ما كاد السيد علي يطمئن على مقعده في سيارة الركاب، حتى لمح وجه السيدة زينب تجلس في الجانب الآخر من السيارة، وراوده شعور بالقلق وبالخزي في آن واحد، حتى إنه اعتقد – لمدى لحظة واحدة – أنه لن يحرك ساكناً إذا ما التفتت السيدة زينب تجاهه، ورأته، ثم بصقت في وجهه.. وحاول أن يرفع الجريدة أمام وجهه ستاراً، ولكنه فضّل بعد قليل أن يستدير نحو النافذة.. ويحدق في الطريق!.
في يوم ما، مضى قبل عشر سنوات، كان يشعر السيد علي إذ يرى السيدة زينب بسعادة طاغية.. سعادة من ذلك الطراز الذي يشعر به ابن المدينة عندما يعثر على كوب ماء نظيف في مقهى قرية مجهولة، ورغم أن شيئاً لم يكن يجبر السيد علي على احترام السيدة زينب، إلا إنه كان يشعر باضطراره لكي يفعل، بل كان يأمل في يوم يستطيع فيه أن يخطب ابنتها إلى ولده.. رغم بعد الشقة بينه، هو صاحب الأرض، وهي الفلاحة البسيطة التي تستأجر عشر دونمات من أرضه..
السيدة زينب وزوجها، هكذا قال السيد علي يحدث نفسه، كانا من أنشط الفلاحين الذين رآهم في حياته، ولقد استطاعا بفضل هذا النشاط أن يرسلا ابنتهما إلى المدينة كي تتعلم، رغم أنها كانت قوية.. وكان باستطاعتها أن تمد يد العون إلى الأرض، وكانت دار السيدة زينب نظيفة إلى حدود عجيبة كانت تحيره، ففي خارج الباب كان الذباب يتكاثر كأنه غيمة سوداء، وفي داخل الدار، كان اكتشاف ذبابة واحدة يستلزم جهداً مضنياً. ولطالما حيرته هذه الظاهرة..
صحيح أن بيع الأراضي كان سبباً من أسباب نكبة هؤلاء، ولكنه لم يكن يتصور أن ذلك سوف يحدث لمجرد أنه عقد صفقة موفقة مع يهودي.. ولكن ذلك حدث على أي حال.. ويبدو أن لعنة الأرض سوف تلاحقه.. إلى الأبد..
كان للسيدة زينب ولد أيضاً، ولقد كان قوياً كثلاثة فلاحين، لم يكن يرفع رأسه عن الأرض، إذ يعمل فيها، حتى ولو مر السيد علي نفسه، وحاشيته من محاسبين ومحاسيب.. ولقد شعر السيد علي مرة أن القوم لا يحترمونه كفاية.. ففي ذات يوم، مر من أمام بيت السيدة زينب، فسمع صوتها من خلفه يدوي بلهجة غريبة:
– سمعنا أنك تريد بيع الأرض..
واستدار السيد علي فرآها تتكئ على سياج من الخشب العتيق، ورأى في عينيها نظرة لم يعتدها منها..
– قررت أن أعود إلى بلدي.. أنت تعرفين أنني لست من هنا، ولقد آن لي أن أعود. ها… كيف حال العزيزة ليلى؟
ورغم ذلك، فإن النظرة الغريبة لم تبرح عيني السيدة زينب، وسمعها تقول بنفس تلك اللهجة، وكأنها لم تستمع قط لما قال:
– وسمعنا أيضاً أن عرضاً يهودياً قدم إليك.
شعر السيد علي ساعتها بالقلق بسبب تلك النظرة الغريبة، ورأى أن عليه أن يتقدم خطوة نحوها كي يكسب ودها:
– إذا استطعت أن أجر ذلك اليهودي إلى أن يضيف نصف المبلغ المعروض الآن.. فسوف تكون صفقة موفقة..
