ترجمة: الطيب الحصني
جرت العادة أن يقال في تقديم جورج أورويل أنّه غنيٌّ عن التقديم، ولكنّ لا يبدو ذلك مقنعاً، سواءً في ثقافتنا العربية أو في لغته الأم. فما يُكتْب عن رواياته، وما نسمعه عنه في حديث القرّاء، كثيراً ما ينمّ عن نظرة ملحميّة، أي أنه فَهْمٌ يرى في أورويل كاتباً بعيد الأفق، رأى القادم في المستقبل، وسَطَرهُ نبوةً للأجيال القادمة، ويكون هذا أكثر ما يكون في معرض الحديث عن روايته الشهيرة «1984». والحقيقة أنّ معظم المفاهيم الواردة في هذه الرواية كانت أشياء عاصرها أورويل في مجتمعه، مثلاً: اللغة المُخترعة ’newspeak‘ ومفهوم التفكير المزدوج ’doublethink‘، نستطيع أن نتتبعهما إلى نقد أورويل للنثر المبهم المستخدم في دوريات عصره. كلُّ هذه المفاهيم هي انعكاس لتعامل أورويل مع واقعه كصحفي وكاتب في زمنه، بقدر ما هي نبؤات للمستقبل، وربما أكثر. ومن الواضح أن ملاحظات أورويل في هذا النص بخصوص رقابة المثقفين البريطانيين الطوعية على أنفسهم كان لها دور في تشكيل رؤيته الأدبية لحياة ’أعضاء الحزب‘ في رواية «1984». من هنا تأتي الفائدة في ترجمة هذا النص لأنه قادر على أن يكون سياقاً صغيراً نستطيع أن نرى من خلاله أفكار أورويل الأدبية من منظار رأيه السياسيّ.
وعلى أي حال، فإن أورويل نفسه ارتأى أن يكتب هذه المقدمة لروايته «مزرعة الحيوان» الصادرة عام 1945، وكان الناشر قد أفسح لها مكاناً في مقدمة المخطوط، ولكنها – لأسباب غير واضحة – لم تُنشر مع الطبعة الأولى، وتمّ العثورُ عليها في ضمن أوراقه، ونُشرت لأول مرة في السبعينات، وصارت بعدها تصدر مع بعض طبعات الرواية الإنجليزية على شكل مُلحق.
نص المقدمة
حرية الصحافة
بدأت التفكير بالحبكة الرئيسية لهذا الكتاب في عام 1937، ولكنني لم أنجزه حتى نهاية عام 1943. وبحلول الوقت الذي كتبته فيه بات واضحاً أن نشره سيكون صعباً جداً (على الرغم من أن النقص الحالي في الكتب يضمن بأن أي شيء يمكن وصفه بأنه كتاب سوف “يبيع”)، وفعلاً رفضه أربعة ناشرين، واحدٌ منهم وحسب من الممكن أن لديه دوافع أيديولوجية تمنعه من طباعته، فاثنان من الذين رفضوا يقومان بطبع كتب معادية لروسيا منذ سنوات، والناشر الأخير ليس له لون سياسي واضح. أحد هؤلاء كان قد قَبِلَ طباعة الكتاب في البداية، ولكنه بعد شروعه بالإجراءات الأولية قرّر استشارة وزارة المعلومات، والتي يبدو أنها حذرته من نشر الكتاب، أو على الأقل نصحته بلهجة شديدة. وهذا مقتطف صغير من رسالة الناشر:
لقد ذكرت لك رد الفعل الذي وصلني من مسؤول مهم في وزارة المعلومات بخصوص مزرعة الحيوان. لا بد أن أعترف أن إفصاحه عن هذا الرأي قد دفعني إلى التفكير الجدي… وأرى الآن أن هذه الرواية شيء لا يجدر بنا نشرها بأي شكل في هذا الوقت. فلو أن الحكاية موجهة بشكل عام نحو الدكتاتوريين والدكتاتورية، على اختلاف أنواعها، لكان نشرها لا بأس به، ولكن الحكاية تتتَّبع – كما أصبح واضحاً لدي الآن – بشكل مُفصّل تطور السوفييت الروس ودكتاتورَيْهِم، وذلك بحيث لا تنطبق إلا على روسيا، وتستثني الدكتاتوريات الأخرى. شيء آخر: سيكون من الأقل إهانة لو أن الفصيلة المسيطرة في الحكاية لم تكن الخنازير، أعتقد أن خيار الخنازير كعِرق حاكم سوف يهين الكثير من البشر بالتأكيد، خصوصاً الناس سريعي الانفعال، كما هو حال الروس بلا شك.
