حتى في “مشروع وفاته” أراد صادق جلال العظم أن يظل ريادياً وثورياً واستثنائياً. في وصيته الطويلة، العائلية والفكرية، طلب أن تُقرأ في جنازته وفي لقاءات تذكره، قصيدة محمود درويش “لاعب النرد”. يكرس هذا الطلب المُدهش والملفت المكانة التي احتلها العظم في ذلك الرواق المميز للأفكار والكلمات والأدب والفن. لم يرد أن يغادره حتى لحظة وفاته. ظل وفياً وبإمتياز لعقلانية باذخة، بها اجتاز عتبة الموت بكبرياء الظافر. على فراش المغادرة، كان يقول، وكما تروي إيمان زوجته ورفيقته في شطر طويل من عمره، أنه يريد أن يرحل سريعاً وخفيفاً، أن لا يكون عبئاً على محبيه، وعلى الممرضات والممرضين الذي أخجلوه بإهتمامهم ورعايتهم الشديدة به، لا يريد حياة من دون معنى، أو ربما لنا أن نقول من دون سجال.
هنا في قلب برلين وفي قاعة المدينة العريقة نظمت مؤسسة ابن رشد للفكر الحر التي منحت جائزتها الدورية للعظم في إحدى دوراتها إحتفالية كبيرة بالراحل العظم، وفيها تعالى نبر محمود درويش على أنغام الأخوين جبران، يحلق بوداعيته الأشهر “لاعب النرد” ويسهب في ملاحقة مراحل حياته وتقلبات نردها. يقول حكمت بشناق، رئيس مؤسسة ابن رشد، هذه أول مرة ننظم فيها نشاطاً تُحجز فيه كل مقاعد القاعة الكبيرة التي تتجاوز الثلاثمائة، وتستطيل قائمة إحتياط المنتظرين لأزيد من نصف هؤلاء. فخورين كنا ولم نزل بالراحل، وبالاحتفاء به.
ما الذي شد العظم إلى “لاعب النرد” لدرجة النص في وصيته على قراءتها في جنازته؟ “لاعب النرد” هي كلمة درويش الأخيرة قبل الولوج إلى “الأبدية البيضاء” كما كان يصف الموت. ليست فقط مرثيته الخرافية لذات مشدوهة بتحولاتها وصراعات القدرة والحظ في تحديد سيروراتها، بل هي أيضاً تصفية حساب مع الحياة، واستسلام لذيذ لنهاية كان الشاعر قد رآها محتومة بعيد قراءته للقصيدة وسفره لإجراء العملية الجراحية التي كانت الفاصل الأخير في حياته، صيف 2008.
لنا أن نتخيل “لاعب نرد” درويش هو الإله “جاد”، إله حظ الكنعانيين المتمدد على مياه المتوسط في عصور قديمة ماضية. و”رمية نرد” ذلك الإله الأسطوري هي التي كانت تحدد مصائر الشاعر، عندما أعاد النظر في حياته باستراجع تأملي وهو في أوج ذروات نضجه الشعري والفلسفي. تبدت له هشاشة قدرته المتجسدة في مراحل حياته، وهشاشة ظنه بأنه كان يرسم قدره ويتحدى حيواته ويقرر خياراته بنفسه. وتبدت له الحياة وكأنها “لاعب نرد” عملاق تسير وفق رميات نرد طائشة هي التي تقرر البدايات والنهايات وما بينهما من مسارات واستمرار.
تأمل حياة وأفكار ومسار جلال العظم الفكري والسياسي والسجالي من زاوية “رؤية نردية” لا تقودنا إلى انسجام تام مع مضمون “لاعب نرد” درويش. بل ربما تقودنا إلى نهاية ووصف آخر هو “صانع النرد” الذي يبدو أكثر اتساقاً مع العظم. “لاعب نرد” درويش يراهن على الحظ، وفي نهاية النهايات يسلم مصيره له. عيونه تنشد على “رمية النرد” بانتظار هبوطها وظهور ما يحمله وجه النرد المتطلع للأعلى. “لاعب نرد” درويش يأمل ويحلم دوماً برمية تحمل “الستة” كاملة. لا يستطيع أن يفعل شيئاً سوى انتظارها واستمرارية المناورة مع أقدار الحظ حتى تأتي ويتحقق الأمل أو الحلم أو الرغبة. “صانع نرد” العظم يصحو قبل يقظة الجميع ويصنع نرده بذاته. يحاول أن يضع على وجوه نرده جميعها تلك “الستة” الكاملة ويغلق على الحظ أي منفذ. “نرد العظم” ظل طوال حياته قيد التصنيع الذاتي، فيه اعتلاء صهوة الاقتدار، وكبرياء مبارزة الحظ. فيه ملاحقة مساحات التوهم والإيهام والانتظار، عبر الانحياز إلى وضوح صارم وموقف لا لبس فيه. تلك كانت سمة العظم الأبرز وفيها مكمن شجاعته المُتفردة. في القضايا التي كان يداور فيها كثير من المثقفين، ويهربون من القبض على أطرافها الملتهبة نحو القبض على وسطها المريح، كان العظم يمسك الطرف الملتهب ولا يهاب. ذهب إلى جوهر التابوهات الثلاث في الفكر والسياسة العربية، السياسة والجنس والدين، وتجاوز السجال مع هوامشها. لم يتوقف عند التأويلات والتفسيرات بل ذهب عميقاً وبعيداً… إلى الطرف الملتهب.
