يقترب الروائي الفلسطيني عباد يحيى في روايته “جريمة في رام الله” (منشورات المتوسط، 2017) من انتهاك المحرم الذي رسّخته الصورة النمطية للفلسطيني، إذ جعلت منه ومن بناه المجتمعية، ومن قيادته وزعاماته، وبالتالي من السياسية ذاتها، فوق كل نقد أو كشف أو مساءلة، حتى لو تسببت تلك السياسات بالكثير من المخاطر والأزمات والاحتراب الداخلي، وهدر الحريات العامة والفساد الإداري وإشاعة الاستبداد. كما لو أن النقد هو إساءة متعمدة لصورة الفلسطيني “الرجل الطويل الصلب، الممسوس بالجنون والمحاط بالغبار المضيء”، كما وضع ترسيمتها الأولى الأديب غسان كنفاني في قصته “العروسة”، التي تمت إساءة توظيفها واستخدامها من خلال الرفع المتعمد، للعمل المقاوم وقيادته إلى ما فوق التجربة الإنسانية، وإلى ما فوق النقد.
“جريمة في رام الله” هي رصد لحياة الشباب الفلسطيني، وأنماط تفكيرهم وأحلامهم، في ظل حكم السلطة الفلسطينية لمدينة رام الله، بعد اتفاقيات أوسلو، عبر الذهاب عميقًا إلى حيوات ثلاثة شباب “رؤوف ونور ووسام” جمعتهم جريمة قتل غامضة، لم تعن لرؤوف سوى امتزاج ذكرى المكان الذي كان قد عمل به لأشهر قبل حدوث الجريمة، مع ذكرى استعادة حب قديم لا يزال يحاول الشفاء منه. بينما عنت لنور امتهان كرامته الإنسانية وتهديد سلامته الشخصية، نتيجة إصرار الشرطة على تقديمه ككبش فداء، عقب فشلها في العثور على المجرم الحقيقي. وأما لوسام فقد كانت الجريمة بمثابة رفض عنيف ودموي من قبل البنى التقليدية للمجتمع، لحالة التمرد التي قرر أن يعيشها مع صديقته خارج الأطر التقليدية للعلاقة بين الرجل والمرأة.
تتحول حياة رؤوف الطالب الجامعي الذي يقيم في مدينة رام الله، منذ عدة سنوات، من طابعها الاعتيادي واليومي، إلى الدرامي والصادم، عبر إعلان انسحابه من المحيط الاجتماعي الذي كان جزءًا حميميًا منه. والترفع عنه والتعالي عليه، إلى درجة وصف كل نشاط يقوم به الآخرون “الأنشطة الحزبية والرياضية داخل الجامعة” و”التعامل الجدي للطالبات مع الامتحانات” بالعمل التافه الذي لا جدوى منه ما دام لا يرتقي إلى مستوى الاكتشاف الذي توصل له، ألا وهو العيش في كنف الحبيبة. تلك الفتاة التي ربتت على كتفه من أجل توصيل الأجرة لسائق السيارة التي كانت تقلهم من جامعة بيرزيت إلى دوار المنارة في رام الله.
يكتشف رؤوف تفاهة الأشياء وتفاهة حياته، حين يكتشف عجزه عن إعلان مشاعر حبه نحوها، ومن ثم عجزه عن القيام بعرض الزواج على الفتاة التي وقع في حبها من النظرة الأولى، دون أن يخطر بباله رأي الفتاة ولا قرارها. يعكس موقف رؤوف من المرأة موقف الرجل الشرقي الذي يعتبر أن رأي المرأة في الموافقة على الزواج تحصيل حاصل مادام الرجل قد تقدم لخطبتها. في سبيل مواجهة عجزه في الاستحواذ على الفتاة عمليًا، يلجأ الشاب إلى الخيال، ومن أجل تصعيد هذا الاستحواذ، يلجأ إلى العزلة ويقرر التخلي عن كل أحد قد يشوش عليه عملية السيطرة الحِلْمية تلك. ولكن رؤوف ليس بالسذاجة التي يعتقد فيها أن حرارة الحب وحدها بقادرة على قلي بيضة، لذا لا يترك كل طريقة ممكنة للعثور على عمل إلا ويطرقها، حتى يحصل على وظيفة جامع بيانات لأحد مراكز رصد الرأي العام.
في العمل، على الرغم من قلة مردوده المالي، وعلى الرغم من طابعه الروتيني، يطور رؤوف مهارة القراءة لديه عبر قراءة “بعض التقارير والدراسات، بعض الكتب والمجلات”، ومن خلال القراءة يصبح أفضل فهمًا وأكثر تمرسًا في تحويل إجابات الناس المستطلعة آراؤهم إلى لغة الأرقام. تلك الأرقام التي يبيعها مدير المركز لمن يرغب بعد أن يتلاعب بدلالاتها وفحواها.
