يذهب أري دي لوكا إلى قلب التوراة ليكتب روايته القصيرة “باسم الأم” (دار الجمل، ترجمة نزار آغري). يقف على ميلاد يسوع، الحدث الأكثر تداولاً بين البشر، ليعيد صوغه أدبياً. هذه المرة، عبر صوت مريم، العذراء وخطيبة يوسف، والتي بحسب النص الديني، تحمل بالطفل عيسى المسيح، يسوع أو المخلّص، بكلمة من ملاك لا بنطفة.
إنها الحكاية التوراتية الأشهر في التاريخ، والتي لطالما شكلت الذاكرة الجماعية وأساس الهوية الدينية لدى ملايين البشر على مر العصور. بخلاف أن مريم هي الحكّاءة في رواية “باسم الأم”. هي مصدر النص، والراوية الأولى. دي لوكا، يعيد الحكاية إلى جذرها الأول. حمل مريم وما ترتب عنه من تبعات ونتائج. إنه الحدث المؤسس لكل ما سيأتي لاحقاً. والمؤسسة الدينية لم تفسح المجال لمريم أن تروي حكايتها. يعمل دي لوكا على إبراز الجانب الأمومي فيها، الجانب العضوي والحيوي. إنها المرأة المحاطة بملاك، وخطيب (يوسف) وجنين. صوت محوط بثلاثة أصوات مقدسة. وهي الأصوات التي تشكل الدائرة الصغرى لحياتها. والمطوقة بدائرة أكبر مهدِّدة، أكثر عدوانية وعصابية. أي المجتمع الجليلي الذي لا يروق له حمل امرأة قبل زواجها. فهذا مخالف للشرائع السائدة، للاعتبارات الاجتماعية المتداولة، والتي بحسبها، قد يحكم بالموت على المرأة التي تتعرض للاغتصاب لأنها لم تصرخ بما فيه الكفاية.
باسم الأم تفتتح الحياة، بحسب ما يقول دي لوكا في مفتتح روايته. والأم هنا، هي التي عاشت تمرداً مكتوماً، رُفِضت وناضلت. مريم أشهر نازحة في التاريخ. بعد أن ينبذها سكان الجليل، تغادر ويوسف الذي يعمل نجاراً، إلى بيت لحم على ظهر أنثى حمار. حملُها، الذي لا يمكن تصديقه، يعني أنها مدانة ويجب أن تُرجم حتى الموت باعتبارها زانية، وإذا ما تم ذلك فسوف يكون على يوسف، حبيبها، أن يرمي الحجرة الأولى في عملية الإعدام هذه.
النوفيلا هذه، يجوز أن تكون، في جزء منها، تشبيهاً طويلاً لسيرة حياة الكاتب، من أولى تجاربه في الانتماء إلى بيته الأول (نابولي) والذي سينفر منه قبل أن يضطر إلى العودة إليه مجدداً. ما يحيل على يوسف المولود في بيت لحم والمهاجر منها طفلاً إلى الجليل قبل اضطراره للعودة إليها بسبب حمل مريم. كذلك، انتماء دي لوكا إلى حزب يساري راديكالي، ونضاله ضد أشكال التمييز والحروب والجنرالات، وترحاله المتواصل واشتغاله عامل بناء.
مريم في هذه الرواية، لن تكون مجرد قناة يمر عبرها يسوع إلى العالم. دي لوكا عمل على تضخيم السمات الإنسانية، الأنثوية تحديداً. إنها ليست والدة النبي أو المخلص بعد. وإنما المرأة، المرأة الحبلى وحسب، المباركة والفقيرة والمجهولة بالنسبة لمجتمعها الجديد الذي وصلته في بيت لحم. حملها الرباني يؤلف شروط علاقتها بجسدها، يكشف فيها هذه الفطرة الأمومية. الحمل، الولادة، الطفل الذي يلبط في أحشائها، كلما تفوهت بشيء لم يرق له. نحن إزاء هذه العلاقة السرية بين الأم والجنين، العلاقة الشخصية والخافتة، الحوار الذي لا يسمعه أحد بينهما، حوار بالصوت والإشارة، وعبر البطن والجسد الأنثوي الذي يشكل قناة التواصل بينهما. السمات الأمومية هذه يتمسك بها دي لوكا بكل موجباتها، حتى النهاية، كخوف مريم البشري على وليدها القادم، فيجعلها الكاتب تقول “لا تجعله وسيماً، لا تجعله محط حسد الآخرين.(..). إيشوعك هذا اعتبره مشروعاً فاشلاً وتخل عنه”. العبارة التي تدل على النسيج الأرضي للرواية المكتوبة بصيغة مونولوغ بلسان مريم. كذلك، تدل على تدخّل دي لوكا روائياً في هذا الماضي.
يخرج دي لوكا على قدسية الحكاية الموصى بها في التوراة والأناجيل. كما لو أن لا شيء نهائي أمام مشرط الأدب. ليست مريم وحدها المعادة إلى بعدها الإنساني. يوسف أيضاً ويسوع الذي تحلم به أمه أن يكون طفلاً كالأطفال. طفل عادي وحسب، بلا أية مهمة. التاريخ هنا ملاذ الكاتب ومنه يستمد مواده الأولية. يبحث فيه عن واقع روائي لا يزال قابلاً للتدوير والإضافة وإعادة الصياغات. عمله في هذا السياق اشتغال على العمق السفلي من الذاكرة، العمق الراكد، السميك والبليد، ونكشه بعيداً عن كليشيه النظرة النقدية المباشرة إلى الدين.
نحن إذن أمام نسج روائي في كادر مشدود الأطراف، مغلق. لا استطرادات ولا تنويعات بارزة على السرد أو الأصوات. ولا إشارات لما سيحدث لاحقاً لهذا الطفل. سنبقى فقط في فصل الحمل من الحكاية/الملحمة. بلا استرسال ولا إحالات على أحداث غير مألوفة أو صادمة أو مساءلات نقدية بارزة. الأدب معفي من كل هذا الشطط الإيديولوجي هنا والإلتزامات العرفية. ودي لوكا لن يتولى مهمة البحث في الإشكال الديني هنا ولا تفحّص الخوارق أو الميتافيزيقيا. إنه ملتزم أمين بالحكاية المتوارثة وفضائها الثيولوجي الثابت.