لا يكفي الإحساس بالمكان حتى يعطي الإنسان هويته وانتماءه إلى مكان ما في الحياة، فالمكان هو حكاية الحكاية بالنسبة للإنسان الفرد حيث الذاكرة المشكلة منذ الخطوات الأولى، والصور المكونة لذاكرة الطفولة التي تترك في الأرواح خطوطاً لا تُمحى. لكن في رواية “تذكرتان إلى صفورية” للروائي سليم البيك الصادرة عن دار الساقي وآفاق بالعام 2017 في بيروت، لدينا ذاكرة متخيلة من حكايا “الجد والجدة”، عن المكان المتخيل، صفورية، وهو الحلم المشتهى، فلسطين، لأي لاجئ فلسطيني في الشتات الفلسطيني المغرّب عنها. وإلى جانب هذا الحلم المشتهى هناك الواقع الحياتي الذي يرسم الأحاسيس الحياتية المُروضة بعيداً عن التأملات الشاعرية أو الروائية، كالوحدة التي يعيشها الإنسان والتي تمدد تعاساته، وهذا ما نجده في شخصية يوسف في الرواية حيث يقول:”كل ما يلوم نفسه عليه الآن هو الغناء والرقص كالمهرج قبل الخروج من البيت، التصرف الأحمق الغريب عنه، أو هذا ما يعتقده، وكل ما يشغل ذهنه الآن، جالساً على سريره في ظهيرة باردة ليوم شتوي كئيب ما زال في أوله” (ص ١٣،١٤).
أجواء الخيبة التي يعيشها يوسف والتي تسبق مغادرة فرنسا إلى فلسطين وبلدته صفورية تمدد تعاسته، وتدفعه إلى محاكاة حياته منذ إدراكها في مدينة دبي حيث الأهل والعمل، وكل ما يمتد إلى تحقيق الحضور، والذات كإنسان فعال في المجتمع، ويعود ليسرد الحكاية الأساسية لحياة كل فلسطيني حيث التشرد والنكبة وحصته فيها كإنسان وعائلة وقرية ومدينة وصولاً إلى السردية الفلسطينية للنكبة، وما يميز سردية يوسف أنها تأتي بطعم العلقم والمرار الإنساني في ملعب لا يتمتع بالإنسانية.
اليرموك… مكان لا هوية
مثلما العرف الشائع عند فلسطينيي الشتات الذي يمركز مخيم اليرموك عاصمة الشتات الفلسطيني مركزاً للثورة الفلسطينية في زمن ما، فإن الروائي سليم البيك لا يحمّل شخصية يوسف هذا الموقف في العمق الثوري لمخيم اليرموك كما حمله عمه وأبوه، خصيصاً مع تعرفه على المخيم ما بعد اتفاقية أوسلو بين السلطة الفلسطينية وحكومة الكيان الصهيوني التي عاصرت ذلك الاتفاق. لكن قبل الدخول إلى أجواء مخيم اليرموك في تلك المرحلة لا بد من العودة إلى سردية النكبة من منظار شخصية يوسف وجده كشخصيات في الرواية: “منذ وصوله إلى المخيم. كان البيت في اليوم الأول خيمة ثم صار مع الزمان بجدران طينية ثم بأسقف من الزنك ثم صار كله مبنياً من الباطون، وصارت غرف الباطون تتوسع، وتُعمّر طوابق على أسقفها، صار بيتاً بطابق أرضي وطابقين فوقه وسطح عليه غرفتان…” (ص ٨٩).
كان المكان لدى الشخصية منفتحاً وأليفاً مؤنساً، فهو يشير إلى الأهمية الجغرافية والتاريخية والرمزية الدلالية لهذا المكان من ناحية تطوره مع الزمن، وما يمثله في الوعي والذاكرة الجمعية للعائلة من ناحية ثانية، وإلى ارتباط الشخصيات والأحداث به من ناحية ثالثة على الأقل لثلاث شخصيات (الجد والعم والأب)، وإلى أهميته لدى الكاتب من ناحية رابعة.