الأشياء من هذا القبيل ليست دليلاً على حال جيدة. من الواضح أولاً أن مديرية حكومية لا ينبغي أن تملك أي سلطة رقابية (إلا في حالة الرقابة الأمنية، والتي لا يعترض عليها أحد في أزمنة الحرب) على الكتب التي لا تصدرها الحكومة رسمياً. ولكن الخطر الرئيس على حرية الفكر والتعبير في هذه اللحظة ليس التدخل المباشر لوزارة المعلومات أو أي كيان رسمي آخر، فإذا كان الناشرون والمحررون يجتهدون في إبقاء بعض المواضيع خارج دائرة النشر، فإن هذا لا يعود لخوفهم من الاضطهاد، بل لأنهم يخافون الرأي العام. في هذه البلاد، جُبن المثقفين هو العدو الأسوأ الذي يضطر الكاتب أو الصحفي لمواجهته، ولا يبدو لي أن هذه الفكرة قد حظيت بالنقاش الذي تستحقه.
أي شخص متوازن التفكير وله خبرة في الصحافة سيعترف بأنه، وخلال هذه الحرب، لم تكن الرقابة الرسمية مزعجة كثيراً، إذْ لم يتم إخضاعنا للـ”تنسيق” الشمولي الذي كان من المنطقي أن نتوقعه في زمن حرب. وعلى الرغم من أن الصحافة لديها بعض الشكاوى المحقّة، فقد كان سلوك الحكومة جيداً بالمجمل ومتقبِّلاً على نحو مفاجئ لآراء الأقلية. لكن الحقيقة السوداء في مسألة الرقابة الفكرية في إنجلترا هي أنها إلى حد كبير طوعية، فالأفكار غير المرغوبة قابلة للإسكات، ويمكن التعتيم على الوقائع غير الملائمة، وذلك كلّه دون الحاجة إلى حظر رسمي. إن أي شخص عاش مدّةً طويلةً في بلد أجنبي عايَشَ ولا بدّ أحداثاً تصلح لأن تكون في العناوين الكبرى إذا قيست بفائدتها كأخبار، ولكنها تبقى خارج إطار الصحافة البريطانية تماماً، وذلك ليس لأن الحكومة تدخلت لحظرها، بل بسبب اتفاق ضمني عام على أنه “لا يجوز” ذكر الحقيقة الفلانية. من السهل فهم هذا الأمر في حالة الصحف اليومية، فالصحافة البريطانية مركزية جداً، ومعظمها يملكه رجال أثرياء لديهم كل الدوافع للكذب في مسائل مهمة معينة. ولكن هذا النوع من الرقابة المقنعة نفسُه يفعل فعلَه كذلك في الكتب والدوريات، كما في المسرحيات والأفلام والإذاعات أيضاً. في أي لحظة معينة من الزمن، يكون هنالك دوماً أرثوذكسية: جسدٌ من الأفكار يُفترض بكل الناس العقلانيين أن يقبلوها بلا نقاش، وعلى الرغم من أنه ليس هنالك تحريم حقيقي للكلام عن الشي الفلاني أو العلاني، ولكنه “لا يصحُّ” الحديثُ عنه، بنفس الطريقة التي كان “لا يصحُّ” فيها ذِكْرُ لفظة ’السراويل‘ أمام السيدات في العصر الفيكتوري. وكل من يتحدى الأرثوذكسية سوف يجد من يُسكته، وبفعالية مفاجئة. الرأي غير المتوافق مع المعتقد العام يكاد لا يحصل على أي فرصة عادلة للاستماع إليه، لا في الصحافة الشعبية ولا في الدوريات رفيعة المستوى.
