المدينة والرواية..!!
قبل سنوات، استطلع عدد من الباحثين، في جامعة بيرزيت، آراء عيّنة من سكّان قرب رام الله عن موقفهم من المدينة، التي يعيشون على تخومها. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالأخلاق كانت المواقف سلبية. فالاختلاط، والكحول والسفور والتبرّج (وفي كل منها ما ينطوي على دلالات جنسية بقوّة اليورانيوم المُشّع) أشياء لا تحظى بعلامات يُعتد بها في أوساط مُحافظة. ناهيك، بطبيعة الحال، عمّا في تجليات النظرة المُحافظة من إحساس مُتوهَّم بالتفوّق الأخلاقي.
والواقع أن وضع رام الله في “قفص الاتهام” نتيجة أسباب كهذه لا ينجو من مبالغة، وجراح نرجسية. بيد أن ثمة ما هو أبعد من هذه وتلك. فالمدينة مسألة إشكالية في علوم الاجتماع، والسياسة، والأدب. وبالعودة إلى طيّب الذكر إيريك هوبسباوم، أحد أهم مؤرخي القرن العشرين، فإن طبقة الفلاّحين، التي ظهرت منذ اكتشاف الزراعة، وظهور المجتمعات الزراعية قبل 12 ألف سنة، في طريقها إلى الزوال، وبالتالي فإن عالم قرننا الحالي، وقرون قادمة، سيتكوّن من كتل بشرية هائلة تقطن المدن.
وبقدر ما يرتبط الأمر بموضوعنا، فإن عالم القرن التاسع عشر، الذي شهد بداية التمركز الحضري غير المسبوق، والهجرة إلى المدن، ونشوء مدن عملاقة، على خلفية انهيار عالم قديم، ونشوء طبقات اجتماعية جديدة، وجد تجلياته في أعمال كبار الروائيين في ذلك القرن: بلزاك، وستندال، وديكنز، وديستوفسكي، التي تمحورت، في جانب رئيس منها، حول “قصة الشاب القادم من الأرياف” في المدينة.
ولعل في العودة إلى رسكولينكوف، في تحفة ديستوفسكي “الجريمة والعقاب” ما يُسهم في تسليط ضوء على المقصود: يتجلى السرد الروائي، هنا، على خلفية انهيار نظام القنانة، وصعود الرأسمالية في روسيا، ويتخذ من المدينة (سانت بطرسبرغ) وسيلة إيضاح لمعالجة معنى ومبنى الجريمة، وتحليل شخصية المُجرم المُتمرّد على أخلاق تقليدية في مدينة تفيض بالتناقضات والأمراض الاجتماعية، وتغرق في درك الكحول والدعارة والآلام. (كانت الجريمة، وماهية المجرم، جزءاً من هموم القرن التاسع عشر الفكرية، وأنشأ الإيطالي لومبروزو نظرية “علمية” كاملة في الإجرام”
تختزل هذه الأشياء، كلها، وتُختزل في، “قصة الشاب القادم من الأرياف”، حسب تعبير ليونيل تريلنغ، بتجليات متفاوتة بين المدن والثقافات. والقصة نفسها تختزل الرواية العربية في القرن العشرين، أيضاً، بقدر ما هي رواية مدن، وسيرة ذاتية لعذاب ثلاثي الأبعاد: الهجرة إلى، وتطبيع الحياة في، المدينة، الانخراط في الكفاح المعادي للاستعمار، والشكوى من استبداد دولة ما بعد الاستقلال، في مدن استولى عليها مهاجرون جدد وقدامى وأبناؤهم.
وربما تُزوّد العودة إلى مؤرخنا الكبير حنّا بطاطو، الباحث في تاريخ الرواية العربية، بخلفية ومفاتيح اجتماعية (وسياسية) لا غنى عنها. ولا مجازفة في القول إن في أعمال نجيب محفوظ، مؤسس الرواية العربية الحديثة، وأفضل مجدديها على مدار عقود طويلة، ما يمثل مكافئاً موضوعياً، وبرهاناً أدبياً، على تأريخ بطاطو للطبقات الاجتماعية الجديدة، ونشوء الجمهوريات في مصر وسورية والعراق.