يصف يوسف حالة القلق الإنساني لدى العائلة الفلسطينية: “لم يمر أسبوع لم تستخدم فيه عائلة يوسف كلمة شنططة مراراً. الكلمة الآتية من الشنطة لم تكن تعني بالضرورة حمل الحقائب والسفر أو الانتقال بها من مكان لآخر عدة مرات في السنة” (ص106).
فالحالة التي تعيشها العائلة ترتبط بتكرار المفردة الدالة على عدم الاستقرار النابع من النكبة وآثارها النفسية العميقة في ذات الإنسان الفلسطيني، فهي الغربة الإجبارية أو النفي الفاعل الفارض للكآبة والوحشة في الشتات الإجباري، وهذا ما يستدعي وجود الحقائب والاستعداد الدائم لمغادرة المكان إلى مكان جديد، حيث التعود على اللا مكان خارج البلاد، فكل الأمكنة توحي بفعل “الشنططة”، وهنا يبرز سؤال هو كذلك لدى كل الشخصيات في الرواية؟! ويجيب البيك عن هذا التساؤل في تقسيم “شنططة” الإنسان الفلسطيني إلى أجيال، الأول فيها “كان في أواخر أربعينيات القرن الفائت حين لجأ جده من الجليل شمال فلسطين إلى سوريا، واستقر كمئات آلاف آخرين من الفلسطينيين في المخيمات في البلدان المجاورة لبلده”(ص ١٠٨).
والثاني “كان في أوائل ثمانينيات القرن ذاته حين صار أبناء جده شباباً هاجر معظمهم إلى دول الخليج، هم وآلاف آخرون من الفلسطينيين في المخيمات، وهو لجوء ثانٍ كان من ناحية لغاية العمل في دول اكتشفت النفط حديثاً وبحاجة لموظفين، ومن ناحية، وهذا السبب المباشر لتفادي الموت في المخيمات وحروب الأنظمة والميليشيات العربية في الأردن ولبنان وسوريا على المخيمات الفلسطينية”(ص ١٠٨).
والثالث “هو الآن مع الثورة السورية ولجوء الآلاف من فلسطيني سوريا كما السوريين، إلى أوروبا بعدما صارت المخيمات، وخاصة اليرموك، كمعظم المناطق في سوريا، مأزومة إنسانياً، أو غير صالحة أساساُ للعيش الآدمي، ولا الحيواني، بفعل الحصار والقصف” (ص ١٠٨).
ويوضح البيك كيفية تشكل شخصية يوسف إذ يقول: “يوسف الذي ولد وكبر في دبي لم يتعرف على مخيم اليرموك إلا من خلال الزيارات الصيفية لأهله. تجتمع في المخيم كل صيف العائلات المهاجرة عنه في بيت العائلة الكبير، بيت الجد. وكانت إجازة الشهر كافية له لتكوين صورة عن المخيم، اكتشف لاحقاً حين ذهب للإقامة فيه والدراسة في جامعة دمشق أنه مختلف تماماً، اكتشف أن المخيم الذي نعيش فيه ليس كالذي نزوره في إجازات، والمكان بالنسبة إلى المقيم ليس هو ذاته بالنسبة إلى الزائر. لذلك لم يشعر بأنه منتم للمخيم، لم يكن ابن مخيم، والحياة التي عاشها فيه خلال دراسته الجامعية ولاحقاً إثر خروجه من دبي، حيث أمضى فيه سنتين قبل خروجه إلى فرنسا، لم تكن كافيه ليشعر في نفسه أنه ابن هذا المكان” (ص ١١٤).
لم يشكل المخيم لشخصية يوسف الفضاء الرحب للحلم والذاكرة، وإنما مكان العيش في الواقع الحياتي في برنامج سردي روائي، فلا شخصيات أو أحداث تخصه فيه سوى فضاء أسروي، لا يستطيع تشكيل جماليات مكانيه له فيه في مسار استعراض فضاءات المخيم المفتوحة على ناسه وسكانه مثل الساحات والحدائق والمكاتب والتنظيمات والأحزاب التي ينتمي إليها سكان المخيم، وبقيت فضاءات المخيم مغلقة على بيت الجد وحده المثير للشجن الأسروي.
