أيقونة الملثّم وانتفاضة الحجارة

عمل للفلسطينية ليلى الشوا

مليحة مسلماني

أديبة وباحثة فلسطينية

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

27/12/2016

تصوير: اسماء الغول

مليحة مسلماني

أديبة وباحثة فلسطينية

مليحة مسلماني

تقيم في القدس. حصلت على درجة الدكتوراه عام 2011 وكان موضوع أطروحتها "تمثّلات الهُويّة في الفنّ الفلسطينيّ المعاصر في المناطق المحتلة عام 1948". تعمل في المجال الثقافي ونُشر لها العديد من الدراسات والمقالات في الفنون البصريّة والثقافة، من بينها كتاب "تجلّيات الحَرْف: جماليات النص في الفن الفلسطيني المعاصر" الصادر عام 2015، وكتاب "غرافيتي الثورة المصرية" الصادر عام 2013. تشمل إصداراتها الأدبيّة: "عَنْقاء مُمْكن"، شعر (2015)؛ "سكّةُ الطير"، نصوص أدبية وصور فوتوغرافية بالاشتراك مع الفنان المصري عادل واسيلي (2012)؛ "123"، قصص قصيرة جدًا (2007)؛ "كَرْمُ التين"، قصة للأطفال (2007)؛ "نِيَار"، رواية (2005).

يصادف هذا الشهر الذكرى التاسعة والعشرين لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والتي تُعرف أيضًا بانتفاضة الحجارة، ورغم أهمية هذه الانتفاضة في صياغة الوعي الوطني الفلسطيني والهويتيْن الوطنية والثقافية الفلسطينيتيْن، ورغم مرور ما يقارب ثلاثة عقود على اندلاعها، إلا أنها لم تنل بعد الاهتمام الكافي من قبل الدراسين والباحثين، بل وتفرض طبيعة الانتفاضة تقديم دراسات متنوعة تتناول مختلف جوانبها، من حيث ظروف اندلاعها، وتعدد أشكالها، وجمهورها، وأدواتها، وأهدافها، ونتائجها السياسية والاجتماعية والثقافية على الشعب الفلسطيني.

أحد الجوانب التي من المهم تناولها للتحليل الثقافي هي المشهديّة البصريّة للانتفاضة وما أفرزته من أيقونات ورموز بصرية ترسّخت في الوعي الجمعي، الفلسطيني والعربي، والعالمي أيضًا، لتصبح هذه الأيقونات والرموز المرادفَ البصريّ لفعل المقاومة الشعبية الساعية إلى التحرر من الاستعمار وأنظمة الاستبداد. وهنا يمكن القول أن الانتفاضة الأولى، وتليها الثانية ولو بدرجة أقل، شكّلتا بلا شك مصدر استلهام للشعوب العربية في ثوراتها وانتفاضاتها التي انطلقت في السنوات الماضية بهدف إسقاط أنظمة الفساد والتبعيّة، بل وشكلت الانتفاضة، بما تركته من مخزون بصريّ ــ ثقافي في وعي الشعوب العربية، رافدًا للشباب العربي الثائر بالأدوات وأشكال النضال الشعبي، من بين هذه الأدوات التجمهر وقذف الحجارة وشعارات الجدران.

يشكل الشاب أو الفتى الملثّم العنصر الأساسي في المشهد البصريّ العام للانتفاضة، بل يمكن القول أنه بطل المشهد ومحوره وهو محرّكه الأساسي، فلم تأتِ العناصر البصرية الأخرى في المشهد الانتفاضيّ إلا كنتيجة لوجود الملثم ــ الملثمين، من هذه العناصر؛ الحجارة في الأيدي أو التي تملأ أرضية المكان ــ المعركة، والمِقلاع، والزجاجات الحارقة (المولوتوف)، والعلم الفلسطيني، وأحيانًا أعلام الفصائل الفلسطينية، وبوستر الشهيد وصور القادة، والإطارات المشتعلة والخردة التي كان يتم إغلاق الشوارع بها منعًا لتقدّم الجيبات العسكرية الإسرائيلية في أرض المواجهة، والتجمعات التي تتظاهر لجمع الحجارة وقذفها تجاه الجنود وسياراتهم، والتي تشمل الشباب والنساء والأطفال والنساء وكبار السنّ أيضًا. بالإضافة إلى شعارات الجدران التي لم تلعب فقط دور التحريض على الثورة الشعبية، بل يمكن اعتبارها أنها كانت بمثابة صوتٍ إعلاميّ للانتفاضة. وفي المواجهة هناك عنصر بصريّ واحد ــ الجيبات العسكرية التي تحمل الجنود من مختلف الوحدات، ومنهم وحدة “المُستعربين”*، الذين يظهرون بالزي المدنيّ ويستخدمون سيارات مدنية، ليتسللوا بأسلحتهم المخبأة تحت ملابسهم إلى أرض جبهة التظاهر بهدف اعتقال أو اغتيال المتظاهرين.

