لم أحظَ خلال السنوات الأربع التي قضيتها بدراسة الفلسفة في جامعة دمشق بمحاضرة للمفكر الراحل صادق جلال العظم، وذلك لفارق العمر فلم يكن في حينها يحاضر في الجامعة. أحزنني هذا الأمر، وزادني حزناً أننا لم ندرس أياً من مؤلفاته، فكان خللاً في قسم الفلسفة حيث غياب النقد وعدم التطرق إليه كما مارسه وكتبه الدكتور العظم في كتبه، وغاب بذلك طقس الحوار والمناقشة الجادة التي تخلقها مؤلفاته وتبعدنا عن الحضور الصامت في أكثر الأقسام الجامعية حاجة إلى تعلم النقد وأدواته ومدارسه والتمكن من ممارسته.
بيد أن ذلك الغياب تحول معي لحضور دائم، فقرأت مؤلفات المفكر العظم خلال دراستي، وعرفت الأسباب الأخرى ــ غير السياسية ــ التي ينطوي عليها اختفاء التفكير النقدي الذي تحفل بها مؤلفات العظم، هي الأسباب ذاتها التي أجّلت تخرجي من الجامعة لقيامي بالإجابة عن سؤال “هل هناك فلسفة عربية معاصرة؟” مرة بالنفي ومبرراته، ومرة بصياغة ما أريد قوله على شكل تساؤلات لا تعطي إجابة واضحة، إذ كانت إجابتي مناقشة أكثر من تفريغ ما أحفظه على الورق، ولم أستوعب كيف يمكن إعطاء إجابة واضحة لهذا السؤال إذا كنا لا ندرس مؤلفات فلسفية وفكرية عربية لمفكر بقامة الدكتور العظم، أو كيف لي أن أجيب وأنا لا أملك الحرية في قول ما أريد في مسألة تعتبر من أهم المسائل الفكرية في الوطن العربي وهي “الفلسفة العربية” وما آلت إليه في وقتنا الراهن.
لقد أيقنت بعد قراءة «ذهنية التحريم» و«ما بعد ذهنية التحريم»، أن التحريم المزاول علينا ليس فقط سياسياً في الحديث عن الأمور المحظورة والتي تمس “سيادة الدولة” في سورية، وإنما التحريم يطال العلم والفكر، والاقتراب من النقد، وإرغامك على القبول بالمسلمات والتسليم بغيرها، وهذا مُبرر لعدم إثارة أفكار ومؤلفات العظم التي لا تقوى العيش في مناخات تفيض بالمسلمات ولا يحيطها مناخ الحوار والنقد. كذلك، لم نعش في سنوات الدراسة حفاوة الجدال والنقاشات الحادة، فأضحى ما تمنيته فور مباشرتي دراسة الفلسفة حملاً ثقيلاً وأحيانًا فارغاً لما عانيته من نقص أسلفت في الحديث عنه.
من هنا نستطيع أن نفهم مدى التزام المفكر العظم بمواقفه في التغيير والنقد والحرية والديمقراطية، وهي المواقف والكتابات التي تبناها ودافع عنها وحوكم لأجلها، ونزل من عليائه في أولى انتكاسات الفكر العربي المعاصر إبان نكسة حزيران، وبدأ يجابه تلك الهزيمة فكرياً، ويثير التساؤلات حول أسبابها، في كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، التي رأى أنها ليست بالهزيمة العسكرية فقط، وإنما هزيمة فكرية، أسس لها الحط من قيمة العلم في مجتمعاتنا والارتفاع بالعادات والتقاليد الثقافية.
كما قادتني قراءتي لـكتب العظم المذكورة آنفاً إلى ما يشبه المقارنة بين ما أثارته وقت نشرها، من نقدٍ وشجب وإدانة وتخوين لشخص العظم لدفاعه عن حرية الكتابة، وبين ما يحدث الآن من اصطفافات وانقسامات حادة حول الثورات بين المثقفين والنخب في الوطن العربي سيما التي آثرت الوقوف في وجه الحرية وبررت للقاتل قتل ضحيته. الشبه هنا في أن الموقفين اتخذا موقف الضد من حرية التعبير، الأول ضد حرية الكتابة، والثاني ضد حرية الشعوب، ويمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، إذ بالمقدور القول بأن الموقف الأول ساهم أيضا في التخفيف من حدة الصدمة والمفاجأة جراء مواقف من كنا نعتبرهم مثقفين ونقاد، يحتم عليهم واجبهم الانحياز للشعوب وحريتها، والتنظير لها لا عليها. وإذا دل هذا على شيء فإنه يدل على الاستشراف في فهم الواقع العربي والقراءة العميقة للأحوال الثقافية والسياسية والاقتصادية التي منينا بها في مؤلفات المفكر صادق جلال العظم، ويدل على الأصالة الفكرية للراحل والتزامه المبادئ التي آمن بها مخضعاً تلك المبادئ للمراجعة والنقد الذاتي.
خلال الثورات العربية، اتسع الوعي الفلسفي، الوعي للحال الذي تبدو عليه ثقافتنا الفلسفية العربية ومثقفيها، وكيف تأثرت بهذه الثورات، وما هي الأسباب التي جعلت مواقف المثقفين والمفكرين العرب تأخذ مناحي عدة بين تأييد وتعارض في المواقف من الربيع العربي وبعض القضايا السياسية في الوطن العربي.
من هنا نستطيع أن نفهم مدى التزام المفكر العظم بمواقفه في التغيير والنقد والحرية والديمقراطية، وهي المواقف والكتابات التي تبناها ودافع عنها وحوكم لأجلها، ونزل من عليائه في أولى انتكاسات الفكر العربي المعاصر إبان نكسة حزيران، وبدأ يجابه تلك الهزيمة فكرياً، ويثير التساؤلات حول أسبابها، في كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، التي رأى أنها ليست بالهزيمة العسكرية فقط، وإنما هزيمة فكرية، أسس لها الحط من قيمة العلم في مجتمعاتنا والارتفاع بالعادات والتقاليد الثقافية.
لا يمكن اختزال فكر الدكتور صادق جلال العظم والحديث عنه بمقال، ولو جرى لن يكون كافياً، إنما أحببت الإشارة إلى حضوره ومكانته في الفكر العربي المعاصر، ومدى تأثيره وتأثير أطروحاته ودراساته، التي ما زالت حاضرة في استشرافها الظروف التي يمكن أن تصل إليها المجتمعات العربية إذا ما بقيت على حالها دون تغيير جذري يطال، ثورياً ونقدياً، السائد والمقدس، والابتعاد عن التبريرات الجاهزة في تعاطينا وتحليلنا لمجريات الأحداث.