إذا ما اعتراني اشتياقٌ لِدارِ أبي في الجليلِ
أتيتُ لأنثرَ بَوحي هُنا
وَإمّا يَفيضُ بِقلبي لأمّي لَهيبٌ
أجيءُ لأطفِأهُ هاهُنا
وَإن ضاقَ سِجني عليَّ
هَرعتُ لأبكي لميسي هُنا
هُنا في غلِنكو
عَلى ضِفَّةِ النَهرِ بينَ بَراري انتِظاري
أرى قَمراً شاحباً خَجِلاً مِن دموعِ الثّكالى
تُمَشِّطُ خُطواتُ وَجدي ظِلالَ فتاةٍ تَهيمُ على صَوتِها المُختَنِقْ
تُلاحِقُ آثارَ أقدامِ طِفلٍ تَخَطَّتهُ سِكّينَةُ القاتِلينَ
وَيَسمعُ قَلبيَ أصداءَ مِزمارِها، قِربَةٌ
راوَغَت طَعنَةً من وحوش الظلامِ وَطارَتْ
لم يَزل لَحنُها مِلءَ هذا الفضاءِ يُغَنّي
أرى في مَرايا البُحيراتِ
وَجهي الذي صادَرتهُ الطواغيتُ
أعرِفُ هذي الجبالَ
وَأحفظُ عن ظَهرِ غَيبٍ تَجاعيدَها الحانياتِ
الصخورَ، الزهورَ، القبورَ،
الثلوجَ، المروجَ، الكهوفَ، الجداولَ
صَمتَ عَويلِ الرياحِ، أنينَ الغيومِ
وَأسطورةَ الوحشةِ الموجِعة
سُيولَ المياهِ نُزولاً، سُيولَ الدموعِ طُلوعاً
حَملتُ تَفاصيلها الخافياتِ هوىً في ضلوعي
وَجِئتُ بِها من بِلادي
وَثَبَّتُها هاهُنا
هُنا قاسيونُ، وَذلكَ كَرمِلُ حيفا
فُؤادي الممزّقُ بَينَ الهِضابِ
وَها جَبَلُ الشيخِ في وَطني المستباحِ
يُعانِقُ جيدَ السماء، وَيهبِطُ نَشوانَ بِالمعجزاتِ
يُراقِصُ غُزلانَ روحي تَراكضُ حُريّةً فَوقَ هذي الرَوابي
هُنا بينَ رانوخ مور وغلِنكو
طَليقاً مِن الخوفِ، حُرّاً
أهَجّي انحناءاتِهِ وَقِمّتَهُ العالية
تجاويفَ وِديانِهِ وَعُزلتَهُ الطاغية
شُموخَ النسورِ، وَعِزَّةَ نَفسِ الصقورِ
عَواصِف ثَلجِ الصباحِ الكئيبِ
وأسرارَ عِطر الصنوبرِ والآسِ حينَ يَفوحُ
وَزَهرَ الخَلَنجِ المفتِّحِ في جِسمِيَ المُتَّكي فَوقَ جُرحي القديمِ
خُلودَ شَتاتيِ، وَإسمي المُضَيَّعَ في شَجرةِ العائلة
رَوائحَ عُشبٍ تألّه في جوفِ صدري
وَآهاتِ جَدّاتِيَ الغابِراتِ
صُعوداً صُعوداً
كأني أشمُّ دماءَ الذين قضوا في المجازرِ
أهلي السبايا هُناكَ، وَأهلي الضحايا هُنا
فَيا كَفرَ قاسِم نادي شاتيلا
ويا ديرَ ياسينَ هلّا مَسحتِ دموعي بِصبرا
وَيا تلّ زعتريَ المُستَعادَ بِيرموكِ قَلبي
وَيا آل ماكدونالد
وَيا أمّهاتُ، وَيا شُهداءُ، وَيا سُجَناءُ
وَيا أيّها اللائذون مِنَ الموتِ بالموتِ
يا كلّ طِفلٍ ذَبيحٍ على أرضِ سوريّتي
بَعضُ مِنكم أنا، ها نَصبتُ شِغافي لَكمْ خَيمةً وِسعَ هذا المدى
فَاحتَموا بي
هُنا تَنهضُ الأغنياتُ
تَمُدُّ نَوافيرَها نَحوَ سابِعِ كَونٍ
وَتُشرِقُ طَلّاً
وَنِجماتِ صُبحٍ بَهيٍّ
يَليقُ بِضحكاتِنا الناجِيَاتِ
صُعوداً صُعوداً
تَصاعَدُ في داخلي الأغنية:
(كم كانت قاسيةً تلك الثلوجُ التي تجتاح غلِنكو
وتغطّي القبر يا دونالد
كم كان قاسياً ذلك العدوّ الذي اغتصبَ غلِنكو
وَقتل بإجرامٍ آل ماكدونالد)*
نُزولاً نُزولاً
تَصاعَدُ في داخلي الأغنية:
(يـا زريفَ الـطّـول وَقِّـف تا قُلَّكْ
رايِح عالغـربِة وِبلادك احسَـنلكْ
خايِـف يا مَحبوب تـروح وتِتمَلّكْ
وِتعاشِـر الغيـر وتِنسـانـي أنـا).
*مقطع من أغنية سكوتلنديّة شهيرة عن مجزرة غلِنكو التي حصلت عام 1692
“من اليرموك إلى غلِنكو”
قصيدة شاركتُ بها في أنطولوجيا شعريّة عن مناطق وشخصيّات نقيضة في سكوتلندا، وغلِنكو (وادي كو) هي منطقة جبليّة وعِرة جدّاً في الهايلاندز في سكوتلندا، ويشعر زائرها برهبة شديدة من قسوة الطبيعة فيها.
في عام 1692 حصلت في هذه المنطقة مجزرة ذهب ضحيّتها 38 شخصاً من الرجال والنساء والأطفال من قبيلة ماكدونالد الإسكوتلنديّة التي لم تعطِ الولاء وقتها للعرش الإنكليزي، الضحايا قُتلوا غدراً بينما كانوا نائمين من قبل فصيلة من الجيش استقبلوها واستضافوها في بيوتهم بغرض التفاوض، وتعرف المجزرة بإسم (Glencoe massacre)
زرتُ هذه المنطقة ثلاث مرّات في السنوات الماضية، وفي كلّ مرّة كنت أشعر وكأنّي أعرفها من قبل، في قصيدتي التي كتبتها بالعربيّة، والتي ترجمتها إلى الإنكليزيّة، سافرت مكانيّاً وزمانيّا بين غلِنكو وبين جبال الكرمل والشيخ وقاسيون، واستذكرتُ مجازر دير ياسين وكفر قاسم وتلّ الزعتر وصبرا وشاتيلا واليرموك وسوريّا كلّها في مجزرتها
رابط القصيدة على الموقع الإسكوتلندي