“كأنك أمام خرائط الألم، المتجددة كنص، كرواية ما زالت تبحث عن فكاك من سطوة الموت اليومي.. كأنك أمام مرايا الوجود العبثي في مهب الصراخ وجرائم القتل التي استحوذت على جميع الألوان وجميع الكنايات التي من شأنها أن تدلك على ملامحك.. كأنك أمام مفردات الكبرياء الصاخب، البارزة من جدران الصمت في تنافر موجع، لا تستجدي شفقة أو حزن بقدر ما تعيد بناء الوقت من صلصال خفي لحياة بين تكوينات التشكيل الفني. تلك هي بعض الرسائل التي يمكن قراءتها في معرض “ربطة شعر” للفنانة التشكيلية والنحاتة رندا مداح، ابنة الجولان السوري المحتل، القادمة من مجدل شمس إلى رام الله، كي تطل بصلصال الحياة المعمد بالألم والأمل وبلاغة البقاء”. بهذه الكلمات قدّم وزير الثقافة الفلسطيني الشاعر إيهاب بسيسو معرض “مداح”، الذي احتضنه “جاليري وَن” في مدينة رام الله، من 3 إلى 29 أيلول/ سبتمبر المنصرم، والذي ضمّ أكثر من خمسين عملًا نحتياً موزّعاً، تقنيًا، ما بين البرونز والجصّ والخزف الملوّن، وهو امتداد لتجربتها الخاصّة والممتدّة لأكثر من عشرة أعوام.
المجدلانية رندا مداح (1983)، التي وصف أعمالها الكاتب البريطاني الشهير “جون بيرجر” بأنها “ساحرة”، وقال عنها الشاعر السوري الكردي جولان حاجي بأنها “تظهر لنا ما لا نراه… من نار لا تُرى إلى نيران تجوب العالم حولنا، يلفح اللهب الجميع ويساوي بينهم أمام الرعب، فيسفع ملامحهم ويصهر أشلاءهم ليوحّدهم الذوبان، أو يفرّقهم ويشتّت بالتهديد شملهم. هذه خصوبة الموت وتوالد النهايات من بعضها البعض”، حلت ضيفة على مجلّة رمان إثر انتهاء معرضها في رام الله، فكان هذا الحوار.
تقولين أن “حكايتي هي تمرير للذاكرة عن إرث موحش لم يدركه النسيان بعد”، وهنا أسألك عن ماهيّة مشروعك الفني الذي ترسمين ملامحه في هذه “اللحظة الملتهبة” من تاريخنا العربي المعاصر؟
في عام ٢٠٠٦ عدت من دمشق بعد أن أنهيت دراستي في كلية الفنون الجميلة وتخرجت من قسم النحت. (بالنسبة لطلاب الجولان، من غير المسموح لهم بالبقاء في سورية بعد انتهاء الدراسة وذلك حسب اتفاق بين السلطات السورية وسلطة الاحتلال عقب اتفاق مدريد الذي يقضي بالسماح لطلاب الجولان المحتل بالدراسة في جامعة دمشق ومن ثم العودة نهائياً إلى الجولان). بدأت تجربتي تأخذ اتجاهها منذ عبرت الحدود عائدة إلى الجولان للمرة الأخيرة. يومها أصبحت الذاكرة عبئاً لا يحتمل. هذا الفصل القسري جعلني أبحث في معنى الحدود والجدران والحواجز وانعكاسها على حياة البشر وصيرورة تفاصيلهم اليومية وكيف يصبح الجدار في وقت ما جزءاً طبيعياً من الذات البشرية. أدركت حينها أنه عليّ أن أستبق طبيعة التأقلم وأن أسجل هذا العبء. كانت هذه هي البداية، ثم تتالت الأحداث في فلسطين التي عشت وعملت بها وتابعت تسجيلي اليومي لبناء الجدار والحرب على غزة، ثم بدأت الثورة في سورية.. أستطيع القول أن ذاكرتي البصرية عن سورية لم تعد موجودة بمعظمها بسبب تشوه الصورة بفعل الدمار والحواجز والقتل.. مرة أُخرى أستبق التأقلم وأحاول التسجيل.
ما الذي سعيت لقوله في مجمل أعمالك (مخلوقاتك) في معرضك هذا، الذي تقدمين فيه أكثر من خمسين عملًا نحتيًا موزّعًا، تقنيًا، ما بين البرونز والجصّ والخزف الملوّن؟
حاولت من خلال هذا المعرض عرض واقعي الشخصي وعلاقتي مع الأماكن التي نشأت وكبرت فيها، كما حاولت عرض حال الإنسان في ظل كل هذا التشوه والعنف الذي نعيش. وحالة التأرجح بين الأمل بمستقبل أفضل وكل ما يشد هذا الأمل نحو القاع. حاولت أيضاً تلخيص العنف الممارس على الجسد من ذات الجسد من خلال مفردات مثل الشعر. أسميت هذا المعرض “ربطة شعر”.
يلاحظ هنا تغير طبيعة أعمالك من الرسم بقلم الرصاص على الورق أو رسم الاسكتشات إلى النحت متأثرة بالواقع الذي تعيشينه وما يشهده بلدك سورية.. هنا أسألك: إلى أي حدّ برأيك ينحاز الفنان للواقع، وما هي اللحظة التي يشعر فيها أنه على وشك الانفجار الداخلي، والتمرّد على هذا الواقع بإطلاق العنان لخياله الفني وإعادة -بالتالي- إنتاج العالَم من جديد؟
للمفهوم والفكرة في العمل الفني دور كبير في تحديد مادة المُنْتَج النهائي، المادة هي جزء أساسي للتأكيد على الفكرة التي يريد أي فنان تقديمها، وعلى هذا الأساس يقوم الفنان باختيار مواده. في معرضي الذي أقمته العام الماضي استعملت مادة الرصاص على الورق، كما أني أسميت المجموعة أيضاً “رصاص على ورق”. أسعفتني حينها مادة الرصاص لنقل يومياتي التي كانت تميل إلى الأسئلة وأجوبتها القابلة للتغير والمحي. واقع يتغير وينكسر كل يوم إلى شظايا إضافية تترك أثرها بسؤال عن الجدوى والمعنى. أما النحت فحاولت التعبير من خلاله عن واقعٍ أكثر نفورًا وأشد عنفًا. إنه من الطبيعي حسب رأيي أن يتأثر الفنان بإشكاليات المحيط الذي يعيشه وبالتالي أن يقوم بتحليلها وطرحها من جديد على شكل أسئلة أو بمحاولة للبحث عن حلول. بالنسبة لي هي ليست محاولة لـ “إنتاج العالم من جديد” بقدر ما هي تحليل للتراكمات الذهنية والبصرية التي تتركها فوضى هذا العالم والتي يُعاد طرحها من جديد بأشكال ورؤى متعددة بواسطة خيال الفنان.
صورة الطفل الحلبي “عمران” ومن قبلها صورة الطفل “إيلان” الغريق بحذائه وملابسه على شواطئ السواحل التركية، وغيرهما من صور أطفال المأساة السورية، كفنانة كيف تتعاطين معها؟
حسب رأيي، منذ مشاهد الدم الأولى في سورية أصبح العمل الفني هزيلاً وأحياناً دون معنى. لا أعتقد أن العمل الفني اليوم قابل للصمود والتعبير أمام واقع عنف الصورة المباشرة. عندما أتلقى مثل هذه الصور، أتفاعل معها بمعزلٍ عن الفن. أما الفن فيأتي لاحقًا ليفسح لي المجال لترميم أثر الصورة المباشر، لتفكيكها وتحليلها ثم إعادة بنائها بطريقه قد يستوعبها العقل.
وأنت تتعاملين مع النحت هل تعانين، هل تكونين قلقة، هل تكونين سعيدة؟ حدثينا عن تلك اللحظة.
بالنسبة لي مرحلة القلق تكون قبل البدء باستخدام المادة، تحديداً عند البحث في عناصر العمل وشكله. أما عند الإنتاج فلا أفكر كثيراً، أترك مجالًا للتفاعل مع المادة ذاتها وما يمكن أن تضيفه من احتمالات إلى العمل. لا أستطيع القول أني أشعر بالسعادة خلال العمل، تحديداً بالمضمون الذي أعمل عليه. هو شعورٌ بالراحة أكثر، وربما بالرضى لامتلاك أدوات تساعد على تحليل هذا الواقع وربما إيجاد بعض الحلول.
هل لديك اشتغالات إبداعية أخرى غير الرسم والنحت؟ وهل أضاف لك الزواج من شاعر (ياسر خنجر) شيئاً لمشروعك وتجربتك الفنية؟
لدي رغبة دائمة بالتعرف إلى مواد جديدة، التوسع في هذه المعرفة يمنح احتمالات وإمكانيات للمزج فيما بينها، كما يفتح العديد من الأبواب للتعبير من دون أن يكون إتقان التعامل مع الأداة حاجزًا. قمت بعدة محاولات في مجال الفيديو ونشرت عملاً واحداً عام ٢٠١٢ هو “أفق خفيف”. كانت لدي أيضاً تجربة مع الحفر.. مجال ساحر أنوي أن أكمل دراستي فيه.