من طالب جامعي إلى عامل بار في خمارة أبي وليم، يكتشف رؤوف مع الوقت أن الخمارة ليست حفرة من حفر الجحيم كما رسخها المخيال الشعبي في وجدانه، ولا ترتادها إلا مسوخ بشرية على وشك ارتكاب جريمة ما. فلطالما التقى فيها بأناس من معادن نادرة، فيها من الصفاء الإنساني وعزة النفس والمشاعر الدافئة، ما يتفوق على مشاعر الكثير من أصحاب القلوب الجليدية الذين يعيشون في أزقة المدينة وحواريها. ومع تزايد وعيه بأن عالم الخمارة وأجوائه المصاحبة، لم يكن مركزًا للرياضة الروحية لشخص قلق مثله، إلا أنه لم يجد في قرارة نفسه أية غضاضة في أن يشكر أبا وليم على السماح له بالعمل فيها، رغم افتقاره لأي خبرة عملية. كيف لا وقد استطاع بفضل عمله الجديد استئجار شقة خاصة به، كما استطاع أن يكتسب إلى جانب ثقة أبي وليم وزبائنه، فرصة تطوير مهاراته التواصلية مع الآخرين، تارة عبر الحياد الذي يبديه الوسيط النزيه، وتارة عبر الصديق الحريص على سلامة ومودة طرفي الخصام، أو عبر اللجوء إلى الحزم في حال إصرار أحد الطرفين، أو كليهما، على إثارة المتاعب والعراك الجسدي.
وعلى الرغم من ذلك، استطاع رؤوف في هذا الجو المشحون بالترقب تحويل نفسه إلى كائن ليلي مرهف الحس. وبدلًا من اللغة المباشرة والفجة صارت لغته تميل إلى المجاملة والاحترام وإبداء التعاطف، وتحولت مشاعره من عالم اللامبالاة إلى عالم تفهم عواطف الآخرين، واحترام المشاعر التي تضطرم في نفوسهم، وبالمجمل فلقد نجح العمل في ترويض وتهذيب الكثير من الجوانب البرية والنزعات الفطرية القابعة في أعماق دواخله السحيقة.
طيلة أشهر وهو يقاوم المرأة في داخله، ولولا دنيا لسقط في وحل جسد أية امرأة عابرة، وللطخ فراء السمور الذي أصر على تزنير نفسه به كخط دفاع أولي، تحسبًا لتدنيسه جسده في أية لحظة ضعف أو نزوة عابرة. يا لشقائه! كأنما كانت حياته مخبأة بين يدين، تتسلل الأولى من الخلف، خفيفةً مواربة، وبدلًا من أن تطرق على الكتف لتحرره، تسجنه في مداراتها السحرية، المغلفة بالرغبات المؤجلة والانسحاب من العالم، والتعالي على متعه الصغيرة، أملًا بالعيش في جنة الحبيبة الموعودة التي ستفتح له ذراعيها ذات حين، وتطعمه من تفاح جسدها. بينما تأتي الثانية، من جهة المشرب، لفتاة في الثلاثين من عمرها، مفعمة برائحة النبيذ وفحيح الأنثى، والتي ما أن تحط بيدها عليه حتى تطلق في داخله سرباً طويلاً من الشرر المتطاير.
يتحرر رؤوف عبر جسد الأنثى التي التقاها في البار من مخاوفه، ومن حرمانه الجسدي، الذي كان يمنعه من أن يصير واسع الحس والفهم، فيعود إلى الجامعة المكان الذي يتم فيه تنمية ملكة النقد وصياغة الشخصية المستقلة، وإعادة اكتشاف جوهر الأشياء، وزحزحة أنماط التفكير والمسلمات الاجتماعية إلى أفق جديد. رؤوف الجديد، مع تصور مغاير عن الفعل الوطني الذي تم تحويله إلى فلكلور، يبدأ بارتداء كوفية الحزب وينتهي بإلقاء الخطب التي تمجد تاريخه الغابر، وزعمائه المظفرين دومًا وأبدًا. إنه مع صياغة تصور جديد للفعل الوطني، يتم بموجبه التحرر من كل أبوة بيولوجية أو سياسية مستقيلة من الفعل اليومي للحياة، التي لا تكف عن مواجهتنا بكل أنواع التحديات، التي تحتاج إلى نوع جديد من الحلول والتصورات ذات طبيعة مبتكرة ومغايرة عما ألفناه.
