ليست كل الجدران صالحة للغرافيتي

من الجدار في بيروت

ياسر أبو شقرة

كاتب مسرحي فلسطيني سوري

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

10/01/2017

تصوير: اسماء الغول

ياسر أبو شقرة

كاتب مسرحي فلسطيني سوري

ياسر أبو شقرة

بين الاحتجاجي الغاضب، المرسوم على الجدران دون إذن أصحابها، وبين طريقة تشكيل الأحرف والألوان الصاخبة، بهدف إضفاء بعد جمالي على المدن، تتراوح القراءات العامة للوحات الغرافيتي، وعلى الرغم من كسر هذا الفن لقاعدة رسمة على الجدار، وخروجه إلى اللوحات التشكيلية التقليدية في السنوات الأخيرة، حيث ارتبطت التسمية “غرافيتي” بطريقة معينة في الرسم أكثر من ارتباطها بالجدران التي شكّلت المساحة الأساسية ليتطور هذا المُنتَج على سطوحها، إلا أن المفردة ما زالت تطلق على كل ما يتم رسمه أو كتابته على الجدران لهدف فني معين أو إيصال رسالة محددة، غير دعائية. وفي الكثير من الأمثلة اتضحت قدرة الغرافيتي الهائلة كفن مؤثر بالمجتمعات فكرياً وجمالياً، فهل أدى الغرافيتي رسالته التي صنع من أجلها في بلداننا؟

حلب “أنسنة الجدران”

خرج، مؤخراً، من بقي حياً من شرقي حلب، بعد حملة همجية أطلقها النظام وحلفاؤه على المدينة، دمرت أجزاء واسعة منها، وما كان يخفى على أحد استعداد المعتدين لتدمير المدينة بالكامل. وبعد خروج أهل المدينة منها وترحيلهم بشكل قسري، كتب بعض الشبان على جدران بيوتهم، وهي أكثر الجدران حميمية بالنسبة لهم، بعض العبارات التي هدفت إلى بعث الحياة في مكان عرفوا جميعاً أن السكون والموت سيستعمرانه لأجل غير مسمى. وأفلحت العبارات المكتوبة في أنسنة الجدران الصماء، رغبةً في إعطائها روحاً إجلالًا لصمودها تحت القصف، ورغبة في بقاء هذه الجدران حية للأبد.

لم نر رسومات بعدد ما رأينا عبارات كتبت على عجل، توحي من شكلها أنها كتبت لحظة خروج أصحابها، ووثقت هذا الخروج، وأرادت أن تعلن أن حياة كانت هنا، وانقطعت قسراً، سؤال هل سيبقى الجدار كي يحمل ما كتب عليه إلى لأبد، لم يكن سؤالاً بقدر ما كان أمنية بالنسبة لمن أراد وضع قبلة أخيرة على جدران أحبها، وهي بدورها لا تشعر بالقبلة بمعناها التقليدي. بل ما يبعث الروح فيها هو عبارات عاطفية بحتة، توثق نقيضاً لمظهر الدمار الشائع، ألا وهو تفاصيل إنسانية كعلاقة زوجين وُثِّق بعضٌ منها على جدار كان طرفه الداخلي شاهداً صامتاً على تفاصيل علاقتهما في ظرف غير إنساني، وطرفه الخارجي الناطق بحبهما بعد أن كتب عليه الزوج امتناناً لحبيبة شاركته الحصار. علاقة الناس بجدران مدينتهم الشرعية كانت علاقة حميمية لمكان فاجأ الجميع، بعد أن اعتبر السكان أن للمدينة روحاً لا يملكها عالم نظر لموتهم بلا مبالاة.