أما بالنسبة للشعر، بكل تأكيد فإن حضور ياسر وشعره هو إضافة، ومدخل آخر للتعامل مع مشروعي وذلك من خلال فتح الباب للمزج بين أشكال مختلفة من الفن.
هذه ليست المرة الأولى التي تقيمين فيها معرضًا فنيًا في فلسطين المحتلة، ما الذي يعنيه لك ذلك أنت القادمة من مجدل شمس؟
لطالما كان هنالك ارتباط بين الجولان وفلسطين بفعل التجربة والواقع الذي فرضه الاحتلال، وانقطاعنا عن التواصل الطبيعي مع وطننا الأم وجد ترجمة بديلة من خلال النافذة الفلسطينية. كنا وما زلنا بحاجة إلى عمق وطني وثقافي يساعدنا في الحفاظ على هويتنا ويكون متنفسًا لنا. فلسطين التي تشبهنا في تجربة رفض الاحتلال كانت بديلاً حيوياً عن محاولات إسرائيل في جرّنا إلى حضنها وفي الوقت نفسه بديلًا عن غياب دور الدولة السورية ومؤسساتها في رعاية أمورنا. كان عرض أعمالي في فلسطين تحدياً يماثل أن أعرض أعمالي اليوم في حلب، وتعبيراً عن انتصاري للضحايا والمظلومين في مواجهة الظلم.
تعيشين في الجولان السوري المحتل، فكيف تتعاطين فنيا مع واقع الاحتلال الإسرائيلي؟ وما هي الرسالة الفنية التي توجهينها لهذا الاحتلال صاحب العقلية التدميرية الساعية لمحو هوية البلاد وبناء ملامح جديدة للمكان؟
تفاصيل المكان هنا (الجولان السوري المحتل) بُنيت على واقع الاحتلال. تعلمت من الأجيال الأكبر كيف علينا إيجاد بدائل نحافظ من خلالها قدر المستطاع على امتدادنا ولغتنا وثقافتنا. تم إنشاء العديد من المراكز منها السياسية والصحية والفنية والثقافية على أساس دعم ومشاركة شعبية، كان منها مركز “فاتح المدرس للفنون والثقافة”، الذي كنت واحدة من أعضائه، وكان هدفه الأساسي أن يُعنى بشؤون الفن التشكيلي والموسيقا والثقافة عامةً، فقد عمل المركز وفق رؤيا شمولية لمعنى ودلالة الثقافة الحرة والمنفتحة، وعلى ربط الحركة الفنية والثقافية في الجولان المحتل بالحركة الثقافية داخل الوطن الأم سورية والوطن العربي والعالم عامة. في واقع آخر للاحتلال هنالك أثر على الجغرافيا وشكل العمران الذي تغير بسبب عدم منح سلطات الاحتلال مساحات إضافية للبناء. في عام ٢٠٠٩ قمت بإنتاج مشروع أسميته “مساحة” وهو يحاكي هذه الإشكالية.
“تواصلت مع هويتي السورية حين درست الفنون في دمشق، هذا المكان هو مكاني وانفصلت عنه قسرًا بفعل احتلال الجولان”. حدثيني عن علاقتك بالمكان الذي نشأت فيه، وعن علاقتك بدمشق بشكل خاص، وعما تبقى في الذاكرة من سحر المكان؟
ولدت بعد قرار “ضم” الجولان إلى إسرائيل بعامين، عام ٨٣. بعدها بعدة سنوات بدأت ذاكرتي باختزان الأحداث التي مرت على سكان الجولان بعد قرار “الضم”. أذكر المواجهات الدائمة مع سلطة الاحتلال والمظاهرات وحظر التجول والاعتقالات والمداهمات الليلية. ولكن جميع هذه المظاهر لم تعنِ الكثير في ذهن طفل ولد في ظل ظروف مشابهة. كان هنالك تذكير دائم من والديَّ أنني سورية وأننا ننتمي إلى مكان آخر وأن وجودنا تحت الاحتلال مؤقت. معظم العائلات في الجولان مفصولة على طرفي الشريط منذ قرار الضم وعائلتي أيضاً، فكانت لي عائلة هنا وعائلة هناك. بنيت في مخيلتي شكل سورية وشكل الحياة والنَّاس هناك من خلال قصصٍ تحمل الكثير من الحب والعاطفة والشوق. بعد إنهائي للدراسة الثانوية في الجولان قررت إكمال دراستي في دمشق، فكانت سورية هي الاكتشاف الأجمل. فهمت حينها كيف نشبه الأرض والشجر، وحزنت على ذاكرة أهلي المقطوعة والتي ستصير ذاكرتي مقطوعة مثلها أيضاً، غير أنّي دائماً كنت أحاول الترميم. من دمشق بقيت الروح كلها، خسرتها شكلا فقط.
الصور جميعها من المعرض