ولمحها تنتصب في وجهه، فعاجل يتابع:
– هذه الصفقة هائلة! اسمعي، لو بعت الأرض بمبلغ صغير لكان عليكم جميعاً أن تغادروا الأرض.. وأن تفتشوا عن مكان آخر.. لأنني لست مستعداً أن أفقد نصف ثمن الأرض من أجل مساعدتكم.. أليس صحيحا؟
وبقيت عيون السيدة زينب مفتوحة دون أن ترد على التساؤل.. ورفعت ذراعيها وعقدتهما على صدرها.. ووجد أن عليه شرح فكرته بسرعة:
– أما إذا بعتها بمبلغ جيد.. فسوف يتيسر لي أن أعطي كل فلاح من المستأجرين مبلغاً من المال يستطيع أن يقيم أوده.. هذا أفضل من أن يذهب للعمل حمالاً في الميناء.. ألست على صواب؟
وترقب الجواب، ولكن السيدة زينب قالت بهدوء وكأنها مرة أخرى لم تستمع إلى أي كلمة لفظها:
– يجب أن لا تبيع الأرض لليهودي يا سيد علي..
– ولكنني إذا لم أبعها لن تحصلوا علي أي قرش يساعدكم فيما بعد.. أليس كذلك؟
– يجب أن لا تبيع الأرض لليهودي يا سيد علي..
عرف لحظتها أن عليه أن يتخذ موقفا مغايراً، واكتشف أن التساهل الذي كان يعامل به فلاحيه لم يكن في محله، وبذل جهداً كبيراً كي ينصب قامته في وجهها.. وكي يصيح بصوته الراجف:
– على أي حال.. هذا عملي أنا!!
واستدار.. ثم عاد أدراجه مفكراً.. هذه السيدة زينب.. شيء غريب فعلاً، إنها لا تفكر بعقلها. إنها لا تملك قرشاً وعلى رأي المثل المشهور «من لا يملك قرشاً فهو لا يساوي قرشا..» ورغم ذلك يبدو أنها سوف ترفض هذه الفرصة الكبيرة… بأي عقل يفكر أولئك المجانين؟ إنه يعرف صدور الفلاحين.. لو باع الأرض لما زوجت ابنتها لابنه مطلقاً، بل لما سمحت لنفسها أن تستقبله في دارها.. وساءه أن تصل علاقته بالسيدة زينب إلى هذا الحد… ولكنه عاد يفكر بالمبلغ المعروض.. من يدري.. فقد يستطيع أن يكسب رضى السيدة زينب برزمة صغيرة منه!
آوى إلى فراشه ذلك المساء مبكراً ولكنه صحا بعد قليل على وقع خطوات ثقيلة تحت شرفة غرفته الخشبية، وكاد أن يحسب هذا الصوت وهماً من أوهام النائم.. ولكنه سمع، بوضوح، هتاف رجل من تحت الشرفة:
־ يا سيد علي..
وقبل أن يصل إلى باب الشرفة ويفتحه، كان الهاتف قد صاح بصوت ثابت:
־ إذا بعت الأرض فسوف يقتلك الفلاحون!
ولم يستطع السيد علي أن يميز عندما وصل لحافة الشرفة، غير شبح باهت يختفي في زرع الحقل.. فعاد إلى سريره مستشعراً خطورة غامضة..
عرف يومها السيد علي أن شقياً من أشقياء الفلاحين يريد أن يلعب لعبة تدر عليه مكسباً، أو – هكذا فكر السيد علي أيضاً – ربما كان عضواً في واحدة من تلك اللجان التي تشكلت لمراقبة باعة الأراضي لليهود.. على أي حال.. سوف يكون معه دفعة من المال تسكت أي لسان متحمس..
ثم باع الأرض.. وباعها لليهودي بالذات الذي أضاف نصف المبلغ إلى المبلغ المعروض.. وفاز بالصفقة، ولكن القلق ما لبث أن عاوده وهو في طريق عودته إلى الدار.. إذ سمع صوت السيدة زينب بلهجته الغريبة، يهتف به إذ مر من جانب بيتها:
– سمعنا أنك بعت الأرض..
أجاب السيد علي مرتجفاً بعض الشيء:
– نعم بعتها.. أريد أن أعود لبلدي.. أنت تعلمين أنني لست من هنا.. لقد أصبحت عجوزاً.. ها.. أليس كذلك؟.
ولكن وجه السيدة زينب لم يتحرك، وسمعها تقول ببرود غريب:
– مبروك!.
