لا يُكثر ياسر خنجر في الكلام حين يُطلب منه تقديم نفسه لقراء “رمان” التي اختارت الحديث معه عن الشِّعر في اللحظة السُّورية الراهنة، إذ يقول: “أنا شاعر من الجولان السُّوري المحتل، سجين سياسي سابق في سجون الاحتلال الإسرائيلي، أدرس لغات وحضارات الشرق الأوسط القديم”.
صدر لضيفنا خلال فترة اعتقاله الأولى في سجون الاحتلال، والتي دامت سبع سنوات ونصف (في الفترة ما بين 1997 و 2004)، مجموعته الشِّعرية الأولى: «طائر الحريّة» (دار الفارابي في بيروت – 2003). تبعتها مجموعتان من الشِّعر: «سؤال على حافة القيامة» (مركز “فاتح المدرس للفنون والثقافة في الجولان” – 2008) و«السحابة بظهرها المحني» (دار راية للنشر والترجمة في حيفا – 2014). أما المجموعة الشِّعرية الرابعة وعنوانها «لا ينتصف الطريق»، فستصدر قريباً عن منشورات المتوسط في ميلانو، وقد كان الحديث عنها هو فاتحة حوارنا هذا..
«لا ينتصف الطريق» المجموعة الشّعرية الرابعة، التي تدخل المطبعة قريباً، حدثنا عنها.
«لا ينتصف الطريق» هي محاولة إضافية لتأريخ الواقع السُّوري الراهن شعراً، هذه المحاولة ليست توثيقاً سياسياً للواقع إنما تسعى لأن تقدم تفاعلي الشخصي ضمنه وانعكاساته عليّ. جميع النصوص في هذه المجموعة كُتبت خلال سنوات الثورة السُّورية وغالبيتها تندرج في خانة التفاعل المباشر معها وذلك لاعتقادي أن واحدة من خصائص الفنون هي أن لا تكون مفصولة عمّا يشغل منتِجها حقاً ولا أن يعتمد الجمالي فيها على تزيّن مخادع يقطع صلة الرحم بين العمل الفنّي وغايته في البوح بما يقلقه. لا جمالي في المذبحة السُّورية فكيف أزيّن جنزير دبّابة تدهسني أو أمتدح صناعة السكاكين حين نصالها لا تطلب غير عنقي! كيف لي وأنا في فم المجزرة ألّا أصرخ من قهرٍ وخوفٍ وخذلان! ورغم ذلك حاولت أن أمسك بخيوط الضوء قدر استطاعتي فكتبت عن الحلم الذي ننتظر، عن رفاقٍ في السجون ما زالت قلوبهم تخفق بالحب وعن الحب الذي ينجّي من الموت.
قلت في حوار سابق: “أنا فلسطيني الظروف والجغرافيا سوريّ التاريخ والهوى وممنوعٌ من سوريتي بشكل قسري”. احك لنا عن علاقتك بفلسطين كإنسان ومناضل وشاعر، وعن الوطن الأم سوريا. وهذا يقودنا بالتالي إلى سؤال الوطن في وعيك وما يعنيه لك.
لم تُتح لي الخيانات ولا الهزائم في الحروب أن أعيش سوريتي بكامل فصولها، ولم تحررني فلسطين من هذه الخيانات ولا من الهزائم في الحروب، كنت أدرب نفسي دائماً على الاعتقاد بأني شجرة لا تُبصر جذرها ولا يمكنها العيش منفصلة عنه، ولا يحرجني القول أن هويتي ناقصة في التفاصيل المعيشية بقدر ما هي أوسع من حدود الجغرافيا والتاريخ. هذا الانتماء المتكامل ما بين فلسطين وسوريا يغني تعلقي بفكرة أن الهوية الغير خاضعة للحدود لا تكتفي بالموروث إنما تطلّع نحو غدها وهي سعي إلى تأسيس وعي جماعيّ يثقب الجدران ويهدمها في جدلية دائمة ما بين الذاكرة والراهن والحلم.
لم أولَد سورياً كاملاً ولا فلسطينياً كاملاً لكنني اخترت أن أكمل سوريتي بأن أعيش فلسطينياً رغماً عن الاحتلال وأن أكمل فلسطينيتي متعلّقاً بسوريتي التي يحرمني منها الاحتلال والاستبداد.
لو نستعيد بعض الذكريات من تجربة بناء ذاتك الشّعرية، ونسأل عن نقطة التحوّل التي أسست فعلاً لبدء مسيرتك الشّعرية؟ ومن هم أبرز الشعراء الذين شكلوا مرجعيتك؟
في السجن، حيث يُراد للمعتقلين أن يعيشو منقطعين عن التواصل الطبيعي مع بيئتهم، حيث يفرض السجّان أجندته اليومية ويتحكم بمصائر السجناء، كان عليّ أن أجد الطريق إلى البوح بكل ما يشغلني ويقلقني، أن أجد الطريق إلى التغلب على هذه الهاوية السحيقة من النسيان والبعد والإهمال. حين كانت تصلني الرسائل من الأهل والأصدقاء كانت تنتشلني من العزلة وتعيد إلى قلبي بعض خفقه المكسور، وتوحي لي بإمكانية هدم الجدران والانتصار عليها، كانت الرسائل هي الضوء الوحيد الذي يصل مكتملاً فلا تجرحه الأسلاك الشائكة وسياج السجن، فبدأت أكتب الرسائل والقصائد محاولاً الوصول إلى الحريّة التي أحلم بها. كنت أكتب كي لا يقتلني السجن.