وفي هذا اللحظة بالذات فإن المطلوب من الأرثوذكسية المنتشرة هو إعجاب منقطع النظير بروسيا السوفييتية، والكل يعلم ذلك، والكل تقريباً يتصرف على أساسه. أي نقد جدّي للنظام السوفييتي، أي كشف عن وقائع تفضل الحكومة السوفييتية بقاءها في الخفاء، يتمُّ التعامل معه وكأنه غير صالح للطباعة. وهذه المؤامرة على مستوى الأمة لتملّق حليفنا تحدثُ – وهذا ما يثير الفضول – في ظل خلفية من التسامح الفكري الحقيقي: فعلى الرغم من أنه ليس مسموحاً انتقاد الحكومة السوفييتية، فإنك على الأقل حرّ بما يكفي لانتقاد حكومتنا: فما من أحد سوف يقبلُ طباعة هجومٍ على ستالين، ولكن الهجومَ على تشرشل شيءٌ مقبول، على الأقل في الكتب والدوريات. وعلى مر خمس سنوات من الحرب، كنا خلال اثنتين أو ثلاث منها نحارب دفاعاً عن بقائنا الوطني، فقد نُشر – وبدون تحفّظ من الحكومة – عددٌ لا يحصى من الكتب والكتيّبات والمقالات التي تدعو إلى المساومة من أجل السلام. وعلاوة على ذلك، فإن نشر كل هذا الكم من الكتابات لم يلق استنكاراً كبيراً. فما دام موضوع الكتابة لا يتعرض بمس لهيبة الاتّحاد السوفييتي، يبقى مبدأُ حرية التعبير عن الرأي محترماً إلى حدّ معقول. وهنالك مواضيع أخرى مُحرّمة وسوف أتحدث عنها هنا، ولكن الموقف السائد من الاتحاد السوفييتي هو أكثر الأعراض خطورة، فهو يبدو وكأنه عفوي، ولا يسببه تأثير أيّ مجموعة ضغط.
لربما فاجأنا الخُنوع الذي أظهرته الإنتلجنتسيا الإنجليزية في تقبُّلها للبروباغندا الروسية، وتكرارها لها منذ عام 1941، لولا أن السلوك له سوابق. ففي عدة مناسبات، وفي موضوع جدلي بعد آخر، حظِيتْ وجهة النظر الروسية بالقبول دون تمحيص، ومن ثم جرت إذاعتها دون أي اعتبار للحقيقة التاريخية أو النزاهة الفكرية. وأحد الأمثلة على ذلك هو احتفال البي بي سي بالذكرى الخامسة والعشرين للجيش الأحمر دون ذكر تروتسكي، وهذا يشبه إحياء ذكرى معركة ترافالجار بلا ذكر الأدميرال نلسون، ولكن هذا الأمر لم يلقَ اعتراضاً لدى الإنتلجنتسيا الإنجليزية. وفي الصراعات الداخلية للبلدان العديدة المحتلة، وقفت الصحافة البريطانية في كل الحالات تقريباً مع الفصائل التي يفضلها الروس، وطعنتْ في الفصائل المعادية لها، وأقدمت في سبيل ذلك على التعتيم على أدلة مادية في بعض الحالات. أحد الأمثلة الفاقعة على ذلك هي حالة الكولونيل ميهايلوفيتش قائدِ وحدات الـ’تشتنيك‘ اليوغسلافي، حيث اتهمه الروس – الذين كانوا يفضلون تيتو بصفته رجُلَهم – بالتعاون مع الألمان. وتبنت الصحافة البريطانية هذا الاتهام على الفور، ولم تُعطِ فرصة لمؤيدي ميهايلوفيتش للرد عليه، وأما الحقائق التي تتناقض مع الاتهام، فقد جرى الإبقاء عليها ببساطة خارج إطار الطباعة. في يوليو عام 1943 عرض الألمان جائزة بقية 100 ألف مارك ذهبي للقبض على تيتو، وجائزة مشابهة للقبض على ميهايلوفيتش، فانتشر خبر جائزة تيتو كالنّار في الهشيم في الصحافة البريطانية، ولكن صحيفة واحدة فقط ذكرت جائزة ميهايلوفيتش، وبالخط الصغير. وعلى الرغم من ذلك استمروا باتهامه بالتعامل مع الألمان. وجرت الأمور على نحو مشابه خلال الحرب الأهلية الإسبانية، حيث طعنت الصحافة البريطانية اليسارية بلا تدقيق بالفصائل المنتمية للصف الجمهوري والتي كان الروس مصرين على سحقها، وقامت الصحف برفض نشر أي دفاع عنهم، حتى ولو كان في صيغة رسالة إلى المحررين. وفي الوقت الحالي، ما عاد النقدُ الجدِّي للاتّحاد السوفييتي مدعاةً للتوبيخ وحسب، بل إن حقيقة وجود مثل هذا النقد أصلاً يُحافظ عليها سراً في بعض الحالات: على سبيل المثال، نشر تروتسكي قبل موته بوقت قصير سيرة ذاتية لستالين، وعلى الرغم من أننا قد نتوقع أن هذا الكتاب ليس حياديّاً بالكامل، ولكن من الواضح أنه قابل للبيع. كان ناشر أميركي قد نسق إصداره وأصبح الكتاب متوفراً (وأظن أنه جرى إرسال نُسخ مجانية إلى المراجعات). وفي ذلك الوقت، دخل الاتحاد السوفييتي الحرب، فتم سحب الكتاب على الفور، ولم تظهر كلمة واحدة عن هذا الموضوع في الصحافة البريطانية، على الرغم من أن وجود مثل هذا الكتاب، والتعتيم عليه، قصة تستحق بالتأكيد بعض المقاطع في الصحف.
من المهم التمييز بين نوع الرقابة الذي تمارسه الإنتلجنتسيا الإنجليزية على نفسها طوعاً، وبين الرقابة التي يمكن أن تمارسها في بعض الأحيان مجموعات الضغط. فمن المعروف للقاصي والداني أن بعض المواضيع لا يمكن مناقشتها بسبب ’مصالح خاصة‘، والقضية الأكثر شهرة من هذا النوع هو احتيال الأدوية الوهمية. أيضاً، للكنيسة الكاثوليكية الكثير من النفوذ في الصحافة ويمكنها أن تُسكت النقد الموجه نحوها إلى حد ما، ففضيحة تتضمن قساً كاثوليكياً تكاد لا تحصل على أي تغطية، بينما إذا وقع قس إنجيلي في ورطة (مثلاً، قس ستيفيكي) فإن حكايته تصل إلى الصفحات الأولى. من النادر جداً أن يظهر شيء معادي للكاثوليكية على خشبة مسرح أو فلم، ويمكن لأي ممثل أن يخبرك بأن مسرحية تهاجم أو تسخر من الكنيسة الكاثوليكية فهي إنما تُعرّض نفسها للمقاطعة الصحفية، وسوف تُخفق على الأغلب. ولكن هذا النمط من الأحداث ليس مؤذياً، أو إنه على الأقل مفهوم، إذ إن أي مؤسسة ضخمة سوف تسعى لتحقيق مصالحها على أفضل ما تستطيع، والبروباغندا الصريحة ليست شيئاً ينبغي الاعتراض عليه. فالمرء إذاً لا يتوقع من صحيفة ذا ديلي وركر أن تنشر وقائع غير حميدة عن الاتحاد السوفييتي أكثر مما يتوقع أن تقوم صحيفة ذا كاثوليك هيرالد بالهجوم على البابا. ولكن كل شخص ذي تفكير يعرف اصطفاف هاتين الصحيفتين. ما أجده مقلقاً هو أنه، عندما تكون مصالح الاتحاد السوفييتي وسياساته هي موضوع الحديث، فإن المرء لا يستطيع أن يتوقع نقداً ذكياً – وفي حالات كثيرة، ولا حتى مجرد صدق – من الكتاب والصحفيين الليبراليين الذين هم لا يخضعون لأي ضغط مباشر لتزوير آرائهم. فستالين قدسٌ من الأقداس وبعض جوانب سياسته ينبغي ألّا تُناقش بجدية، وهذه القاعدة باتت فاعلة على نحو شامل منذ عام 1941، ولكنها فعلت فعلها – إلى حد أكبر مما هو معروف أحياناً – قبل عشر سنوات من