نترجم هنا مقالة رشيد الخالدي* في مجلة “ذا نيويوركر”، نُشرت قبل أيام.
ترجمة: الطيب الحصني
أفضت الانتخابات الأميركية إلى وصول دونالد ترامب، الذي شكل إدارة ذات أولويات متطرفة جديدة بخصوص إسرائيل، إضافة لكونها تزدري الحقوق الفلسطينية، لتواجه فلسطين واقعاً تتجدد مرارته، ففي السنوات الأخيرة كانت التيارات الصاعدة في الولايات المتحدة وإسرائيل، تصبح أكثر انسجاماً. ولكننا الآن نشهد مرحلة تجاوزت فكرة الانسجام إلى ما هو أبعد من ذلك، فالبعثة الدبلوماسية التي يرسلها أحد البلدين لتمثيله لدى الآخر، باتت تستطيع تمثيل الآخر لدى بلدها: السفير الإسرائيلي في واشنطن، رون ديرمير، الذي ترعرع في فلوريدا، يمكنه بسهولة أن يكون سفير الولايات المتحدة في إسرائيل، وفي المقابل عيّن دونالد ترامب، دايفيد فريدمان، سفيراً لأميركا في تل أبيب، ومن الممكن له أيضاً أن يكون سفيراً لحكومة نتنياهو في واشنطن، خصوصاً أنه معروف بعلاقاته الوثيقة مع حركة الاستيطان في الضفة الغربية والقدس.
سابقاً، كان قلق أميركا المحموم تجاه مصالح إسرائيل، وقلة اكتراثها بالفلسطينيين، يتغطيان خلف عباءة من الخطاب المتوازن، لكننا اليوم مع الإدارة الجديدة للبيت الأبيض، مهيئون لنرى التقاء متكاملاً بين قيادة أميركا السياسية، والحكومة الأكثر شوفينية ودينية ويمينية في تاريخ إسرائيل. هذا الحلف بين الحكومة الإسرائيلية وأصدقائها المفضلين بين الأمريكيين هو الذي سيحدد إيقاع فلسطين على مدى السنوات القادمة على الأقل.
إن البنية الفلسطينية السياسية والاقتصادية -التي نشأت منذ اتفاق أوسلو 1993- جرى إنشاؤها برمّتها على أساس أنها ستتحول إلى دولة فلسطينية حقيقية، قادرة على الحياة، ومتصلة جغرافياً، هذا الوهم، الذي قبله كثير من الفلسطينيين، أزيحت عنه الستارة الآن تماماً. وكانت هذه البنية المغلوطة مبنية أيضاً على افتراضٍ أقل ما يوصفه به أنه ساذج، وهو أن الولايات المتحدة لديها مصلحة قومية في جعل سلوك إسرائيل أكثر وسطيةً، والوصول إلى نزرٍ يسيرٍ من العدالة في الشرق الأوسط. هذا الافتراض أيضاً جرى تدميره.
السلطة الفلسطينية -التي أنشأها اتفاق أوسلو في ظاهر الأمر كجزء من إجراء مرحلي يفضي في النهاية إلى حكم ذاتي فلسطيني- سوف تستمر بإيذاء الفلسطينيين أكثر من إفادتهم. قليلون هم الذين يفهمون أن استعمار الأرض الفلسطينية، والاحتلال المستمر منذ نحو 50 عاماً -من بين الأطول في التاريخ الحديث- ما كان قابلاً للاستمرار إلى اليوم لولا الرعاية الأميركية والإسرائيلية للسلطة الفلسطينية، وقواتها الأمنية المدرّبة أميركياً. لقد قامت السلطة الفلسطينية بتجريم أي شكل من مقاومة السلب، والتمييز، والتسلط الإسرائيلي العسكري الدائم، وجعلها هذا عملياً أداة تعاون مع الاحتلال؛ حتى كتّاب المدونات والمتظاهرون السلميون باتوا عرضة للاعتقال والتحرش من قبل قوات السلطة الفلسطينية. إن الطريقة التي تعمل بها هذه المؤسسة ضد شعبها تسمح لنا بأن نرى لمحة من المستقبل الذي يخططه المسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون للفلسطينيين في الأراضي المحتلة: مستقبل محصور، ومتحكم به، وفارغ من أي سيادة أو تقرير للمصير.