على أي حال، يكفي أن نحتفظ في الذهن بحقائق من نوع: أن علاقة الرواية بالمدينة وثيقة الصلة، فالأولى اقترن صعودها بظهور الثانية، وتشكّل البرجوازية كطبقة اجتماعية، ناهيك عن حقيقة أن الرواية هي أوّل ما ولد من أجناس أدبية جديدة بعد اختراع الطباعة، التي غيّرت الحياة على كوكب الأرض.
ويبقى سؤال أخير: ولكن ما هي المدينة؟
يمكن في معرض تقديم إجابة محتملة، الكلام عن خصائص فريدة. وهذه يمكن اختزالها في سمات يصعب العثور عليها مجتمعة في الريف، والمخيمات، والتعاونيات الاشتراكية، والضواحي، والبلدات: أولاً، المجهولية، فساكن المدينة مجهول بالنسبة للغالبية العظمى من ساكنيها. وقد تتجلى المجهولية حتى في حدود البناية السكنية الواحدة، التي لا يختلط سكّانها. ثانياً، التلصص، أي استراق النظر إلى آخر لا نعرفه، مع تداعيات، واحتمالات، لا نهائية تقريباً. ثالثاً، الاستهلاك، فحياة المدينة، ودورتها الاقتصادية، وعلاقاتها العامة، وثيقة الصلة بمبدأ الاستهلاك، مع كل ما يتصل به من استيهامات وإكراهات، ودعاية وتداعيات نفسية واجتماعية. رابعاً، العرض والاستعراض، فالجسد نفسه وسيلة إيضاح لمنتجات السوق، مثلاً، (آخر منتجات الموضة) كما الفضاء العام وسيلة إيضاح لفكرة السلطة، مثلاً (التماثيل والنصب التذكارية في الساحات العامة، وصور الزعيم) وما لا يحصى من ملايين التفاصيل الفردية والعامة. خامساً، قابلية اللمس، فالعدد الهائل من ساكني المدينة، في الشوارع، والمواصلات، والأسواق، وأماكن العمل، والترفيه، تجعل لمس الآخرين، أو الاحتكاك بهم، بالمعنى الحرفي، أحياناً، جزءاً من احتمال الحياة اليومية خارج البيت. سادساً، سرعة الحركة، فكل شيء في المدينة يبدو متعجلاً وعلى عجل، فحياتها لا تكف عن الحراك والحركة.
لكل ما تقدّم تجليات في فنون العمارة (الشرفات، الأسوار الخارجية، قرب المساكن من بعضها، وحجم النوافذ)، واللغة (لغة الجسد أيضاً) والشيفرة السائدة للسلوك العام. وفيه، أيضاً، ما يترك بصمة نهائية على معنى ومبنى حياة الفرد، وبنية العائلة، والسلطة، والقيم، والعلاقات الاجتماعية. وإذا كانت ولادة الفرد حديثة العهد في التاريخ، كما ذكر باختين، فإن قابلته التاريخية كانت المدينة.
ومع ذلك، سواء في مدن تقليدية كبرى، أو نشأت على عجل. تعيش في المدينة الواحدة مجتمعات مختلفة وموازية، وهي مطوّقة بأحزمة فقر أنجبها النزوح الكبير من الريف، وأنجبتها الحروب، والتقلبّات السياسية والاجتماعية، كما أنجبتها الثروة المفاجئة. وهي، بهذا المعنى، خاصة في العالم العربي، وفي بلادنا فلسطين، ساحة حرب باردة، تسخن من حين إلى آخر، بين قيم مُحافظة تنتمي إلى بيئة اجتماعية لم تعد قائمة في الواقع، وقيم مجتمع جديد قيد التشكيل، تحاول الأولى النأي عنه، وفرض نفسها عليه. وفي سياق كهذا تتجلى ديناميات ما يندرج في باب ترييف المدينة العربية، وجراح نرجسية تستعلي، أخلاقياً، على مدينة تخاف منها بقدر ما تشتهيها. وهل ثمة أقوى من رهاب الجنس؟
القارئ والرواية..!!