ذلك. فعلى مر ذلك الوقت ما كانت تستطيع الانتقادات الموجهة للنظام السوفييتي والقادمة من اليسار أن تحصل على فرصة لسماعها إلا بصعوبة. وكان هنالك كم ضخم من المنشورات المعادية للروس، ولكنها كلها تقريباً قادمة من الجانب المحافظ، وغير صادقة بشكل واضح، وعتيقة في طرحها، وتكمن من خلفها دوافع خسيسة. من جانب آخر كان هنالك تدفق مساوٍ من حيث الكمية، ويكاد يكون مساوياً من حيث عدم الصدق، من البروباغندا الداعمة للروس، ونتيجة ذلك كله هو أن أي أحد يحاول مناقشة أسئلة شديدة الأهمية بأسلوب ناضج تتم مقاطعته. إذْ كان بإمكانك فعلاً أن تَنشُرَ كتباً معادية للروس، ولكن فعل ذلك سوف يضمن أن تتجاهلك الصحافة الرفيعة كاملةً، أو تسيء فهمك. وتصل إليك التحذيرات، في العلن وفي الأحاديث الشخصية، بأن هذا شيء ’لا يصح‘، وأن ما تقوله ربّما يحملُ شيئاً من الصحة، ولكنه ’في غير محله‘ و’يصب في مصلحة‘ هذا الطرف الرجعي أو ذاك. وجرى الدفاع عن هذا الموقف في العادة على أساس أن الحالة الدولية، والضرورة الحرجة لتحالف أنغلو-روسي، تتطلبان هذا الموقف. ولكن كان من الواضح أن هذا مجرد تبرير، فالإنتلجنتسيا الإنجليزية، أو جزء كبير منها، قد تطور لديها ولاءٌ وطنيٌ نحو الاتحاد السوفييتي، وباتوا يشعرون في قلوبهم بأن إبداء أي شك بحكمة ستالين ضرب من ضروب الكُفر. أصبحوا يرون أن الأحداث في روسيا، والأحداث في غيرها من الأماكن، ينبغي التعامل معهما بمعايير مختلفة، فالإعدامات التي لا تُحصى (التي حدثت أثناء التطهير الذي جرى بين عامي 1936-1938) صفَّق لها مناوئون مخضرمون لعقوبة الإعدام، وبدا أنه من المقبول بالطريقة نفسها إذاعة أخبار المجاعات عندما حصلت في الهند ومن ثم إخفاءُ أخبارها عندما حصلت في أوكرانيا. وإذا كان ما أتحدث عنه صحيحاً قبل الحرب، فإن الوسط الفكري اليوم ليس في حالٍ أفضل بكل تأكيد.
ولكنني أستدرك الآن لأعود للحديث عن هذا الكتاب الذي كتبته، ردة الفعل تجاهه من قبل معظم المثقفين الإنجليز سوف تكون بسيطة إلى حد كبير: ’ما كان يجدر به أن يُنشر‘، وطبعاً فإن كتاب المراجعات أولئك، العارفين في فن تشويه السمعة، سوف لن يهاجموه على أرضية سياسية، بل على أرضية أدبية. سوف يقولون أنه كتاب ممل وسخيف وإهدار معيب للورق، وقد يكون كلامهم صحيحاً، ولكن من الواضح أنه ليس القصة كاملة، فالمرء لا يقول بأن كتاباً ’ما كان ينبغي أن يُنشر‘ لمجرد أنه كتاب سيء، إذ أن هنالك أطنان من القمامة التي تطبع يومياً دون اعتراضٍ من أحد. إن الإنتلجنتسيا البريطانية، أو معظمها، سوف تعترض على هذا الكتاب لأنه يتعدى على قائدهم ويتسبب (حسب رؤيتهم) بضرر لقضية التقدم. ولو كان توجه الكتاب معاكساً لذلك لما قالوا عنه شيئاً من ذلك القبيل، حتى لو كانت عيوبه الأدبية أفقعَ بعشر مرات مما هي عليه. إن نجاح نادي الكتاب اليساري على مر أربع أو خمس سنوات يوضح أنهم مستعدون لتحمل الجلافة والابتذال في الكتابة ما دام الكتابُ يقولُ لهم ما يودّون سماعه.
وهنا.. القسم الثاني من المقدمة