واستدارت السيدة زينب عائدة إلى بيتها.. وبقي السيد علي واقفاً يحس رعباً شديداً.. فلقد خاف أن يكون ضحية جديدة للمتحمسين الذين لا يسمحون للإنسان بأن يفتش عن طريقة للكسب، ولكنه سرعان ما طرد الفكرة، فلقد استطاع مسبقاً أن يكسب رضى جميع فلاحيه بالمبلغ الذي وعد أن يعطيه لكل واحد منهم.. ثم أنه لن يبقى طويلاً في تلك الأرض الملعونة، التي تخطف القرش من قبضة الرجل المطبق عليه بإحكام شديد.
في ذلك المساء، سمع السيد علي بوضوح صوت خطوات ثقيلة تحت الشرفة، وقبل أن يتحرك من سريره سمع الهاتف نفسه يصيح بهدوء:
– يا سيد علي..
وضحك السيد علي بينه وبين نفسه، وقال إن ذلك المتحمس يرغب في وضع اتفاقية صغيرة.. وفي اللحظة التي فتح فيها الباب دوت أربع طلقات نارية، وخيل إليه أنه يسمع ثرثرة تحت شرفته وجلبة مبهمة، وأحس بالدم الحار يسيل على عنقه.. وحاول أن يتمسك بالباب ولكنه أخطأه وسقط..
إلا إن السيد علي لم يمت.. بل استطاع بعد أسبوع واحد أن يزور السيدة زينب، كانت تجلس أمام بابها تحوك ثوباً، ورفعت بصرها إذ سلم بصوته الراجف وقالت هادئة:
– سمعنا عن الحادث..
ثم هزت رأسها كأنها تواسيه. ورآها تنظر إلى الجرح الطويل تشده الضمادات وتخفيه (الحطة) البيضاء، ويمتد من صدغه إلى عنقه، وعادت تحوك ثوبها.
– أتيت كي أعطيكم مبلغاً بسيطاً تعيشون من ورائه إذا ما أخرجكم صاحب الأرض الجديد.
ولم يرتفع رأس السيدة زينب عن الثوب. وأحس السيد علي بأن وجوده غير مرغوب فيه، فترك رزمة النقود على الكرسي العتيق، وحاول أن يراقب وجه السيدة زينب، ولكنها لم تتحرك. وهبت نسمة ريح مفاجئة فتطايرت أوراق النقد.. وعدا الخادم يجمعها ووجه السيدة زينب لم يرتفع عن ثوبها.. كان وجهها صامتاً قاسياً، وخيل إليه يومها أنها توشك أن تنفجر ببكاء مرير.. ولكنه لم يقم من مكانه، واستغرب أن يكون للأرض تلك القيمة التي تجعل وجه الإنسان يتهيكل بالألم واللوعة إن هو أرغم على تركها.. ولكن على أي حال ساءه أن تصل علاقة التوتر بينه وبين السيدة زينب إلى ذلك الحد..
وفجأة.. أحس بالجرح الممتد من صدغه إلى عنقه يؤلمه بعنف غريب.. ووقع بصره على أوراق النقد تلعب بها الريح ويجري وراءها الخادم.. فأحس بخجل لا معنى له.. ورفع يده يتحسس الضمادات فوق الجرح الطويل المحفور في صدغه وعنقه.
لم تطل إقامة السيد علي طويلاً بعد ذلك، إذ عاد إلى بلده فور شفائه.. ولم يعد يسمع شيئاً عن مستأجري أرضه، وها هو ذا الآن يشاهد السيدة زينب في السيارة تجلس هادئة كأنها ما زالت تحوك ثوباً أمام بابها في مرج ابن عامر، صحيح أن بيع الأراضي كان سبباً من أسباب نكبة هؤلاء، ولكنه لم يكن يتصور أن ذلك سوف يحدث لمجرد أنه عقد صفقة موفقة مع يهودي.. ولكن ذلك حدث على أي حال.. ويبدو أن لعنة الأرض سوف تلاحقه.. إلى الأبد.. أحس إحساساً واضحاً هذه المرة أن وجوده في السيارة أيضاً غير مرغوب فيه، وانتظر أن تقف السيارة.. فقام يسير نحو بابها.. وعرف أن السيدة زينب لمحته فتعمد ألا يلتفت.. ولكنه دون أن يشعر، رفع كفه الكبيرة كي يستر الجرح الطويل المحفور في صدغه وعنقه.
…
أحست السيدة زينب عندما شاهدت ظهر السيد علي، وطرف الجرح المحفور في صدغه وعنقه أن عليها أن تجري خلفه، وتدق بأصابعها على كتفه، حتى إذا ما التفت إليها بصقت في وجهه.
ولكنها هدّأت من ثورتها.. وذكّرها مظهر السيد علي بأيام بعيدة.
لقد كان السيد علي إنسانا جيداً في مجمله – هكذا قالت السيدة زينب تحدث نفسها – لولا تعلقه الفظيع بالمال… لقد كان يقول الفلاحون عنه إنه على استعداد لأن يبيع أمه إذا عرض أحدهم مبلغاً جيداً من المال… ولقد طالما سمعوه يقول المثل الوحيد الذي يحفظه: « إذا كنت لا تملك قرشاً فأنت لا تساوي قرشاً». ولقد كان الفلاحون يقتنعون بتلك الحكمة إلى اليوم الذي قال فيه فلاح يدعى «أبو أحمد» يرد على قول السيد علي «لقد وجدوا عشرات الأرطال من الذهب في قبر فرعون.. فكم يساوي فرعون؟» وسرعان ما حفظ الفلاحون كلمة أبي أحمد.. وصارت سلاحاً يشهرونه في وجه السيد علي كلما حاول أن يحاضرهم حكمته حول القرش… على أي حال فلقد كانت معاملة السيد علي للمستأجرين وللضامنين وللمشاركين جيدة في مجملها، بل، لقد طمعت في يوم ما أن تزوج ابنتها ليلى من ابنه أحمد، وفي الحقيقة أنها ما أرسلتها للمدينة إلا لكي تتعلم وتصبح ملائمة لابن السيد علي.
ولكن الأمور تجري على نحو يغاير طموح الناس.. فلقد وصلت رسالة من ابنتها ليلى من مدرستها في حيفا تقول فيها إن السيد علي يفاوض يهودياً على بيع الأرض.. وتطلب من أمها أن تستفسر لها عن الحقيقة.
لقد انزعجت السيدة زينب حتماً من الخبر.. واعتبرته إهانة لأمانيها ولأفكارها عن السيد علي.. وعندما قابلته في اليوم التالي، كانت خائفة بعض الشيء.. فلم تكن تملك إلا أن تكرر قولها له:
– يجب أن لا تبيع الأرض يا سيد علي..
وعندما استدار السيد علي مغضباً، أحست بارتياح غريب، وتنفست الصعداء بعد ذلك الجهد الذي بذلته في سبيل أن تقف موقفها ذاك..
وفي نفس المساء.. وصلت ليلى من حيفا.. وسرها أن تسمع من أمها كيف استطاعت أن تغضب السيد علي، ولكنها أصرت يومها أن يقوم حمدان – أخوها – بتهديد السيد علي بالقتل إن هو حاول بيع الأرض.. وقالت كلاماً كثيراً.. لم تفهمه السيدة زينب ولكنها صدقته عندما رأت رأس زوجها ورأس ولدها ينوسان موافقين على كلام ابنتها.
ولكن الذي حدث – أيضاً – كان شيئاً مغايراً لما رتبته السيدة زينب.. فلقد كان السيد علي عائداً إلى داره في اليوم التالي عندما تيقنت أنه باع الأرض.. ووافق على كلامها مرتجفاً.. وعندها قالت له ببرود شديد: «مبروك»!
كانت تعرف أي رعب دوى في صدره.. ففي كل يوم كانت تقع حادثة من هذا القبيل.. رجل يبيع شيئاً لليهود فيؤدبه الوطنيون بالسوط أو الرصاص.. ورغم أن السيدة زينب كانت تعرف أن السيد علي لا يفهم الفلاحين جيداً، إلا إنه لا يمكن أن يكون غبياً إلى الحد الذي لا يفهم فيه الأرض!
وفي المساء.. حمل حمدان بندقيته العتيقة، وسار مع أبيه ومع أخته صوب دار السيد علي..
