إذا ما أراد أحدنا أن يشاهد فيلماً مستنداً إلى رواية، فالأجدر به أولاً أن يمنح نفسه وقتاً كي يتجرد بعض الشيء مما يتذكره منها، بما في ذلك الأحاسيس التي انتابته، أو تلك الصور التي تراءت له أثناء قراءتها؛ إن الأمر أشبه ما يكون بمقارنة الشجرة مع كرسي خشبي.
مئات الأفلام استندت في طرحها إلى روايات، سنتناول الشيء اليسير منها باختصار، ونتحدث (إن صح التعبير) عن جواز المقارنة بين العملين من عدمه، لكن لا بد أن نشير هنا إلى أن الرواية كعمل فني قادر على التأثير، يكتسب هذه القدرة من النقص الذي فيه؛ فالرواية لا تلامس الفعل إنما هي تشير إليه باللغة والاستعارات، ما يترك المجال الواسع للعقل البشري كي يسرح ويتخيل ويُكمل ما لم يكن له أن يُقال، وهذا “النقص” هو أبرز صفات الجمال عموماً… خذ مثلاً قصيدة يتركك كل شطر فيها أمام مئات الصور وإشارات التعجب، ما يجعلك تمتع نفسك بنفسك إلى ما لانهاية، وإلى ما لم يخطر في بال الشاعر حتى.
لعل السبب الذي دفع النقاد السينمائيين مؤخراً إلى اعتبار فيلم Mulholland Drive على رأس قائمة أفضل ١٠٠ فيلم للقرن الحالي يكمن في كونه أشبه بقصيدة سوريالية لا بداية لها، ولا نهاية، وليس لها أي تفسير قابل للتحديد؛ ومن هنا تدخل صفة “الجمال” البارزة التي أوردناها حيّز التنفيذ في السينما، رغم أن الصورة هي محدودة عادةً ومباشرة وصارخة الوضوح.. لكن خذ أيضاً على سبيل المثال الأفلام الصامتة التي تتركك مع نفسك طوال الوقت تتنبّأ… تبتسم تارةً، وتبكي تارة أخرى.
في كانون الثاني/ يناير ١٨٦٦ صدرت رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، لا أعتقد أن قارئاً استثنى هذه الرواية من قائمته، على أية حال.. أكثر من ١٢ فيلماً استند منذ العالم ١٩١٣ حتى اليوم على هذه الرواية، ناهيك عن المسلسلات والأفلام القصيرة؛ شاهدتُ منها ٦ أفلام لمقارنة وجهات نظر مخرجيها فقط… أسئلة كثيرة روادتني قال بعضها: على ماذا تنافسَ مخرجو تلك الأفلام فيما بينهم؟ على القدرة في تحويل (كل) ما كتُب بين دفتي الجريمة والعقاب إلى صورة؟ أم اعتمدت أفلامهم على ما يريد المخرج إظهاره؟ أم أن الفيلم هو تعبير عن وجهة نظر المخرج بذاك العمل الروائي لا أكثر؟
في نسخة العام ٢٠٠٢ من بطولة (John Simm) وإنتاج هيئة الإذاعة البريطانية، يبدأ الفيلم بمشهد وداع الأم والأخت لراسكولينكوف أثناء الأخذ به إلى السجن؛ وفي نسخة العام ١٩٣٥ يبدأ الفيلم بمشهد منح راسكولينكوف إجازة جامعية، علماً أنه مفصول من الجامعة لعدم قدرته على دفع مستحقاتها في الرواية، وركز من بدايته على إعجاب راسكولينكوف بنابليون بونابرت؛ وفي نسخة العام ١٩٧٠ ابتدأ الفيلم أول مشاهده ليُظهر الحالة النفسية التي يمر بها بطل الرواية بعد تنفيذه جريمة القتل؛ ولم يبدأ أي من المخرجين المتبقين فيلمه بالحدث الأول في الرواية، ولم تتسلسل أحداث الفيلم بأي شكل من الأشكال كما هي هناك، وإنما التزم الجميع بالنقاط الأساسية في السرد المرئي، وأخذوا من الرواية ما يناسب تحويلها وفق هذه النقاط إلى فيلم حسب الشكل: مرحلة البناء (يتم فيها التعريف أو التمهيد)، ثم الـ Routine Killer (فعل يقوم به البطل أو يطرأ ليكسر رتابة الربع الأول من الفيلم)، ثم الـ Act 1 Plot Twist وهي النقطة التي ينحرف فيها مسار الفيلم من البناء إلى المغامرة، ثم الـ Act 2 Plot Twist وهي النقطة التي يتم عندها تحول مسار الفيلم مجدداً من المغامرة إلى أولى ملامح الحل، ثم الـ Climax وهي أعلى نقاط التوتر في الفيلم كبداية لنهايته.. وهكذا لم تخرج قصة مفهومة عن إطار طريقة البناء هذه؛ والروايات القابلة لتكون فيلماً تحتوي كحد أدنى على ما (يتطابق) مع هذه النقاط، والاختلاف الحاصل في طريقة الطرح هو اختلاف بين وجهات نظر المخرجين في (تقدير) ما يناسب طريقة السرد المذكورة.
إذا ما أراد مخرج تقديم الجريمة والعقاب كفيلم ناجح من منظور قراء الرواية التقليديين إن صح التعبير، هل يرتبط نجاح تقديم هذا العمل بالتزامه بالرواية أم ببعده عنها؟ هل يجب أن يتم تقديم شخصية راسكولينكوف أولاً مثل الرواية، ويُتابع السرد السينمائي مثلها، وينتقل بعدها إلى شخصية أخرى مثلاً ثم يعود إلى راسكولينكوف ثم دونيا وهكذا؟؟.. والآن.. كيف سيبدو الفيلم لدى أولئك الذين لم يقرؤوا الرواية؟ كيف هو سينمائياً؟ وأية ذاكرة هذه التي يجب أن يتحلى بها مُشاهد الفيلم كي يستطيع الربط بين كل تلك “السكيتشات” أو الأجزاء في نهاية الفيلم ويصل إلى نتيجة مفيدة؟
في فيلم Loin des hommes المنتَج عام ٢٠١٤ والذي تستند أحداثه إلى قصة “الضيف” للفرنسي ألبير كامو، ابتعد المخرج -على غير عادة المخرجين في تعاطيهم مع الرواية- عن أحداث القصة الأصلية بشكل كبير جداً.
على الطريق المؤدي إلى مركز الشرطة في بلدة “تاغيت” الجزائرية، يمر شرطي مع شاب عربي قتل ابن عمه، للاستراحة في مدرسة يقطنها أستاذ فرنسي.. يفضّل الشرطي أن يبيت العربي في المدرسة على أن يسلمه الأستاذ إلى مركز الشرطة في اليوم التالي، إلا أن الأخير رفضَ بعد مبيت العربي لديه أن يسلمه، معتبراً ذلك أمراً منافياً للأخلاق، وهو ما أوقعه في إشكال كبير بين الشرطة الفرنسية وأبناء عمومة الرجل.
يدور محور القصة حول رغبة الأستاذ المستمرة في فتح الطريق أمام العربي للهروب واختيار مصيره دون الذهاب إلى قدره المحتوم لدى أبناء العمومة أو المحاكمة في تاغيت، وعن تمكنه من ذلك في نهاية المطاف حين أعطى العربيَّ زاداً وأشار له بيده إلى مركز الشرطة ليذهب بمفرده، وحال عودة الأستاذ وجد على سبورة الصف عبارة تقول: ستندم.. لقد سلّمتَ أحد رجالاتنا.
يرى كثيرون أن هذه القصة هي تعبير عن المعضلة والتورط الذي واجهه كامو شخصياً بين مناصرة ثورة الجزائر، والوقوف إلى جانب انتمائه الفرنسي، وليس هذا موضوعنا على أية حال، وإنما الطريقة التي “عالج” فيها الفيلم “فحوى” القصة وجوهرها.
سيقول البعض إن الشخصية الرئيسية مثلاً لم تكن تدخن في القصة، بينما هي كذلك في الفيلم، أو أن القصة كانت تتحدث عن عاصفة في حين أن الفيلم لم يشهد عاصفة.. وما إلى ذلك… وسيقال أيضاً أن المدرسة لم تتعرض لهجوم من قبل طلبة الثأر في القصة، إلا أنها تعرضت لذلك في الفيلم…. إلخ.
إن معالجة Loin des hommes لفحوى قصة (L'Hôte) هو مثالي للغاية لأسباب عديدة، منها أن جوهر القصة وجودي بحت.. أسيرٌ في مكان ما، يخشى أن يُترك حراً لأنه خائف من مصير محتوم، في حين أن خيارات أخرى لديه (الهرب مثلاً) لكنه يخشى أن يكون مسؤولاً.. حوارات كثيرة أوردها الفيلم تصب في هذا الموضوع إلا أنها غير موجودة البتة في القصة؛ حتى أن المدرس في الفيلم، لا القصة، دافع عن العربي مقابل فرنسيين آخرين جاؤوا مسلحين يريدونه بتهمة أُخرى، وهذا ما يضعك كمشاهد أمام الـ “أنا” لدى المدرّس في أفضل حالاتها.
لقد أتى الفيلم بالكثير الكثير لكي يوضح لك فقط ما جاء في ٢٠ صفحة كتبها كامو، ويخبرك بصريح العبارة: لن يُسلّم المدرسُ السجين لأحد إلا لحرية السجين ذاتها ليختار رغماً عن أنفه بمفرده.
لقد اضطر المدرس لقتل عربي صادفهم عن طريق الخطأ حين أشهر الاثنان أسلحتهما كلٌّ في وجه الآخر، في تلك اللحظة حالَ تأكُّد المدرس من وفاة الرجل، نظر إلى السجين وقال: إنه خطؤك.. لقد مات هذا الرجل لأنه جبان لا أكثر.
وهذا أيضاً خارج عن سياق القصة إلا أنه امتداد وتعبير حقيقي إلى أبعد الدرجات عما أراده الرواي.
الفيلم كذلك عرّف المدرس بطريقة أخرى في منتصف الفيلم، أظهرَ أنه كان رائداً في الجيش، وأنه مولود في الجزائر وينتمي إليها، وأنه معروف بشهامته من قبل الثوار الجزائريين أنفسهم، والذين كانوا يخدمون إلى جانبه.. في حوار دار بين المدرس وأحد الثوار، أراد الأخير من المدرس الانضمام إليهم، ليجيب المدرس:
– إني مع استقلال هذه البلاد، وأنا بطبيعة الحال أناصركم بتعليم الأطفال على القراءة والكتابة.
– لابد أن نكون قد تجاوزنا الآن مرحلة القراءة والكتابة، ولا أحسب أننا بحاجة إليها يا حضرة الرائد! وعليك أن تختار جانباً.
– لن أختار إلا الجانب الذي أراه صائباً، أنا مع استقلال هذه البلاد.. قبر والدي لا يبعد سوى ٢٠ كيلو متراً عن هذا المكان.. لكنني مدرس ولدي أطفال ينتظرونني لكي أعلمهم.
مستعرضاً الفيلم جانباً بارزاً في “تكوين” تلك الشخصية، ومدى تناقضها الكلي مع العربي الذي اختار وفضّل ما هو محتوم على ما هو ممكن.
وهذا مثال آخر عن حرية المخرج في تقدير ما يراه مناسباً لتدعيم ما يريد تقديمه من رواية يراها من جانبه، فيلم The Kite Runner لمارك فوستر عن رواية خالد حسيني.. شتان بين العملين، ولا يمكن الأخذ بجمال أحدهما على حساب الآخر.. ثم أخيراً فيلم The Patience Stone لـ عتيق رحيمي عن رواية عتيق رحيمي نفسه.. هذا خير شاهد يمكن ذكره. فارق كبير بين العملين للشخص ذاته.
أرى ختاماً أن الفيلم الذي يستند في بنائه إلى رواية أو قصة، يفشل حين يظل مرتبطاً بتلك القصة لا العكس.. إن الابتعاد عما جاء في الرواية من تفاصيل تترك أولاً للعقل حرية انتقاء الجمال واستشعاره كما أسلفنا، وثانياً لا يمكن مقابلتها بالصورة الصارخة والواضحة التي لا تحتمل أية أشكال أخرى للتخيل كذلك.. لذا كلما كثر التفصيل في الفيلم، وكلما كثر تجسيد الكلمات وملاءمتها مع الصورة زاد ذلك من “وقاحة” العمل السينمائي. والخطابات العقلية البحتة لم تكن يوماً ما جميلة؛ كما يجب الأخذ بعين الاعتبار أيضاً أن الشريحة التي تخاطبها الرواية هي أقل بكثير من تلك التي تعنى بها السينما أو تصلها، ثم إنه ليس المطلوب من المخرج الذي يعمل على إنتاج فيلم يستند إلى رواية وأن يضع نصب عينيه تجسيد خيالات قارئها، وإنما أن يُبقي على شيء من لوازمها على سبيل الاستعارة المكنيّة.