أعاد قرار النائب العام للسلطة الوطنية الفلسطينية بالتحفظ على نسخ رواية “جريمة في رام الله”، أي مصادرتها فعليًا، ومن ثم استدعاء الناشر والروائي للتحقيق معهما بحجة تسببها بخدش الحياء العام؛ طرح السؤال التقليدي عن العلاقة بين الأدب والأخلاق، وبشكل أدق حق الأديب في توظيف الرموز والمفردات والوضعيات الجنسية، بما يخدم السياق الفني للشخصيات الروائية التي يخلقها، مع ما قد يترتب على هذا الوصف من خدش للذائقة العامة والكياسة الاجتماعية، أو خرق قواعد التربية المجتمعية للمراهقين، الأمر الذي قد يتسبب في انحرافهم وتفشي الرذيلة بينهم.
السؤال الذي يطرح نفسه كيف يمكن لرواية مثل “جريمة في رام الله” أن تتسبب في كل هذا الطوفان من الرذيلة، ما دامت لا تحوي في داخلها على مشهد جنسي واحد، ومادامت قد خلت من البذاءة التي تدعو للقرف، اللهم بذاءة رجال الشرطة. ألا يدعونا ذلك للتساؤل عن مصدر هذه الضجة المفتعلة حول خدش الحياء العام، الذي تسببت به الرواية، إلى الحد الذي يجعل الآباء غير قادرين على النوم خوفًا من الانحراف التي قد تتسبب به رواية، قد أشارت إلى الجنس في سياق مختلف عما يدعيه أصحاب نظرية خدش الحياء العام.
ولكي لا يكون الكلام على عواهنه، كان لزامًا علينا الذهاب مع شخصية نور الورقية، التي أثارت كل هذا الجدل المجتمعي. فنور هو الشاب الجامعي الذي انتقل من قريته للعيش في مدينة رام الله. علّة نور الجوهرية تكمن في تكوينه البيولوجي الذي توحي قسامات وجهه بالطابع الأنثوي، إنه من حيث المبدأ أسير عامل بيولوجي لا يستطيع الفكاك منه، الأمر الذي جعل منه شخصًا مستقطبًا للعنف، إنّه عرضة دائمة للعنف الجسدي واللفظي في مجتمع ذكوري تسود فيها علاقات القوة، ولا يقيم اعتبارًا للضعفاء داخله ناهيك عن المختلفين، الذين غالبًا ما يتم تصنيفهم على أنهم منحرفون، يستحقون اللعنة التي أصابتهم. في وسط هذا الجو المجتمعي المشحون نشأ نور، لذا ليس من المستغرب أن يميل لإقامة علاقات جنسية مع الذكور، ولا غرابة أن يكون في وضعية المنفعَل.
يُصعِب علينا الروائي عباد يحيى في بنائه لشخصية نور مهمة إشفاء غليلنا من هذا المنحرف، حين يكشف لنا أن نور ابن لعائلة متدينة، ترى من العفة والطهارة الجنسية قدس أقداس الأمة، إلى جانب تقديسها لقيم البطولة الذكورية التي تمجد الشهادة والدفاع عن الوطن. ومع ذلك فهي الأب الشرعي لهذا الكائن المسخ، الذي يفضل الانتماء إلى جسده، عبر سلسلة طويلة من ألاعيب الجسد.
في إزاء شخصية نور نحن أمام شخص يملك من نقاء السريرة والطاهرة الروحية ما يتفوق على الفساد الروحي الذي يخترق رب العائلة، الذي لا يرى مانعًا من تحقيق التكسب غير المشروع باستغلال انتمائه الديني. فنور صاحب حس نقدي يصل لدرجة السخرية اللاذعة، إنه شخص متوقد وفطن على عكس جسده الذي يخذله. فهذا الشخص الضعيف هو نفسه الذي رأى في مادة الغِراء، التي تتدلى من وسط صورة الزعيم الراحل ياسر عرفات إشارة جنسية فجة، توحي بتضخم فحولة القيادة وضعف إنجازاتها الوطنية.
يقنع رؤوف نور بأن يشاركه غرفته كي يتخفف من عبء إيجار الشقة التي كان يقيم فيها لوحده. في شقة رؤوف يعثر نور على الشخص الذي سيتبادل معه جسده ومشاعره. وعلى عكس ما نتوقع تتحول العلاقة الجنسية بين الشابين إلى نوع من الاكتشاف واللعب والتجريب. إننا إزاء علاقة حب وانجذاب وتماهٍ، إنها المرة الأولى التي يشعر بها نور بجسده، كما لو أنه صار مغناطيسًا كبيرًا قادرًا بالذهاب مع رؤوف إلى مواطن لذة لم يختبرها من قبل.
لسنا، بالتأكيد، أمام فيلم أباحي كما قد يخطر على بال أحدنا، ذاك أن الصور الجنسية في النص الروائي لا تصلنا عبر مشهدية العري المبستر والفاضح، ولا عبر نافذة التلصص الضيقة التي تثير غرائزنا البدائية، وإنما عن طريق التذكر المصحوب بالوجع الآدمي لشخص يتألم تحت تأثير الفقد، فقد الشريك، الذي استطاع أن يساهم في تحويل عالمه الشخصي ووجوده إلى عالم مليء بقوة المعنى.
إن جماليات الجنس هنا لا تستخدم لتثير شبقنا، وإنما لتنقلنا إلى حالة من التعاطف الإنساني مع شخص يحس بألم الفقد الذي بدأ ينتابه بعد قرار تخلي الشريك عنه. إن خسارة نور لعلاقته مع رؤوف هي خسارة مضاعفة، تبدأ من فقدانه لحالة اللذة التي اكتشفها عبر جسده، باعتباره مستودعًا للروح والأحلام مثله مثل جسد جميع البشر، وتنتهي بشكل مأساوي مع خسارته للاعتراف بوضعيته الإنسانية التي اكتسبها. إن علاقته الإنسانية مع رؤوف لا تبدأ عبر الجسد وتنتهي فيه، بل هي علاقة مستمرة من قبول الآخر به، قبول ذوقه في الطعام واللباس، طريقته في الكلام والمشي، طريقته في التفكير ومواجهة مصاعب الحياة، وأولًا وأخيرًا الاعتراف بحقه بالاختلاف عن الآخر، دون أن ينتقص ذلك من كرامته الإنسانية التي يستحق أن ينالها، بغض النظر عن الوضعية التي جبل عليها جسده.
بناء شخصية نور، التي تنتمي إلى عالم المهمشين والمنفين والمدانين بخطيئة “الذنب بلا ذنب” بسبب تركيبهم البيولوجي الذي لم يكن لهم دور في تحديده أو اختياره؛ أمر إبداعي يحسب لصاحب العمل لا عليه. ذاك أن قيمة وعظمة الفن الإنساني هي الكشف عن وضع الكائن البشري في أقصى حالات وجوده غرابة، كما الكشف عن الصراعات الجوانية التي تعتمر في دواخله المركبة. إن الفن الحقيقي لا يمكن له أن يسترشد بالآراء المسبقة لموظفي شرطة الآداب وأوامر النائب العام، وإنما بالشروط الفنية للعمل الأدبي التي تجعل منه نصًا ممتعًا يمتلك القدرة الذاتية لاستقطاب الكثير من القراء، ونصًا قابلًا للقراءة والتأويل على أوسع مدى.
نكاد نجزم أن موضوع الجنس في الرواية ليس هو السبب المباشر وراء مصادرة الرواية، وإنما كم الاستياء التي خالط مشاعر بعض رجالات السلطة الحاكمة في رام الله، حيال محاولة الروائي الكشف عن عجز السلطة الفلسطينية في صياغة مشروع وطني جامع لمقاومة الاحتلال، تلك السلطة التي يتمتع رجال شرطتها ومحققيها بهذا الكم الهائل من البذاءة التي صبوها على رأس شخص بريء، فقط لأنه مثلي الجنس، وتلك السلطة العاجزة عن بناء المواطنة على أساس حقوق الفرد وكرامته الإنسانية، وليس على اعتبارات العائلة والتنظيم الحزبي والعلاقات النفعية الأخرى.
ينوع عباد في الطريقة التي يخبرنا فيها عن حكاياته، إنه ينحاز إلى طريقة الحكي بلغة الأنا عند سرد حياة كل من رؤوف ونور. إن تقنية السرد بطريقة الأنا أتاحت لكل من الشابين التعبير عن مشاعرهما المضطربة، كما أتاحت لنا التعرف على تصوراتهما وأفكارهما عن العالم دون واسطة، لقد مكنتهما من التعبير عن مكنوناتهما بكل طهارة ونقاء، وأظهرت أحسن ما فيهما؛ حسهما النقدي العميق. كما أظهرت تحولاتهما الروحية بشكل صاخب. إن حديث كل واحد منهم يصل إلى وجداننا ويصيبنا في مقتل. كما أن انعطاف الرواية للحديث عن الجريمة التي وقعت في حي الماسيون، في رام الله، أملى على الروائي أن يبدل من طريقة سرده للأحداث من لغة الأنا إلى لغة الهوَ، خاصة إذا عرفنا أن وقائع الجريمة فرضت وفق بنيانها الداخلي تفاعل العديد من الشخصيات، ذات الخلفيات الاجتماعية المتنوعة التي تتمايز بمستوياتها المعرفية واللغوية. كما لا يخفى على أحد حرية الحركة التي تمنحها لغة السرد بضمير الغائب للروائي، كي يسرب قناعته وأفكاره ورؤاه، وكله أمل أن ينجح في لعبة التستر تلك دون أن يثير انتباه أحد.