ويؤكد البيك أن شخصية يوسف تدرك أنها لم تعش في هذه الأمكنة ولم تقم فيها بل وجد فيها وعبر بينها، وبين بعضها إلى أن وجد نفسه في فرنسا، فهو سيفكر بها كمعبر آخر أو أخير كما يتمناه، لبلد/معبر آخر ينفذ منه إلى الناصرة.
إن المكان الفرنسي بالنسبة ليوسف شكّل محطة لإحياء الجسد نحو فضاء فلسطين حتى لو كان في الحلم الذي يسير إليه عبر الجنسية الفرنسية، لأول مرة في حياة هذه الشخصية تجد مكاناً تسمع فيه صليل الجسد والروح في في أمواج القلب والضمير الحي الذي يرمز إلى طهارة فكرة العودة عبر الذات الإنسانية للنبع الأساسي لهذه الشخصية، وهو فلسطين/صفورية، لاكتشاف البراءة والفطرة في أيقونة فلسطين وصفورية في شخصية يوسف الجد في قداسة المكان الفلسطيني في تلافيف دماغ اللاجئ الفلسطيني.
إن حالة الاستقرار النسبي الذي وجدته شخصية يوسف في فرنسا، إذ أنه بدأ يسير نحو إنهاء تشتت الهوية على أكثر من مستوى حيث يظهر ذلك أنه لم يقتصر تشتت الهوية لدى يوسف على الانتماء الوطني، بل تعداه إلى أوراقه الإدارية تائهاً بين الإمارات التي ولد وكبر فيها وسوريا التي حمل بطاقتها ووثيقة سفرها، وفلسطين التي لا يرجع شعوره بالانتماء إلا إليها، وإن لم يجد هذا الشعور مكاناً يطمئن إليه. ثم فرنسا التي سيصبح أحد مواطنيها بكامل حقوقه المدنية، لكن ليلة الوداع التي عاشها يوسف في بيت جده في مخيم اليرموك لم ولن تمحى من ذاكرته، فيصفها: “غرفة بجدران بيضاء، مدهونة بمادة زيتية يلمع عليها ضوء النيون كأنه فلاش كاميرا، جدران مكشوفة دون صور تعلق عليها، فقط تطريز بارز لآية الكرسي بخرز له لون الذهب على خلفية سوداء، وإطار مزخرف بالأحمر، ولا خزائن عالية تغطي الجدران” (ص ٩٠).
ويضيف إلى ذلك أنه جلس “بجانب الصوبيا وسمع صوت النار فيها، شعر بالحرارة لا الدفء. هذا مكانه لا أحد غيره يجلس بجانب الصوبيا التي اعتاد أن يسخن عليها رغيف الخبز إن كان مثلجاً وغير طازج، يستلذ بالخبز كما بالدفء والصوت الصادرين عنها. في تلك الليلة، لم يشعر بذلك ولم تكن لديه رغبة في تسخين رغيف خبز بارد عليها” (ص ٩٠).
كان التحول في المكان الأثير لدى يوسف في بيت جده ليلة المغادرة للاحتفاظ بأكثر صور مخيم اليرموك بهاءً في ذاته، فالطقس اليومي يهرب بعيداً في خوف ذاتي من لحظات الوداع ومفاعيلها داخل الشخصية راصداً سيرة المكان وحكايته المحببة في شوق البعد عن الهزيمة الجديدة في سوريا من بوابة مخيم اليرموك، فالخيبة في حالة صراعها مع ذات الشخصية الداخلي يقلب مفهوم الاستغراق إلى الفرار عبر تقليص لحظات الوداع والاحتفاظ بصورة المكان.
أخيراً، يرسم سليم البيك شخصية يوسف في بوح ذاتي في مضمار روائي يعتمد الوقائع ليبني عليها عالمه الروائي في مسار اللامكان الباحث عن هوية الذات المشتتة المعذبة بعيداً عن فلسطين/صفورية، الحلم المشتهى المتوارث عن الجد والأب. والكتابة تعوض عن الخيبة نحو استعادة الحلم في السفر إلى فلسطين من جديد، ليصبح الحلم حالة انتصار على واقع مهزوم.