المفكر والسياسي والفيلسوف في العظم لا يتفق مع “لاعب النرد”، مَن هو فيه إذن الذي اختار تلك القصيدة وتوقف عندها ملياً وسحره التأمل فيها؟ هل نعود إلى العظم الذي كتب في “الحب والحب العذري” لنحاول تلمس الفنان والمتأدب ومتذوق الشعر فيه وبكونه من انحاز إلى “لاعب النرد” في نهايات حياته؟ نعرف أن العظم ودرويش التقيا في بيروت في عصر المقاومة الزاهي، وثمة صورة للعظم تنسدل على كتفيه الكوفية الفلسطينية ومطلقاً لحية جيفارية كثة تحكي الكثير، وهي لا تزال في محفوظات العائلة. ونعرف أيضاً أن العظم ظل متواصلاً مع درويش ومعجباً ومريداً لشعره ويصفه بالعمق الشديد. هل قدمت “لاعب النرد” بإنحيازاتها الإنسانية المكثفة وإقراراتها العميقة بالإنشداه والحيرة الإنسانية فاصل استراحة للعظم الراكض دوماً، والمنطلق بلا قيود، والمتحدي بلا مهابة… حتى للموت؟ أم هل قدمت “لاعب النرد” بإنحيازها ليقين النهاية متمثلاً بالموت قدراً من اللايقين المريح لليقين الفلسفي والفكري الذي ظل ينوء على كتف العظم، محاولاً تغيير العالم الذي يمور حوله برفض ما يبشر به العظم؟
تظل الإجابة غامضة وتتسع لكل الاحتمالات، مضفية على ثنائية “لاعب النرد” و”صانع النرد” بعداً آخر فيه جماليات السؤال الصعب المُولّد لإجابات لا تنتهي. عندما تتسع الأجوبة والاحتمالات تتجسد على الأرض بطيف تطبيقي واسع وجميل، أو ربما يحلو لنا أن نرى ما حولنا بتلك الكيفية. هذه هي الكيفية التي تبدت فيها الاحتفالية الثرية والراقية والمتنوعة التي احتفت بالعظم غائباً حاضراً.
حضر العائلي المباشر، زوجته إيمان وابنه إيفان، وحضر الماضي الفلسفي المرافق للعظم، فيرنر انديه المستعرب الذي التقى العظم في أواخر الستينات مع صدور كتابه عن “النقد الذاتي والهزيمة”، وحضر المُستقبل الذي يحمل اسم العظم في مؤسستين باسمه، واحدة تهتم بالتعليم والمنح الدراسية، وثانية تُعنى بإرثه الفكري. وحضر الشرق كله في الموسيقى والغناء الصوفي المذهل بصفاء صوت بشار زرقان وعزف عوده المبدع، وتواصل الشرق الملغز في مقطوعات عازف الناي التركي أوزغير أرسوي متناغماً مع بيانو زياد حكيم الذي كان العظم يحبه كثيراً. وجاء الغرب الملغز أيضاً في صوت إيديث بياف مُغنى بصوت كاثرين لوكور وهي ترنم: Je ne regrette rien، “لا أندم على أي شيء”. أحب العظم، كما تقول إيمان اغنيات أيديث بياف، وليس من قبيل الصدفة ان تلتقي كلمات هذه الأغنية الفادحة للفرنسية الشهيرة مع كلمات بل وعنوان ديوان شعر كامل “لا تعتذر عما فعلت” لصاحب “لاعب النرد”. ربما تكشف لنا اختيارات ومذاقات العظم، التي حاول منظمو الحفل التعبير عنها وفاءً لما أحب الراحل الكبير، جوانب خفية من شخصيته، أو من الشخصيات المتعددة التي كانت كامنة فيه.
“صانع النرد” الذي قال في وصيته إنه ليس نادماً على شيء، خطا خطوته الأخيرة نحو “الأبدية البيضاء” وهو يبتسم لـ “لاعب النرد”. ربما اختلف تواقيت ومراحل وأشكال الصناعة واللعب، إلا أن كليهما صنع نرده، وكليهما لعب نرده، كما أراد ومن دون أي ندم.
جزء من كلمة في احتفالية “ذكرى صادق جلال العظم”، في “قاعة المدينة الحمراء”، برلين، 10 فبراير 2017