لا يستطيع أي كاتب أو ناقد أو صحافي الإحاطة بما قدمه الراحل الدكتور صادق جلال العظم للثقافة العربية والسورية من خلال عين نقدية، فمن أطروحته في”نقد الفكر الديني” إلى العديد من القراءات النقدية التي قدمها للقارئ والمتابع والناقد العربي، وصولاً إلى قراءاته النقدية للنقد الذي وجه إلى رواية سلمان رشدي «آيات شيطانية»، لهذه القراءات وغيرها، ولتدريسه لنا في المعهد العالي للفنون المسرحية أكثر من حكاية ثقافية، وفلسفية، ونقدية.
في أوائل العقد الأخير من القرن الفائت عدت إلى مقاعد الدراسة من بوابة المعهد العالي للفنون المسرحية – قسم الآداب والدراسات المسرحية، وفي العام الدراسي الأول حظيت دفعتنا بعناية فائقة إذ درّسنا صادق جلال العظم مادة “تاريخ فكر”، وقبل أن يتعمق معنا في دراسة الفلسفة، بدأنا بتجربة أخرى بعيدة نسبيا عن الفلسفة.
آيات شيطانية… وذهنية التحريم
في تلك الفترة كان نجم النجوم الكاتب سليمان رشدي وقضية حمايته بسبب روايته الجديدة التي تتناول حياة النبي محمد، وبإحدى الحصص الدراسية سأل أستاذنا الراحل السؤال التالي: أفتى آية الله الخميني المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية الإيرانية بقتل الروائي الانكليزي المهاجر من الهند سلمان رشدي بسبب كتابة وإصدار روايته المثيرة للجدل «آيات شيطانية»، هل قرأ أحدكم هذه الرواية؟! فأجبنا في الصف بأن الرواية صدرت باللغة الانكليزية، وهي غير مترجمة إلى اللغة العربية، ونادراً من طلابنا في المعهد من يستطيع قراءة الرواية باللغة الأم؟!
رد علينا الدكتور صادق أن هناك ترجمة مقبولة، اطلعت عليها وقارنتها مع الأصل الأنكليزي، وستكون جزءاً من قراءتنا النقدية هذا الفصل، ليشتري كل منكم نسخة ويقرأها…
درسنا الرواية من كافة جوانبها خصيصاً شخصياتها التي تثير الأشكاليات في النقد والصحافة العالمية والعربية، ومن هذه الشخصيات، المحامي حنيف جونسون: المتمكن تماماً من الألسن المهمة جميعاً، لسان العلم الاجتماعي والاشتراكي والراديكالي – الأسود والـ ضد – ضد – ضد – عنصري والديماغوجي والخطابي والوعظي، أي مفردات قاموس السلطة كلها*
من خلال متابعة أستاذنا الدكتور صادق جلال العظم، وجدت أنه كان يتعامل مع الوقائع والحقائق كمعطى معلوماتي، ويعمل على النقاش والجدل معها، ويحاول نقل آلية التفكير والعمل هذه إلينا في المعهد العالي للفنون المسرحية.
جون مسلمة: مسيلمة الكذاب الذي يتبجح قائلاً بلكنة الأوكسفوردية المدوزنة جيداً: لقد أعطيت نفسي حقها ونجحت يا سيدي في الواقع، نجحت نجاحاً استثنائياً بالنسبة لرجل أسمر مثلي. وبحركة صغيرة ولكن بليغة من يده السميكة أشار إلى غلاء ملابسه الفاخرة، البذلة المفصلة حسب الطلب، الساعة الذهبية مع حليتها وسلسلتها، الحذاء الايطالي، ربطة العنق الحريرية المشرئبة، الأزرار المرصعة لكميه الأبيضين المكويين بالنشاء، وفوق زي الميلورد الأنكليزي هذا انتصب رأس ذو حجم مروع… الخ*
بيلي بطوطة: البلاي بوي الباكستاني والنصاب المولع بالنساء البيضاوات من ذوات الأثداء الهائلة والأرداف الممتلئة واللواتي كان يعاملهن معاملة سيئة… ويكافئهن بسخاء*
ويسكي سيرزوديا: المنتِج السينمائي الهندي أكثر الناس فصاحة لسان وزلاقة في الكار. وبعد انتقال ويسكي من منازل المال الجاهز في بومباي إلى شقق في لندن ونيويورك أخذ يحتفظ بجوائز الأوسكار في مراحيضه ويحمل في جزدانه صورة لمنتج كونغ فوي في هونغ كونغ رام رام شو، بطله المفترض، والذي لم يكن قادراً تماماً على لفظ اسمه*
ويستعرض استاذنا الدكتور صادق جلال العظم المقالات والدراسات التي تناولت الرواية دون أن يقرأ كتّابها الرواية ومنهم: الدكتور أحمد بروقاوي، هادي العلوي، الدكتور كاظم موسوي، رجاء النقاش، الدكتور عبد الرحمن ياغي، وتبين أحد النقاد الذين قرأوا رواية «آيات شيطانية» أحمد بهاء الدين، لكنه لم يوظف القراءة بشكل جيد في كتابة نقد بعيد عما كان سائداً في تلك اللحظة الزمانية.