لم تكن تعتقد السيدة زينب أن حمدان سوف يقتل السيد علي. كانت تعتقد أنه يريد تهديده فقط، لذلك فلقد فوجئت عندما سمعت أصوات طلقات نارية.. وكان عليها أن تصبر طويلاً قبل أن ترى زوجها يدفع الباب مرتجفاُ، وهو يصيح بصوت مبحوح:
– لقد مات..
وخفق قلبها بخوف رهيب.. ترى أي شيطان دفعها لكي تسأل:
– مَنْ؟.. السيد علي؟..
وأي إله جعل جواب زوجها المبحوح:
– لا.. حمدان!
وأحست بدوار وبصمت مطبق من حولها كأنها لم تسمع كلاماً في حياتها قط.. كأن أذنيها ترفضان سماع شيء على الإطلاق.. وكمن يحلم سمعت صوت زوجها يأتي من خارج دنياها:
– انفجرت الرصاصة الأخيرة فمزقت صدره ووجهه.. لقد مات.. مات..
ولكن السيدة زينب لم تتحرك.. ورأت زوجها كالذي به مس جنون يجمع أدوات الحفر.. حفر قبر ولدها.. ورغم ذلك فلقد بقيت خارج الدنيا.. كأنها مجرد لوحة معلقة على جدار كبير، تنظر دون أن تفهم… ثم رأت جثة حمدان مغطاة بطبقة جافة من الدم.. وفوق رأسه ليلى تنوح بصمت راجف.. ولكنها لم تتحرك. ورأت الجثة تحمل على كتف زوجها إلى خارج الدار، وعندما عاد زوجها وفي عيونه دموع رجل لم يبك قط، فقط عندما عاد زوجها مغبراً من تراب القبر الجديد.. فقط عند هذا، وقعت على الأرض… كأن يداً جبارة قطعت خيط اللوحة المعلقة على الجدار الكبير.. فسقطت.
ولكن السيد علي لم يمت.. وقدر لها أن تراه، مرة أخرى يعطيها مبلغاً كي تعيش به إذا ما غادرت الأرض.. وتصورت لحظتذاك أنه إنما يعطيها ثمن ابنها.. وهمت أن تبكي ولكنها خافت أن يكشف أمرها.. ولأول مرة عرفت كم هي قاسية ومؤلمة اللحظة التي يريد أن يبكي فيها الإنسان، رغم ذلك، فهو لا يستطيع.. لقد شاهدت النقود تطير بفعل الريح.. ولكنها لم تتحرك.. وبدت لها بوضوح حقارة المثل الذي يقول «من لا يملك قرشاً لا يساوي قرشاً»، وودت لو ينهض السيد علي كي تنفجر ببكاء مر طويل.. ولكن السيد علي لم يتحرك.. وتجلدت طويلا.. إلى اللحظة التي غادر فيها السيد علي متكئاً على ذراع خادمه..
…
وها هي ذي تراه من جديد يهبط السيارة بجرح طويل محفور في صدغه وعنقه.. ليست تدري لماذا لم تبرح ذهنها صورة السيد علي وهو يحاول أن يخفي الجرح الطويل المحفور في صدغه وعنقه.. واعتقدت، وهي جالسة تفكر، أن السيد علي يخجل من هذا الجرح، وأنه يراوده شعور بالخزي كلما وقف أمام المرآة كي يحلق ذقنه، إلى حد يود فيه لو يبصق على صورة وجهه المطبوعة في المرآة.
ولأول مرة، مذ غادرت أرضها، أحست بشيء من الراحة لأن السيد علي لم يمت.. وأنه ما زال حياً، يحدق كل صباح بالجرح الطويل المحفور في صدغه وعنقه، ويتذكر الأرض التي باعها..
وقالت في ذات نفسها وهي تنظر إلى الطريق:
– سوف يتيسر للسيد علي أن يرانا نعود إلى الأرض التي باعها.. سوف يشعر يومها – وهو يحدق بالجرح الطويل المحفور في صدغه وعنقه – أن هنالك شيئاً أقسى من الموت..
أقسى بكثير..
الكويت ־ 1958
تُنشر بالاتفاق مع السيدة آني كنفاني ومنشورات الرمال للنشر.
كتب كنفاني متوفّرة على موقع الدار: www.rimalbooks.com