صدرت مؤخراً عن دار الآداب للنشر في بيروت رواية «تفصيل ثانوي» للفلسطينية عدنيّة شبلي، وذلك بعد روايتان هما «مساس» (٢٠٠٢) و«كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب» (٢٠٠٤)، وكتاب في الفنون هو «حراك» (٢٠١٢). التقينا في رمّان بعدنيّة وكان هذا الحديث السّريع عن الرواية الجديدة، متبوعاً بمقتطف من الرواية خصّته الروائية للمجلة:
لمَ التوقّف عشر سنوات عن إصدار رواية قبل أن تَصدر روايتك الأخيرة “تفصيل ثانوي”؟
هي بالأحرى ١٢ عام، لم أتوقف فيها عن أي شيء، ما عدا ربما عن إضاعة الوقت. حين أفكر بالتاريخ، ٢٠٠٤، أكتشف أن هذه السنة التي تحول فيها مركز حياتي إلى بلد غير فلسطين. في هذه السنوات وحتى الآن، جرت الكتابة بكثافة شديدة، لكن في عدة مجالات وبعدة أشكال. الحدث الوحيد المتواصل خلالها بالنسبة لي، هو العمل على الرواية. هل كانت بمثابة أنيسي؟ ولكن لم يكن من الممكن إصدارها قبل هذا العام، كما لو أنها احتاجت كل هذا الوقت لتصير على ما هي عليه الآن. كنت أكتب وأتوقف قليلا، فهذه هي عادة في الكتابة، كما لو أن فعل الكتابة يثير الكثير من الغبار، واحتاجني التوقف قليلا لتخف موجات الغبار حتى أتمكن من معرفة إن كان ما هو مكتوب بحاجة لأن يُكتب أم لا، وهو تساؤل يطال الكلمات بدءا بصدقها وحتى إيقاعها.
كذلك رافق الرواية بحث كبير عن الكلمات التي تفتح أزقة حسية وفكرية جديدة بالنسبة لي. كنت أعمل مع عدة قواميس طيلة فترة الكتابة، ولسان العرب كان رفيقي المخلص، وأنتهز الفرصة لتوجيه شكري العميق إلى الإمام العلّامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن المنظور المصري الأفريقي
الرواية عن جريمة، مروية من وجهة نظر المتسبب بها، وكذلك من وجهة نظر ضحيتها، ما هي الجريمة هنا، أو الحكاية باختصار وشخصياتها.
الرواية هي نفسها باختصار، لذا من الأفضل الرجوع إليها لمعرفة تفاصيل الجريمة. بالنسبة للشخصيات المركزية، هنالك شخصيتان، تقوداننا في جزأي الرواية، شخصية ضابط يخيم مع كتيبته في نقب فلسطين في صيف العام ١٩٤٩، وحدث خلال ذلك جريمة، يكون خلفها بشكل تدريجي. الشخصية الثانية هي لموظفة فلسطينية تنطلق لجمع تفاصيل تقودها إلى كشف الجريمة من وجهة نظر الضحية. هاتان الشخصيات كما هو واضح، النقيض التام، أحدهما للآخر، لكن ما تحاول الرواية بوضعها الواحد بجانب الآخر، هو تأمل الحيز الواقع بين هذين النقيضين، وهو حيز نواجهه كأفراد يومياً، يتعلق بخيارات غير واعية أحيانا، لكنها تقودنا إلى مواقع تفصح عن جوهرنا بشكل ما كنا لنتكهنه. هذا هو تساؤل الرواية عمليا، والدافع خلف كاتابتها.
من أين أتتك فكرة الرواية؟
أتت فكرة الرواية من التشويه الإنساني في فلسطين، للمحتل والمضطهِد الاسرائيلي، وللمحتل والمضطهَد الفلسطيني على حد سواء.
هل هي رواية في أدب الجريمة (أو النْوار)؟
ربما هي رواية في أدب الجريمة الفاشل، وبالتالي قد تكون أقرب إلى النوار، لكن ليس بالنمط التقليدي لأي من هذين النوعين الأدبيين.
قد يجد البعض غرابةً ما في أن يحوي الأدب الفلسطيني، بموضوعاته الأساسية، موضوعاً عن الجريمة، هل توافقين؟
بالعكس، من أكثر الكلمات التي نسمعها في السياق الفلسطيني، هي جريمة كذا وجريمة كذا، من جريمة حرب إسرائيلية، وحتى جريمة اختلاس أو فساد في السلطة الفلسطينية، يمتد بينها جرائم منظمة، وقتل للنساء، وسرقة سيارات وحتى سرقة المياه والكهرباء. لدينا تنوع هائل بالنسبة للجرائم في فلسطين فعلاً. لماذا لا يحوي الأدب الفلسطيني تأمل هذه الجرائم؟ وإن تواجدت نصوص تفعل إلى حد ما. وهذا سؤال تطرحه الرواية أيضاً، خاصة وأن الفرد الفلسطيني يحياها بشكل يومي لدرجة أنها أصبحت اعتيادية. ربما كذلك السبب هو التعلق بأمل بسيط، بأنه إن لم نكتب عنها، يبقى هنالك حيز في التشكيك في أنها حدثت حتى يبقى أمل بأن الدنيا بخير، بالتالي هو تشكيك ضروري أحياناً في السياق الفلسطيني، أشبه بالإنكار بأن قسوة الحياة وصلت هذا الحد.
مقتطف من القسم الأول، افتتاحية الرواية:
-١-
لم يكن هنالك ما يتحركّ عدا السراب. مساحات شاسعة جرداء تعاقبت حتى السماء مرتجفة تحت وقعِه بِسُكون، فيما كاد ضوءُ شمس العصر الحاد أنْ يمحوَ الخطوط التي رسمت مرتفعاتها الرملية باهتة الصفرة. كان كل ما يمكن تمييزه من تفاصيل هذه المرتفعات هو حدود واهنة الْتَوَتْ على غير هدى في انحناءات وانعطافات متباينة، تخلّلتها ظلال رفيعة لنبات البِلّان الجاف وللحجارة التي رقّطت التلال. عدا ذلك، لا شيء على الإطلاق، فقط امتداد هائل لصحراء النقب القاحلة، التي جثم فوقها قيظ شهر آب.
الإشارة الوحيدة على وجود حياة ما في المحيط كانت أصوات عواء متباعدة وجلبة الجنود المنهمكين في تجهيز المعسكر، والتي تهادت إلى مسمعه فيما جال بأنظاره عبر الناظور، معايناً المشهد المنبسط أمامه من مَوْضِعِه فوق إحدى التلال. وعلى الرغم مِنْ لَسْعِ الضوء الساطع لبصره، تابع مجرى الدروب الضيقة في الرمال وأخاديدها بتؤدة، متوقِّفاً بين كل حين وآخر عند إحداها، مديماً النظر فيها لبرهة أطول. أخيرًا أزاح الناظور عن عينيه، مسح العرق عنه، وضعه في الحقيبة المخصّصة له، ثم شقّ طريقه داخل هواء العصر القوي المشدود، عائداً باتجاه المعسكر.
حين وصولوا هنا، عثروا على سقيفتين وبقايا جدار سقيفة نصف مهدم، هي كل ما نجا من المكان بعد القصف العنيف الذي تعرّض إليه في بداية الحرب. لكن الآن، بجانب هاتين السقيفتين، انتصبت خيمةُ القيادة والخيمة الرئيسية، بينما صوتُ دق الأوتاد والقضبان من أجل نصب الخيم الثلاث التي سيأهلها الجنود، كان يملأ الفضاءَ. وقد أبلغه نائبه رئيس العرفاء، الذي بادر للقائه لدى عودته، بأنهم أزالوا جميع الركام والحجارة من المنطقة، وحالياً مجموعة من الجنود تعمل على ترميم الخنادق. عقّب هو أن عليهم إتمام كافة التجهيزات قبل حلول الظلام، ثم طلب منه إبلاغ رقباء الفرق وبعض العرفاء والجنود الأَقدم في الفصيلة، بالحضور لاجتماع جانبي في خيمة القيادة في الحال.
***
ملأ ضوء شمس العصر فتحة الخيمة، ممتدّاً عبرها إلى داخلها لينبسط فوق الرمل، مبيِّناً النتوءات الصغيرة العديدة التي شكّلتها أقدام الجنود على سطحه. افتتح هو الحديث شارحاً بأن مهمّتهم الرئيسية أثناء تواجدهم هنا، ستكون، بالإضافة إلى ترسيم الحدود الجنوبية مع مصر ومنع المتسللين من اختراقها، تمشيط القسم الجنوب-غربي من النقب وتنظيفه من بقايا العرب، فهنالك معلومات من مصادر عسكرية جوية تفيد بوجود تحركات لهم ولبعض المتسللين داخله، كما إنهم سيقومون بجولات استطلاعية يومية لاستكشاف المنطقة والتعرّف عليها عن كثب. وقد ستستغرقهم كل هذه العملية بعض الوقت، إلا أنّهم سيبقون مرابطين هنا إلى أن يستَتِبّ الأمن بالكامل في هذا الجزء من النقب. كذلك، سيُجْرون تمرينات يومية ومناورات عسكرية مع بقية الجنود للتدرّب على سبل القتال في ظروف صحراوية كهذه والتأقلم معها.
استمع الحضور إليه متتبِّعين حركة يديه فوق الخريطة المنبسطة أمامهم، والتي بدا موقع المعسكر فوقها نقطة سوداء صغيرة بالكاد يمكن تمييزها داخل مثلث رمادي كبير. وإذ لم يعلِّق أي منهم على ما قيل، ساد السكونُ الخيمةَ لحظات، حوّل هو خلالها نظره من الخريطة إلى وجوههم الواجمة التي تصبَّب العرق منها وراحت تتلألأ بِفِعْل الضوء القادم عبر فتحة الخيمة. عاد يكمل حديثه منبِّهاً إياهم إلى أنه عليهم التشديد على الجنود، وبخاصة مِمَن انضموا حديثاً إلى الفصيلة، العناية بعتادهم وبزيّهم العسكري، وفي حال نقص أحدهم أي معدات أو ملابس عليهم إبلاغه مباشرة. كذلك عليهم تذكيرهم بضرورة الحفاظ على نظافتهم الشخصيّة وحلاقة ذقونهم يومياً. ثم، قبل أن يفكَّ الاجتماع، طلب من السائق وأحد الرقباء وعريفين ممّن كانوا حاضرين، بأن يجهِّزوا أنفسهم للخروج معه بعد قليل في جولة استطلاعية أوليّة في المنطقة.