بالإضافة إلى نقاش الرواية والنقد الذي كتبه دكتورنا الراحل العظم وجرى اختباره في حصصنا الدراسية، دعانا إلى ندوة نقاش حول الرواية في المنتدى الثقافي الديمقراطي التابع “للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” في مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية دمشق، وكان الحضور كبيراً جداً لدرجة امتلاء القاعة بالحضور على الكراسي وكان الوقوف فيها أكثر عدداً من الجالسين على الكراسي. من هذه الوقائع حول رواية «آيات شيطانية»، يمكنني الكتابة أن الراحل العظم ناقش الرواية من منظورين علميين:
الأول: ما كتب عن الرواية من قبل النقاد والكتاب والصحفيين بشقين أحدهما قرأ الرواية، والآخر لم يقرأ الرواية واكتفى بما تناقلته وسائل الإعلام عنها.
الثاني: من داخل بنية ومعمار السرد والمعلومات والشخصيات الموجودة في الرواية، والتي عمل عليها الكاتب سلمان رشدي، وبذلك نستطيع تثبيت العلمية في أسلوب نقاش وجدل وحوار رواية «آيات شيطانية»، إذ لم ينضم العظم إلى جوقة المطبلين والمزمرين في مهاجمة ومواجهة كل شخصية هاجمت جوانب من الدين الإسلامي الحنيف، أو شخصية النبي الكريم، وبهذا تتأكد علمية وعلمانية الدكتور صادق جلال العظم، في الكتابة النقدية كما هي في الحياة.
الفلسفة “أفكار ورجال”
أثناء تدريس دكتورنا العظم لمادة تاريخ الفكر قدم لنا من كتاب «قصة الفكر الغربي – أفكار ورجال» من تأليف كرين برنتن، الفصل الثامن: صنع العالم الحديث (أولاً)، الإنسانية، حيث بدأ من مفهوم اصطلاح “النهضة” و”الإصلاح الديني”، واختار السرد الحكائي كما هو موجود في الكتاب في الصفحة (326) يقول: حدث ذات مرة أن توأمين من أصحاب الشعر الأحمر: الأول اسمه “النهضة” والثاني “الإصلاح الديني”، نالهما الاضطهاد ولحقتهما الإساءة، فانقلبا على زوجة أبيهما: الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، وهي أم شريرة برغم ضعفها.
ويضيف أستاذنا على ما ذُكر في الكتاب قائلا: إن كتب التاريخ لم تروِ القصة بمثل هذه البساطة وهذه الطريقة. ولم يكن بوسعها البتة أن تبدأ الموضوع كما تبدأ الحكاية الخرافية. غير أن أكثر الأمريكان – إذا استثنينا الرومان الكاثوليك – ممن درسوا شيئاً من تاريخ أوروبا خرجوا بفكرة أن الحركتين اللتين نطلق عليهما “الإصلاح البروتستانتي” و”النهضة” كانتا متحدتين ما في وحيهما والغرض منهما”.
كانت الحركة الأولى تتجه نحو الحرية الدينية، والثانية نحو الحرية الفنية. وكلتاهما تعملان من أجل الحرية الخلقية، ومن أجل ما أصبح الديمقراطية في القرن التاسع عشر بطبيعة الحال. كلتاهما تهدف إلى”تحرير” الفرد العادي من القيود التي ائتلفت العادة والخرافة لكي تفرضهما عليه في العصور الوسطى.
