يلعب الإعلام المرئي والمسموع والمقروء دوراً كبيراً في حشد الرأي العام المحلي في أي اتجاه محدد، لكن في بلدان العالم الثالث التي يكون فيها الإعلام موجهاً ومؤدلجاً بشكل كبير، خصيصاً تلك البلاد التي تعد حكوماتها ذات مرجعية سياسية/أقتصادية تستند إلى مفهوم الحزب الواحد في إدارة البلاد.
وهي على نقيض البلدان ذات المرجعية الحرة، والتي تعتمد الديمقراطية وحرية الإعلام والرأي حيث يتوجه الإعلام فيها إلى المتلقّي بدون إيديولوجيا فظة ومباشرة وخطابية، وبذلك تبقى صناعة الرأي العام المحلي قضية يخوضها هذا الإعلام من بوابة حرية المتلقي، وخصيصاً أن الإعلام في عصر الميديا من السهل الانتقال به من قناة تلفزيونية إلى أخرى بكبسة زر، يصعب ضبط المشاهد على قناة واحدة كما كان في أواسط القرن الفائت.
من هنا نجد دراسات جديدة في الإعلام حول كيفية جذب المتلقي، عبر الدراسات الميدانية والبحثية لمعرفة ذائقة هذا المتلقي في كل بلد على حدة، ومحاولة إرضاء أذواق المتلقين في هذه البلدان لبقائهم أمام شاشاتهم الوطنية ولغتهم القومية.
رغم كل الانتشار والكثافة الإعلامية بعد ثورة المعلوماتية الحديثة في نهاية القرن العشرين والعشرية الأولى والثانية من القرن الجاري، فإن هناك من يخالف التوجه العالمي في مزيد من انتشار القنوات التلفزيونية والإذاعية.
وهذا ما نجده في بلد مثل سورية، إذ أنه في بداية الثورة السورية، قامت الحكومة السورية بتوجيه الإعلام المحلي نحو الأخذ بخطاب النظام السوري، على كافة المستويات، والبدء بتوجيه خطابه وفهمه لكل ما يجري في البلاد على أنه مؤامرة كونية ضد النظام، وظهر ذلك جلياً في تعميمه لكل الإذاعات المحلية في اعتماد خطابه لتحشيد الرأي العام المحلي السوري، خصيصاً في مناطق سيطرة النظام، على أن ما يجري مؤامرة كونية من الشعب السوري ضد نظامه، ووصف كل ما جرى ويجري في البلاد بأنه إرهاب منذ تظاهرات الأشهر الأولى السلمية إلى استحضار “النصرة” و”داعش”، كأدوات عالمية للإرهاب الجهادي حسب المفهوم القاعدي. وعالج النظام ذلك على المستوى الإعلامي بمزيد من القنوات الفضائية التلفزيونية والإذاعية مثل “تلاقي” و”سوريانا”، ولاحقاً نشرات إخبارية تلفزيونية، وقناة “زنوبيا” الفضائية. لكن مع التدخل الروسي في الحرب السورية إلى جانب النظام، والاطمئنان إلى استقرار الحالة العسكرية على الأرض ميدانياً، وانكشاف النظام والحكومة السورية على مستوى القدرة على البذخ المالي في الجانب الإعلامي لتغطية مشاريعه في الاستمرار في قمة السلطة السياسية، عهد النظام إلى حكومة المهندس عماد خميس في ضبط النفاقات المالية الإعلامية من خلال وزير الإعلام محمد رامز ترجمان، إذ أغلق ترجمان قناة “تلاقي” في شهر أيلول/سبتمبر من العام الماضي، وإلى جانب ذلك قام المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون عماد سارة بمحاولة إلزام الموظفين بالدوام لمدة 7 ساعات يومياً، وهو ما استدعى لقاء مع رئيس الوزراء في أكثر من مؤسسة إعلامية منها الموظفين المعتصمين ضد الدوام الإلزامي اليومي.
لكن ذلك الخيار لم يأت أُكله في نهاية العام الفائت، وهذا ما استدعى قراراً جديداً من وزارة الإعلام السورية حيث قامت بأصدار قرار إغلاق القناة الأولى من التلفزيون السوري بعد 56 عاماً من البث، وذكرت مصادر وزارة الإعلام أن السبب يعود إلى رغبة وزارة الاعلام في ضبط النفقات في الوزارة في المرحلة المقبلة، ويذكر أن القناة الأولى تعد من أوائل القنوات التلفزيونية في الشرق الأوسط من حيث تاريخ الافتتاح، إذ بدأ إرسالها في العام 1960، وترافق اغلاقها مع إغلاق إذاعة “صوت الشباب” الحكومية التي انطلق بثها في العام 1979، قبل 37 عاماً، كإذاعة محلية تهتم بأخبار المحافظات السورية.
ضبط نفقات أو هيمنة مطلقة:
كل ما يقدم إلى المتلقي السوري من خلال وسائل إعلامه وما يجري في هذه المؤسسة كمحاولة ضبط نفقات ومكافحة هدر جاء نتيجة ما يسميه النظام بالأزمة، لكن الهدر والفساد في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ممتد منذ زمن بعيد، وعدد العاملين في التلفزيون يزيد عن 5000 موظف أغلبهم يعمل بنظام “البون”، وهم من غير المهنيين، ومن المقربين من النظام والشبيحة، وغالبيتهم يقدمون برامج غير مفيدة للمتلفي السوري سواء الموالي أو المعارض، مثل “حماة الديار، أرضنا الخضراء، الأيد الماهرة”، وينالون منها أجراً مماثلاً لما لدى البرامج الأكثر مشاهدة في المحطات الفضائية، وهذا ما اعتاد عليه المتلقي السوري منذ سنوات ما قبل عصر الميديا.
وكان الوزير ترجمان قد أزاح نضال يوسف، الملقب بحوت التلفزيون، من زاوية الفساد، لكن بعض العارفين في بواطن الأمور كالأستاذ في كلية الإعلام غازي عبد الغفور الملحم أوضح عبر صفحته الشخصية على الفيسبوك أن مسؤولي الإعلام يقولون بأن ليس لهم علاقة بالقرارات، وأنّ الأخيرة تخرج من المستشارة الإعلامية في القصر الجمهوري، ورئيسة المكتب الإعلامي لونا الشبل، وهو ما أكّده الإعلامي شحادة الحمود عبر صفحته أيضا قائلاً أن أي قرار يصدر من وزارة الإعلام لا يمكن تغييره، فالسيدة لونا الشبل هي الآمر الناهي في أدق تفاصيل العمل الأعلامي. يتضح مما تقدم أن وراء الأكمة ما وراءها، وقضية ضبط النفقات واجهة لقضايا أخرى غير واضحة حتى الأن.
الأداء الإعلامي السيء:
يجمع العاملون في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وغيرهم من الإعلاميين السوريين أن الأداء الإعلامي السوري خلال السنوات الخمس الأخيرة زاد سوءاً على سوء، وهو غير قادر على مخاطبة المتلقي المهموم بشؤونه الداخلية وأزمته مثل المازوت والغاز والكهرباء والمواصلات والخبز ورفع الدعم عن السكر والرز والزيت… وغيره.
لذلك يعتمد المتلقي السوري الموالي على قناة “الميادين” وغيرها من القنوات الداعمة مثل “المنار” في تظهير سياسي يغطي على أزمة المواطن السوري مع حكومته، وظهر ذلك جلياً مع لقاء رئيس الوزراء مع العاملين في الوحدة السورية التي تصدر جريدتي”الثورة” و”تشرين” اليوميتين، ووفق العديد من المصادر المقربة من دوائر صنع القرار السياسي فإن المرحلة المقبلة في الإعلام السوري لن تكون فيه السطوة للمؤسسات الإعلامية الحكومية، وإنما للقطاع الخاص الإعلامي، وخصيصاً مع اقتراب بدء المفاوضات الجدية للدخول في الحل السياسي، حيث يفترض إعادة هيكلية قطاع الإعلام الحكومي ليكون قادراً على استيعاب الخطوط السياسية المعارضة التي تقبل بالحل السياسي، والتي سيكون لها دوراً كبيراً في إعادة صياغة خطاب إعلامي سوري جامع بعيداً عن العصوبية السياسية والطائفية والقومية.
وما يزيد الطين بلة أن بقية القنوات التلفزيونية السورية مازالت على ذات النهج الإعلامي، فلا تغير في طبيعة الأداء رغم أن الإشاعات تدور عن قرب دمج المركز الإخباري مع الإخبارية السورية أو إغلاق إحداهما.
إن كل ذلك يجري تحت شعار مكافحة الفساد، ولم يُقدم إلى محكمة سورية إعلامي فساد واحد، وهذا نهج النظام السوري في إبعاد الأشخاص وإعادة استخدامهم وفق رؤيته وحاجته لهم.