من الواضح جداً أن الولايات المتحدة في عهد ترامب، وإسرائيل في عهد نتنياهو، لن تفعل أي شيء لتغيير هذه الصورة. وفي هذا السياق، يواجه الفلسطينيون اليوم خيارات قاسية: فإما أن يستسلموا لما تملي به الولايات المتحدة وإسرائيل أو أن يعملوا على وجه السرعة، على إعادة تعريف جوهرية لحركتهم الوطنية، وأهدافهم، وأساليبهم في مقاومة القمع. لقد آن أوان تخلي الفلسطينيين عن التجربة المخفقة، التي هي السلطة الفلسطينية، والتخلي عن أشكال العنف التي لا تعمل إلا على تمتين قبضة اليمين على السياسة الإسرائيلية. لقد حان وقت تعبئة الطاقات الضخمة المتوفرة في الشتات الفلسطيني والتوقف عن التفكير بفلسطين على أنها ليست أكثر من ذلك الفتات المقسّم تحت الاحتلال الاسرائيلي؛ وحان وقت البدء بتخيل الطرق التي سيستطيع فيها الفلسطينيون والإسرائيليون التعايش في هذه البلد التي سيضطرون في النهاية إلى التشارك فيها بمساواة كاملة، ما إن تتحرر من سلطة هذه المجموعة على تلك. ستكون هذه مهمات صعبة جداً على الفلسطينيين، وهي تأتي بعد عقود من المعاناة من الحرب والسلب والاحتلال.
على الرغم من كل ذلك، هنالك بعض علامات الأمل، على الأقل في الولايات المتحدة، فبغض النظر عن مواقف الحزبين الديمقراطي والجمهوري تجاه إسرائيل والفلسطينيين، فإن الرأي العام الأميركي يتغير بسرعة من عدم قبول أي نقد لإسرائيل، إلى ارتفاع حدته مؤخراً، وفي المقابل إبراز تعاطف أكثر مع قضية الحرية الفلسطينية. مثلاً، نشرت مؤسسة “بروكينغز” في ديسمبر استطلاعاً في الرأي كانت نتائجه لافتة: 60% من الديمقراطيين و 46% من كل الأميركيين يؤيدون عقوبات أو قرارات أقسى ضد إسرائيل بخصوص المستوطنات اليهودية غير الشرعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويظهر استطلاع آخر أجراه مركز أبحاث “بيو” أنه، وللمرة الأولى، تتساوى نسبة الديمقراطيين المتعاطفين مع الفلسطينيين، مع تلك المتعاطفة مع إسرائيل، بينما ترتفع عند الديمقراطيين الليبراليين فتبدو النتائج مع الفلسطينيين (38%) أكثر بكثير ممن هم مع إسرائيل (26%).
هذه التغيرات، قد تصل مع مرور الزمن إلى السياسيين وصناع القرار في واشنطن. لكن في الوقت الحالي، فالأمر بين أيدي الأفراد ذوي الضمير، ومن ضمنهم أولئك الذين يواجهون موجة العنصرية والتطرف اليميني المتوقعة في عهد ترامب. هؤلاء عليهم أن يمارسوا الضغوط على ممثليهم المنتخبين كي يرتقوا إلى مثل الحرية والعدالة، وليضعوا إسرائيل أمام مسؤولية خروقاتها للقانون الدولي وإنكارها للحقوق الوطنية والإنسانية للفلسطينيين.
*هو مؤرخ فلسطيني أميركي وأستاذ كرسي إدوارد سعيد للدراسات العربية في جامعة كولومبيا.