وحول التجريب في الحياة قص علينا أستاذنا العظم حكاية توماس مور، أحد الباحثين الإنسانيين كاثوليكياً، استشهد على يد هنري الثامن، ولم يكن أحد أولئك الإنسانيين ذوي العقول الخصبة الذين نوليهم اليوم اهتماماً خاصاً. وهؤلاء الإنسانيون ذو العقول الخصبة الذين أكسبوا النهضة ذلك اللون الذي يبدو لنا اليوم جذاباً من بعيد هم هؤلاء المغامرون، المتطلعون إلى المعرفة، المنفعلون في صميمهم، على غير ثقة بأنفسهم وبمكانتهم في العالم. لقد حاولوا جاهدين أن يثقوا بأنفسهم، ولكنهم لم يصيبوا نجاحاً يذكر.
إن الأمر الواضح من حكاية توماس وغيره من الإنسانيين أن قضية التجريب في العلوم التطبيقية يمكن ان تكون جزءاً من العلوم الإنسانية والأدبية التي استعملتها الإنسانوية للوصول إلى العديد من المفاهيم الإنسانية التي أصبحت اليوم جزءاً من الحقوق في الحياة العامة والإنسانية والسياسية على عكس ما كان سائداً في العصور الوسطى في الزمن الأوروبي.
من خلال ما تقدم وما قدمه لنا أستاذنا العظم من آلية تطور الفكر والأفكار الإنسانية والفلسفية عبر رصد تطور المفاهيم الإنسانية والفلسفية في العصور الوسطى وصولاً إلى نهايات القرن العشرين منذ “النهضة” والإصلاح الديني إلى مرحلة فصل الدين عن الدولة في أوروبا، وتطور الديمقراطية الأوروبية عبر منظور العالمية في نظرة كونية جديدة ومتقدمة.
حلقات بحث، وانطباعات
اثناء الفصل الدراسي الأول والثاني طلب الدكتور صادق منا حلقات بحث لمادة تاريخ الفكر، وذهب بعض الطلاب باتجاه الفلسفة بينما فضلت الكتابة عن مفاهيم الميكيافيلية، خصيصاً أننا درسنا بعض المفاهيم عند ماكيافيللي من خلال كتابه «الأمير»، عندما وجدت نص مسرحية «ماندرا جولا» لصاحب الأمير من ترجمة محمد الظاهر. كتبت حلقة بحث بعنوان “بعض تطبيقات الميكافيلية في نص ماندرا جولا”. وبعد قراءتها من قبل أستاذنا العظم كتب عليها التالي: اختزال الميكيافيلية إلى (الغاية تبرر الوسيلة) تبسيط للمسألة وخطأ شائع، الفكرة وراء حلقة البحث جيدة جداً ويمكن تطويرها بفهم أدق لمعنى الميكيافيلية، ومن ثم دراسة تجلياتها في مسرحيات ماكيافيلي نفسه.
وعندها عمقت القراءة من خلال دراسة بعض سمات الملحمة في ذات النص، وعملت في الفصل الثاني على حلقة بحث أخرى كانت عن الحركة السفسطائية، أعظم حركة ثورية قامت على أشرس تشكيلة اجتماعية عرفها التاريخ (التشكيلة العبودية) في اليونان القديمة أثناء ظهور هذه الحركة المظلومة.
من خلال متابعة أستاذنا الدكتور صادق جلال العظم، وجدت أنه كان يتعامل مع الوقائع والحقائق كمعطى معلوماتي، ويعمل على النقاش والجدل معها، ويحاول نقل آلية التفكير والعمل هذه إلينا في المعهد العالي للفنون المسرحية.
أخيراً، يشكل الدكتور العظم ظاهرة بحد ذاتها في جيل رواد الفكر الفلسفي والسياسي السوري منذ منتصف تسعينات القرن الفائت إلى وفاته في المنفى الألماني بعيداً عن دمشق التي أحبها.
*مجلة الناقد، عدد (54)، كانون الاول (ديسمبر) 1992، ص(22)