بأحد المعاني، لا يوجد للرواية كاتب واحد. و(هذا يصدق على أجناس أدبية غيرها) فعدد الكتّاب بعدد القرّاء. تجد هذه الفرضية تفسيرها، وما يبررها، في حقيقة أن تصوير شارع مُظلم، أو حادثة في قطار، أو قبلة بين عاشقين (أضف ما شئت) لا تحدث في النص الروائي بعين الكاميرا، ولا تحاكي الصورة الفوتوغرافية. لذا، يبقى الكثير مما يُحرّض المُخيلة على ملء الفراغ. تختلف هذه الدينامية من شخص إلى آخر باختلاف طاقات المُخيّلة من ناحية، وحاجات صاحبها (صاحبتها) من ناحية ثانية.
وهذا يحدث، غالباً، بطريقة لاإرادية تماماً. فلنتذكر ما قرأنا في مراحل مختلفة من العمر، وكيف ألهبت شخصيات وأحداث بعينها خيالنا، وربما حرمتنا من النوم. مع التقدّم في العمر، نفقد البراءة إلى حد ما، ولكن لا نمل من لعبة، وغواية، ملء الفراغ. وثمة، هنا، ما يتجاوز فكرة التلصص على العالم الشائعة في نظريات النقد الأدبي، منذ زمن بعيد. فملء الفراغ يحوّل القارئ إلى فاعل وشريك. وفي هذا ما يمنح أجناساً سردية مُختلفة حياة تستقل عن أصحابها.
في تحفته “لاعب النرد” يروي محمود درويش كيف تأخر عن رحلة مدرسية، ونجا من حادثة طرق “لأني نسيت الوجود وأحواله/ عندما كنت أقرأ في الليل قصة حب/ تقمصت دور المؤلف فيها/ ودور الحبيب الضحية/ فكنت شهيد الهوى في الرواية/ والحي في حادث السير”. تنطوي عبارات كهذه على دلالات فعل ومشاركة القارئ في إعادة إنتاج النص. عملية كهذه تتعدد بعدد القرّاء، وتبرهن على استقلالية النص عن صاحبه الأصلي من ناحية، وتفسر لماذا لا يقرأ اثنان نصاً واحداً بطريقة واحدة من ناحية ثانية.
بيد أن ثمة ما هو إرادي، أيضاً، إذا تجاوزنا مُخيّلة واستيهامات القارئ الفرد. وأعني بذلك القراءة الجمعية للنصوص، خاصة في ظل إنشاء الأدب المُكرّس (literary canon) أو هيمنة مدرسة نقدية بعينها في مرحلة ما. وهي محكومة بتبدّل الأزمان. فلنفكر في دون كيخوته، مثلاً، التي يُؤرّخ بها كثيرون لميلاد الرواية الحديثة. فدون كيخوته تغيّر بطريقة راديكالية في أزمان مختلفة: من شخصية كوميدية، إلى فاعل خير، إلى بطل تراجيدي، وحتى إلى شبيه ليسوع أحياناً، وإلى شخص طيّب القلب، وغريب الأطوار. ويمكن، اليوم، أن نقرأ دون كيخوته الشخصية والرواية بوصفها نقداً ساخراً لقصص الفرسان، الشائعة في القرون الوسطى، وخروجاً على التقليد، كما قرأ النقّاد العرب قصائد النواسي بوصفها نقداً ساخراً للوقوف على الإطلال، وخروجاً على التقاليد.