بيروت “لوحات تقتلع جداراً غير شرعي”

في آب 2015، أثناء الحراك اللبناني، الذي تجلى بمظاهرات أمام مبنى السراي الحكومي في ساحة رياض الصلح في بيروت، ضربت حكومة تمام سلام جداراً حول السراي، حوّله المتظاهرون خلال أيام قليلة إلى فرصة للضغط الشعبي، بعد أن باتت قطع الاسمنت المتلاصقة لوحات لفناني المدينة، وارتبطت اللوحات مباشرة بأهداف الحراك، والأسباب التي أدت إليه، وبسبب سرعة العملية واستغلال الفنانين الجدار “غير الشرعي”، ومن ثم تحويله لورقة ضغط كهتافاتهم، ولافتاتهم، اضطرت الحكومة إلى إزالته، وإن لم تزله الحكومة بسبب اللوحات وحدها، لكن الدور الذي لعبه هذا النوع من الرسم ساهم بشكل كبير بتشكيل ورقة ضغط أجبرت الحكومة على الاعتراف بعدم شرعية وجود الجدار، فأزالته لاحقاً، فليس هناك من حكومة في العالم تريد تثبيتاً بصرياً لمصائبها، ولم يكن هدف إنشاء الجدار من قبل الحكومة (منع المتظاهرين من الوصول لمبنى السراي) يحتاج لأن تدفع الحكومة مقابله تجسيداً لفضائحها، التي باتت ظاهرة بصرياً على الجدار، وبالتأكيد لم يكن الغرافيتي وحده سبب إزالة الجدار من قبل الحكومة، إنما كان أحد أهم الأسباب.

في هذا النموذج النقيض للنموذج الحلبي لعب الغرافيتي دوراً هاماً ووصل إلى غايته، ففي بيروت اقتلع الجدار غير الشرعي بقوة مقاومة مطلبيّة حملها الغرافيتي، بخلاف جدران حلب الشرعية التي تمنى الناس لها أن تحيا بعبارات عاطفية أكثر من كونها مطلبية مادية. فانتصر الغرافيتي العاطفي في حلب ببقاء الجدران، ومات الغرافيتي اللبناني بانتصار فكرته.

فلسطين “تزيين جدار قبيح يجب أن يظل قبيحاً”

يختلف الوضع في فلسطين ويكاد يكون أكثر ضبابية من حيث علاقة الفنانين مع جدار الفصل العنصري، وما هو نوع الغرافيتي الذي يجب أن يكون عليه، لا نقصد هنا إلزام الفنانين بطروحات معينة بقولة “حول ما يجب أن يكون عليه”، لكن طالما أن هذا الجدار هو جدار فصل عنصري يحلم كل الأحرار في العالم وليس الفنانين فقط، بزواله، فهناك تناقض صارخ في تزيين ما تكره وتتمنى زواله بلوحات وكأن أصحابها أرادوا لها الخلود في مكانها من حيث عنايتهم بجمالية تشكيلها، كلوحات تعيد تجسيد المسجد الأقصى اعتدنا رؤيتها في كل مكان على سبيل المثال، كما أن الاعتيادية هنا هي مشكلة أخرى من حيث أنه لا يجب أن تمر لحظة يصبح معها الجدار اعتيادياً، فهو أحد أكبر المسببات لمآسي الناس، ناهيك عن المعنى السياسي لوجوده، لدى الاحتلال.

أكثر من ذلك، بات بعض الشبان من فلسطينيي الشتات دون وعي منهم يفخرون بأن لهم أصدقاء كتبوا أسمائهم على هذا الجدار، وكأنهم يثبتون وجوداً في مكان حلموا دائما أن يوجدوا فيه، وهذا مبرر رومانسي للتأقلم مع جدار وجوده بحد ذاته مصيبة، وبدأ يصبح اعتيادياً يوماً إثر يوم، لدرجة أن نسي من في الداخل كتابة اسم صديقه على جدران بيته وحارته الشرعية، وقام بدلاً من ذلك بكتابته على جدار الفصل العنصري، والآخر فرح بها من الخارج وبالغ بالفرح مسحوراً برومانسية صبيانية لم ولن تمكنه من تمني زوال اسمه في هذه المنطقة تحديداً مع زوال ما حمله، وهنا برأيي يجب أن يبدأ السؤال لدى فنان الغرافيتي الفلسطيني الذي اختار جدار الفصل سطحاً لمنتجه: ما مدى استعداده لصنع فن متمنياً زواله أكثر من خلوده عكس كل فناني العالم؟

الكاتب: ياسر أبو شقرة

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع