أول مرة دخلت فيها أميركا الحرب العالمية الثانية، كانت عبر المجلات المصورة/ الكوميكس. لعب سوبرمان دون سائر الأبطال الخارقين، ومنهم “مستر أميركا”، الدور المحوري فيها. وعلى الرغم من كونه لاجئاً وغير أميركي، إلا أن الرسامين وجدوه الشخص الأنسب الذي يمكن أن يضع فيه الأميركيون – المرسومون بدورهم – جل ثقتهم. أميركا لم تكن قد اتخذت القرار رسمياً بدخول الحرب. إلا أن فناني الكوميكس لم ينتظروا قراراً سياسياً بالأمر، فكلفوه هو بمهمة الفتك بالقوتين العظميين، الدكتاتوريتين النازية والسوفياتية، ثم العودة إلى ملجأه الأرضي سالماً.
مهمة سوبرمان كانت آنذاك غاية في البساطة، لا لكونه يتمتع بالقوى الخارقة، بل لأن هتلر لم يكن يعلم بوجود مادة الكريبتونايت التي تسلب سوبرمان قواه، ولا ستالين. وهكذا وجده القراء في إحدى القصص طائراً من نيويورك إلى ألمانيا لاعتقال هتلر، قبل أن “يميِّل” على موسكو لاعتقال ستالين. فيظهر في إحدى الصور، ممسكاً الفوهرر بيده اليمنى والرجل الحديدي باليسرى، لسوقهما إلى العدالة، منهياً الحرب في صفحة واحدة. لكنه لا يكتفي بذلك، بل يطارد عملاء الحزب النازي في البيوت والمدن، مفتتاً جهازهم العسكري والجاسوسي.
غير أن هذه الفانتازيات، لم تخفف كلياً من قلق الرسامين، الذين عادوا وأعلنوا من خلال سوبرمان شن الحرب على اليابان. بعدها تنبأت الكوميكس بضربة بيرل هاربر عبر قصة لـ”مستر أميركا” قائلاً جملته الشهيرة التي تعكس سلوك أميركا العدواني منذ أواسط الخمسينات من القرن الماضي “لقد بدأتم أنتم كل هذا، ونحن من سوف ينهيه”.
سوبرمان أشهر لاجئ متخيل عرفه التاريخ. ابتكره جيري سيغل وجو شوستر، فتيان يهوديان فقيران مولعان بقصص الخيال العلمي، عقب أزمة وول ستريت. وقد سعت شخصيته خلال فترة الأربعينات وأوائل الخمسينات إلى إحلال نظام سياسي يقوم على الإشتراكية، بحيث تتحقق العدالة الاجتماعية لكل الناس على اختلاف عرقهم ولونهم وثقافتهم. وخلال الحرب العالمية الثانية، كان الجنود الأميركيون يتلقون في بعض الأحيان، إضافة إلى الطعام والعتاد والرسائل، نسخاً من آخر اصدارات كوميكس “سوبرمان” للحاق به على الأرض. كان الهدف منها رفع معنويات الجيش الاميركي وتعزيز الشعور بالواجب تجاه الوطن. فهو استطاع أن يرسم صورة للاجئ تتنافى وصورة اللاجئين الطليان والبولنديين واليهود في ذلك الوقت، الذين كان بعضهم قد شكل عصابات مافيا منذ عشرينات القرن المنصرم لم تستطع الشرطة لجمها، عصابات نمطت صور مجتمعاتهم وأثارت الكراهية ضد قومياتهم.
أفادت أميركا من سوبرمان خلال فترة الحرب العالمية الثانية. لكنها انقلبت عليه بعد انتهاء الحرب مباشرة. قلصته إلى مجرد عميل “لاجئ”، كُلِّف بدور وطني للتعبير عن امتنانه لأميركا فقام به على أكمل وجه. جاءت الضربة الأولى من القراء أنفسهم الذين اعتبروا أنه ما دام العدو قد مني بالهزيمة وأميركا خرجت منتصرة، فإنه لم يعد هناك من حاجة لسوبرمان. انصرف القراء إلى مجلات الحيوانات الطريفة، قصص المراهقين، الاستجمام والسباحة والحب. كما قصص الوسترن ورجال العصابات والمخدرات والرعب وغيرها. في نفس الوقت، فإن بروز الروك أند رول، وبروز التلفزيون شكلا الضربة القاضية لعهد الكوميكس الذهبي، إذ اتجهت الثقافة العامة إلى هذا الفن واستبدلت المادة البصرية المقروءة بالتلفزيون.
كذلك، فقد سارع بعضٌ من أعضاء مجلس الشيوخ لاعتبار أن سوبرمان تهديداً للامة. ليواجه رسامو هذه الشخصية ولأول مرة، عدوهم الحقيقي الذي لم يكن وافداً أو لاجئاً أو زائراً يحمل إيديولوجيا نازية أو سوفياتية أو ثقافة إيطالية أو بولندية أو إفريقية أو يهودية، أو حتى من كوكب آخر، بل كان من الأميركيين أنفسهم. بدا أن أميركا تفتش عن غريم جديد لها، أو أزمة داخلية. وفي العام 1954، نشر طبيب نفسي ذو أصول ألمانية، يدعى فريدريك ورتهام كتابه الشهير “اغواء ذوي البراءة”، والذي بعد إجرائه دراسة ميدانية لعدد من سجون الأحداث، اعتبر أن الكوميكس مسؤولة بشكل أساسي عن تخريب الأجيال، نافياً أن يكون للأهل أي دور في ذلك مهما بلغت درجة استهتارهم أو لامسؤوليتهم. كما أدخل مصطلحاً جديداً هو “عقدة سوبرمان”، المتمثلة بأن ينعم شخص بتحطيم الآخرين ويراهم يعذبون مراراً وتكراراً بينما يظل هو منيعاً. وقد استعان به أعضاء مجلس الشوخ كشاهد ملك في قضيتهم التي اعتبروا فيها أن خطر الكوميكس يفوق خطر هتلر. الأمر الذي أثر على الكوميكس.
والحقيقة أن سوبرمان، لم يهدد السياسة السرية الأميركية سوى مرة واحدة وذلك عندما استيقظ فريق من علماء الفيزياء النووية ممن كانوا يعملون على القنبلة الذرية بسرية تامة، ليجدوا أن كوميكس سوبرمان تتطرق إلى هذ الموضوع، بل وتفصح عن جهاز الـ”سايكلوترون”، وأن سوبرمان في القصة، يكون موجوداً معهم في مختبرهم السري تحت الأرض. وكان على السلطات الفدرالية أن تتحرك سريعاً. كانت تلك المرة الوحيدة التي يمكن لنا فيها اعتبار سوبرمان جاسوساً سوفياتياً (علماً أن السوفيات نسخوا الشخصية وجعلوا مركبة الرجل الفولاذي تهبط في الإتحاد السوفياتي بدلاً من أميركا).
لكن أميركا لم تكف يوماً عن صنع اللاجئين. بخلاف أنها على أرض الواقع، لم ترد لهم يوماً أن يتحلوا بأي قوى خارقة. هؤلاء بدأوا فلسطينيين عام 1948 وانتهوا سوريي الجنسية في 2011، واهنين كما لو أنهم يعيشون داخل صخرة من الكريبتونايت. مع الإبقاء على ثابتة استعارتْها السياسة الأميركية، من دون أن تعي، من رمزية سوبرمان الأكثر إشكالية هنا، والمتمثلة في كون موطن سوبرمان الأصلي كريبتون، إنما هو المُركّب الوحيد الذي يمكن أن يسلبه قواه ويميته. فانتازيا تقول “إذا أردتم يا أيها اللاجئون أن تكونوا أبطالاً خارقين، فلا تعودوا إلى موطنكم”. مع فارق أن لاجئي اليوم، لم يعد لديهم أي أمل ببلوغ أميركا قط، بعد وصول ترامب إلى سدة الرئاسة، الذي يشبه وصول “ليكس لوثر”، عدو سوبرمان اللدود، والفاحش الثراء، إلى سدة الرئاسة الأميركية في أحد أعداد سوبرمان، فيتحتم على هذا “اللاجئ” الخارق حينها، أن يخلص أميركا من هذا المأزق. لكن هذا، لم يحدث اليوم ولن يحدث.
ففي بلادنا، كف اللاجئ منذ وقت طويل، عن أن يكون بطلاً خارقاً.