وهذا يحدث، دائماً، بطريقة مجازية. فلا قراءة جمعية للنصوص خارج المجاز. ولا مجاز دون، أو فوق، حساسية وحاجات زمن بعينه. وقد أوكلت هذه الوظيفة على مدار قرون طويلة لقرّاء محترفين (نُقّاد)، استناداً إلى فرضية أنهم أصحاب مؤهلات، وخبرات، وأدوات تتجاوز دينامية ملء الفراغ الفردية، ودلالة فعل ومشاركة القارئ في إعادة إنتاج النص. ولا أريد الاستطراد، في هذا الجانب، ففيه ما يفتح أبواباً كثيرة بشأن العلاقة بين المعرفة والسلطة من ناحية (فوكو، إدوارد سعيد)، وتقاليد وسياسة الطاقم المهني في هذا الحقل أو ذاك، والتوتر الدائم بين مركزه وهامشه، كما أجاد وأصاب ماكس فيبر في الكلام عنها وعنه من ناحية ثانية.
فالمهم، في هذا الشأن، أن نحتفظ في الذهن بحقيقة أننا نعيش، في ظل الثورة التكنولوجية، وانفجار وسائل التوصيل والاتصال والحصول على المعلومات، زمناً غير مسبوق. والواقع أن الناس شعروا على مدار القرون الثلاثة الماضية بالعيش في زمن غير مسبوق. وعثروا على إجابات محتملة في تنوير القرن الثامن عشر، وعلموية القرن التاسع عشر، ويوتوبيا الخلاص، وأيديولوجياته الكبرى، في القرن العشرين.
ولكننا في العقد الثاني من قرن وألفية جديدين لم نعثر على إجابة محتملة بعد. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالتقنية والتكنولوجيا المعروفة في القرون الثلاثة السابقة، وما غيّرت من طبيعة الإنسان والعالم، فكلها تبدو قليلة الشأن مقارنة بالتقنية والتكنولوجيا الحالية، التي قد تطيح بمعنى الإنسان نفسه، كما استقر عليه منذ اكتشاف الزراعة، وحتى يوم الناس هذا.
والمهم، أيضاً، في عالم اليوم، أي في ظل اللايقين، والعيش في الفترة الانتقالية بين عالم قيد الزوال، وعالم لم يولد بعد، أن شقوقاً وتصدعات كثيرة تتجلى في بنية المعرفة والسلطة، كما في تقاليد وسياسة الطاقم المهني. لتوضيح أمر كهذا يمكن الاستعانة بما كتبه أميركي، تشارلز بيرس، ينعى حال بلاده في كتاب بعنوان “أميركا الحمقاء: كيف أصبح الغباء فضيلة في بلاد الأحرار” (2010): “في الميديا الجديدة الكل مؤرخ، وعالم، وواعظ، وحكيم. وإذا كان الكل خبراء فلا جدوى من وجود خبير. وأسوأ ما يحدث أن تكون خبيراً في مجتمع يتصرّف فيه الكل كخبراء. هكذا تتصرّف أميركا الحمقاء بطريقة جماعية، ملايين الضربات على لوحة المفاتيح، وإذا وُجِد جانبان لكل مسألة، فكلاهما يجب أن يكون صحيحاً، أو غير خطأ على الأقل”.
تنبّه أورتيغا غاسيت إلى أشياء كهذه: إلى ما في كراهية “الجماهير” لفكرة التفوّق، وعبادتها لمبدأ المساواة، قبل شكوى بيرس بعقود طويلة. كانت سوداويته في الفترة ما بين الحربين الأولى والثانية تبدو رجعية تماماً، وحتى في عقود متأخرة من القرن نفسه. ولكن في زمن الفيس بوك، وتويتر، ووضع قناع “الرأي والرأي الآخر” على وجه مَنْ إذا حضر لا يُعد، وإذا غاب لا يُفتقد، ثمة ما يبرر وضعها في إطار تحليلي جديد لفهم حقيقة وخلفية ما أصاب بنية المعرفة والسلطة من صدوع وتشققات، وانعكاس هذا كله على جزئيات صغيرة من نوع القارئ والرواية، وحماقة وغباء حروب الميليشيات الثقافوية في الميديا الجديدة. ولعل في هذا ما يُحرّض على وعد بمعالجة جديدة لاحقة.
المقالة الأولى نُشرت في الأيام الفلسطينية بتاريخ ٢٨/٢، والمقالة الثانية بتاريخ النشر هنا، ٧/٣/٢٠١٧.