لا شك أن الفلسطينيين في الأراضي التي احتلت عام 1967 استلهموا في انتفاضتهم ومقاومتهم الاحتلال صورةَ الفدائيّ الفلسطيني الذي نشط في العمل المسلح خارج أرض الوطن منذ الستينيات، وبلغ العمل الفلسطيني المسلّح ذروته في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات أي قبل سنوات قليلة من اندلاع الانتفاضة. وهكذا، وبعد أن كانت مخيمات الشتات حاضنة المقاومة ومركز صياغة الهوية الوطنية الفلسطينية، حولت الانتفاضة مركز الثقل في الهوية الفلسطينية من الشتات إلى الوطن، وقد سجّلت بذلك فشل سياسات التهجير التي نتج عنها عدم التوازن في مسارات تطور الهوية الفلسطينية بين فلسطين والشتات. وبذلك أصبح الوطن بؤرة تبلور الهوية الفلسطينية الجديدة، ومركز ثقلها، وهي هوية لم يتم صياغتها عبر مؤتمرات سياسية ومن خلال القادة السياسيين، بل تشكلت عبر حراكٍ شعبيّ شامل وفعّال.

غير أن صورة الفلسطيني المسلّح خارج الوطن فرضتها ظروف خاصة بالفلسطينيين في الشتات وبدور منظمة التحرير الفلسطينية وبقدرتها على عسكرة المقاومة، فالمقاوِم في الشتات مسلّحٌ ملثّمٌ بالكوفية الفلسطينية ويرتدي الزي الفدائيّ، ويخوض عمليات عسكرية من الحدود ضد الاحتلال الإسرائيلي. وبعد تراجع العمل المسلح في الشتات مع خروج المقاومة من بيروت عام 1982، كانت هناك ظروف داخلية، خاصة بالفلسطينيين في الوطن المحتل، قد نضجت لتؤدي إلى اندلاع ثورة شعبية، إذ تأتي خصوصية انتفاضة الحجارة في أنها شكّلت ثورة شارك فيها الشعب الفلسطيني بمختلف شرائحه ضد مبدأ الاحتلال ككل، وليس ضد إجراء معين من إجراءاته القمعية، على عكس الانتفاضات السابقة التي كان يقوم بها الفلسطينيون احتجاجًا على واحد من إجراءات الاحتلال. فقد كان الشعار الذي رفعته الانتفاضة الأولى تحرير الأراضي الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية. في الأيام الأولى من الانتفاضة سأل معلّق التلفزيون الإسرائيلي أحد مواطني الأراضي المحتلة عام 1967: “ماذا تريدون؟ هل تشكون إجراءات قمعية؟ أم ارتفاعًا في الأسعار؟ أم أية شكوى أخرى يمكن حلها؟”، أجاب الرجل: “كل هذه الأمور مترتبة على وجودكم.. نحن نريد علم فلسطين، ونشيد فلسطين، وأرض فلسطين، ولا نريد شيئًا آخر”*. 

أيقن الفلسطينيون في الوطن ضرورة تنفيد مبدأ المقاومة ضد الاحتلال ككل، واستلهموا صورة الفدائي في الشتات، غير أن المقاوم في الانتفاضة الشعبية احتاج إلى اللثام لضرورات أمنية، إذ كان يتم تصوير المتظاهرين للتعرف عليهم واعتقالهم فيما بعد، وكان لثامه غالبًا الكوفية الفلسطينية، غير أنه كان يستخدم أيضًا قميصه أو وشاحًا أو قطعًا أخرى من القماش لضرورات تفرضها مواجهة مفاجئة مع جنود الاحتلال.

مع الوقت تحول اللثام إلى ثقافة شعبية ملازمة لثقافة المقاومة. ولا زالت ظاهرة اللثام شائعة حتى يومنا هذا بين الشبان والأطفال الفلسطينيين الذين يخرجون في تظاهرات ضد جنود الاحتلال على الحواجز العسكرية وفي مناطق التماس، ما يعزز كون صورة الملثم تصبح أيقونة مرادفة لفعل المقاومة والعمل الشعبي في مسيرة التحرر، وهي أيقونة بصرية فرضت نفسها أيضًا على العديد من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين الذين أعادوا إنتاج صورة الملثم في العديد من أعمالهم الفنية. 

أخيرًا، فإن أيقونة الملثّم التي تحيل إلى الغموض والتخفّي تثير لدى الرائي الفضول والأسئلة حول الهوية الذاتية للملثّم وملامحه، وتورّطه في علاقة وجدانية تتشابك فيها عناصر الصورة مع الذاكرة والهوية والثقافة، تمامًا كما هو السؤال عن حنظلة الذي يتمترس في الذاكرة كأيقونةٍ لطفلِ المخيم الذي لا يُرى وجهه، إنها الهوية التي ما زالت تحتاج إلى اللثام الذي يحفظها ويحميها، وإلى شبه التخفّي وشبه الظهور، كاحتجاجٍ وكضرورةٍ في واقعٍ ما زال يفرض عليها مواجهةً وصراعًا على الوجود.

الهوامش

*وحدات أمنية سرية وخاصة، تعرف بالمستعربين، وتسمى بالعبرية “المستعرفيم”، تابعة لشرطة الاحتلال الإسرائيلي، وتطلق عليها ألقاب ونعوت كثيرة، منها فرق الموت، ويزرع أعضاؤها بملامح تشبه الملامح العربية وسط المحتجين والمتظاهرين الفلسطينيين، حيث يلبسون لباسهم وكوفيتهم ويتحدثون بلسانهم، وسرعان ما ينقلبون ضدهم عنفا واعتقالا لصالح القوات الإسرائيلية.

*انظر/ ي محمود عبده، “الانتفاضة الفلسطينية والهوية الوطنية”، صامد الاقتصادي، العدد 141 (تموز/ يوليو، آب/ أغسطس، أيلول/ سبتمبر 2005).

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع