من هجوم ولعنة الواو. وجه المنجاة كان في استخدامه لـ (أو) التي جلبت بإيقاعها المتكرّر جمالياتٍ حلّت بدلًا من رتابة واو الضرورة والضرر، مثلما نرى في هذا الشاهد:
“والأمهات هربن خلف الربوة الدكناء من هول الحريق
أو هول أنقاض الشقوق
أو نظرة التتر المحملقة الكريهة في الوجوه
أو كفهم تمتد نحو اللحم في نهم كريه”
وإذا ما أمعنا في ديوان “الناس في بلادي”، أول ما سيهدد أمن الذائقة، هناك، ليس التفعيلة وحسب، ولكن الدأب على أسر الصور الشعرية بكاف التشبيه، دون وضع اللغة في عالم المجاز والاستعارة الحرّة والتشبيه الملتبس:
“الناس في بلادي جارحون كالصقور
غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة المطر
وضحكهم نيّر كاللهب في الحطب”
على أن أضعف التشبيه ما جاء في السطر الأول، وأقواه ما جاء في الثاني؛ لكونه استدعى الخلق الرائع لصورة حسية مركبة تأخذ مكانها بدل بساطة المشبه به، والذي سيبدو قديمًا ورتيبًا واجتراريًّا في السطر الثالث. وعلى أية حال، سواء أكانت العودة بمفردنا أو مع جماعة، إلى بدايات مشروع قصيدة التفعلية؛ فإننا سنتكلم، من باب الواجب وبمقتضى الحق، عن صلاح عبد الصبور، بوصفه مشاركًا في التأسيس وشق الطريق. مشاركًا انشغلت يداه اللتان لم تفرغا، تمامًا، من مهمة تثبيت الشكل. ولم يستثمرهما، بتفوق كالسياب الذي استطاع أن يكون شاعرًا مخضرمًا (برغم موته المبكر) عبر نقلات نوعية في قصائده.
على أن المسألة برمتها احتاجت إلى مرحلة قادمة أو مرحلتين، خلال ذلك تظهر القصيدة المدوّرة.
وبالعموم، هناك في جوانب مؤسفة وثقيلة علينا في آثار الرواد، نرى أنه: لم تكن حاجتهم إلى وعي حداثة الشعر أعلى من الإصرار على تلقف الشكل، والتورط في استعماله كقالب لكلماتهم المعبّرة عنهم والزائدة والعاطلة. أولئك الذين، قولًا، راحوا يناهضون تعريف الشعر بأنه كلام موزون مقفى. ولكنهم، فعلًا بدوا متواطئين مع التفعيلة بوصفها تحديثاً على الشكل، لا بوصفها جوهر الحداثة الشعرية.