يتساءل القارئ عن دلالة الخبر الذي افتتح به الروائي الجزء المتعلق بشخصية وسام، والذي يشير في ثنياه إلى جريمة القتل التي نفذتها قوات الاحتلال الاسرائيلي بحق مئة فلسطيني من قطاع غزة يوم التاسع عشر من تشرين الثاني عام 2012، التاريخ الذي سبق حدوث الجريمة في رام الله بيوم واحد، والتي راح ضحيتها شابة فلسطينية، تعودها أصولها العائلية إلى قطاع غزة أيضًا. تُرى ما وجه المقاربة التي وضعت جريمة القتل في رام الله على نفس المستوى من الفداحة للجريمة في غزة؟ مما يدفعنا للتساؤل عن طبيعة الجريمة المرتبكة ومنفذها؟ كما يدفعنا للبحث عن الوقائع التي أحاطت بحدوثها والدوافع التي قادت إليها.
تبدو الجريمة للوهلة الأولى جريمة شرف من نوع الجرائم التي ينفذها شخص ما ضد قريبته بدافع غسل شرف العائلة المنتهك. إلا أننا أمام قضية من نوع مختلف، فالمغدورة ربا ذات العشرين ربيعًا ليست فتاة مراهقة، من النوع التي يمكن أن يغرر بها، خاصة إذا ما عرفنا أنها جاءت إلى رام الله للدراسة في الجامعة. ترى ما الذي يدفع فتاة جميلة، ذات شخصية قوية وناضجة، إلى إقامة علاقة شخصية مع شباب، خارج إطار الزواج والاستمرار بهذه العلاقة لعدة سنوات متتالية، مع ما قد يعرضها له من النبذ العائلي ومن ثم للعنف الذي قد ينتهي بالقتل؟
يبدو أن المغدورة لم تكن تعبث بقدر ما كانت تتمرد على شكل من العلاقة الاجتماعية التقليدية المتوارثة التي تربط بين الرجل والمرأة، ولربما كانت تناضل من أجل تأسيس علاقة اجتماعية جديدة تعلي من وضعية المرأة، لا بوصفها أخت الرجال الذين يتفضلون عليها بنعمة الحماية مقابل الخضوع لإرادتهم الطاغية، وإنما إلى وضعية الند الذي لا يقل كفاءة وفاعلية وحضورًا إنسانيًا.
الجاني في “جريمة في رام الله ” ليس شخصًا فردًا يمكن تحميله وزر جريمته، أو البحث له عن المبررات التي قد تجعل منه بطلًا شعبيًا، إنما المجتمع ذاته، أو فلنقل نخبته التي لم تفلح بإنتاج علاقات اجتماعية جديدة، تواكب حجم التضحيات الكبيرة التي قدمها كل من رجاله ونسائه على حد سواء، في سبيل انتزاع حقهم في الاستقلال الوطني من براثن الاحتلال الإسرائيلي.
تطلق “جريمة في رام الله” سلسلة من الجرائم التي ارتكتبت بحق أبطالها، فعلى الرغم من الحيوية والألق الذي تميزت بها حيواتهم، فإن مصائرهم المأساوية ليست بأحسن حال من مصائر أبطال رواية “رِجَال في الشمس”. فرؤوف الباحث عن معنى للوجود الإنساني في ظل الاحتلال تنتهي محاولته بالمقاومة إلى الفشل، الأمر الذي يؤكد أن العمل المقاوم ليس حالة فردية وإنما حالة وطنية جامعة، تتطلب من قيادة العمل الوطني المتمثله بالسلطة الفلسطينية وضع استراتيجية مقاومة واضحة المعالم. أما نور الإنسان الباحث عن حقه بالاعتراف بوضعيته كمثلي الجنس، ينتهي به المطاف منفيًا إلى بلد آخر، بعد أن فشلت السلطات في حماية حقه بالاختلاف. فيما يذهب وسام، شريك ربا بالثورة الاجتماعية المجهضة، إلى نهايته المفجعة، بأقل القليل من الصخب.