أول قراءاتي وتأثري كان بالشاعر العظيم محمود درويش ونصف البرتقالة الآخر سميح القاسم، توفيق زيّاد أيضاً كان من أول الشعراء الذين قرأتهم، ثم انتبهت متأخراً وبسبب عدم توفر إمكانية الإطلاع على كل شيء، إلى شعراء آخرين مثل حسين البرغوثي، طه محمد علي وغسان زقطان، شعراء فلسطين كانوا هم الركيزة الأساسيّة في بداية طريقي (ولا أقصد أني تجاوزت البداية) وما زال حضورهم فاعلاً ومؤثراً.
في السجن أيضاً، حين قرأت ملحمة جلجامش (والكوميديا الإلهية بعدها) شعرت أن الكتابة هي الخلود والأبدية، وعرفت أن الحروف -أداتي الوحيدة- ليست بوحاً ذاتياً فقط بل إنها تأريخ شخصي يوثّق مرحلة ويتقاطع مع التأريخ الجمعي، فانتقلت إلى فهم الكتابة والشِّعر تحديداً على أنه تفاعل حسّي ولفظي مع المحيط في لحظته الراهنة بقدر ما هو رسالة تحاول التأثير في هذا المحيط والذهاب معه إلى غدٍ أجمل.
متأخراً أكثر ومع بداية الثورة السُّورية تحديداً، بدأت بالتعرف على نتاجات شعراء سُّوريين، نبوءة رياض الصالح حسين، عمق اللغة فيما يكتب سليم بركات، الرفض والتمرد عند الماغوط وممدوح عدوان، نوري الجراح، هالة محمد، ثم أعادني فرج بيرقدار إلى انتصار الشِّعر على كل الجدران، هذا بالإضافة إلى شعراء شباب أكثر من رائعين كجولان حاجي وآخرين كثر.
يبدو لنا أن العيش في زمن عاصف يشهد تحولات استثنائية في بلدك، يفرض عليك كشاعر هواجس تجاه صنيعك الإبداعي: ما هي هواجسك الآن في هذا الصدد؟
أعتقد أن الصراع على رواية الأحداث وتوثيقها يقف في مركز التاريخ دائماً، للإسرائيليين روايتهم عن “الإرهاب الفلسطينيّ” مثلما للنظام روايته عن “الثوار الإرهابيين”، نحن في المقابل فلسطينيون وسُّوريون لدينا روايتنا عن الحريّة التي ننشد والوطن الذي نريد في مواجهة الاحتلال والاستبداد. هذا الصراع على رواية الأحداث يضعني في مواجهة التساؤل الأصعب: كيف يمكنني أن أساهم في حفظ رؤيتنا حول ما يحدث للتاريخ. موجعٌ جداً هذا الخذلان الذي تعيشه الثورة السُّورية، وربما بقدر ما هو موجع الثمن الذي تدفعه في طريقها نحو الحريّة. أشعر أن دوافعي الرئيسية للكتابة وهواجسي الأشد حضوراً هي محاولة تثبيت صورة الألم الحالي لتكون شاهدةً على عمق المأساة وتكون أيضاً ذاكرة للقادم من الوقت فلا يلتهم النسيان تلك المشاهد التي قد لا تجد مكاناً في كتب التاريخ رغم أنها هي روح الثورة الحقيقية.
سُجِنت في معتقلات الاحتلال الإسرائيلي مرّتين.. الأولى لمدة سبعة سنوات ونصف (في الفترة ما بين و1997 و 2004)، والثانية أحد عشر شهراً (من حزيران/ يونيو 2011 وحتى أيار/ مايو 2012). حدثنا عن هذه التجربة، وعن لغة القصيدة ومفرداتها في هاتين الفترتين، أي ما قبل الثورة السُّورية وما بعدها؟
من الواضح بالنسبة لي أن اللغة هي الأداة، وعليها أن تصل إلى مرادها بقدر ما تحمل من إمكانيات. هذه الأداة تحتاج إلى شحذٍ دائم كي تظل قادرة على صياغة رغباتها والمضي معها. في السجن، حيث يُراد للمعتقل أن يكون معزولاً عن بيئته الطبيعية التي ينشط فيها، كان عليّ أن أبحث عن وسيلة لكسر الجدران وإن لم أكن قادراً على الخروج من السجن فعلى الأقل سأجد طريقاً لصوتي كي يصل أبعد من حدود الزنزانة، فبدأت أكتب. أصدرت مجموعتي الأولى «طائر الحريّة» والتي كان من المفترض أن تصدر تحت اسم «فسحة عارية» ولكن صعوبة تهريب القصائد من السجن وعدم القدرة على التواصل المباشر مع دار النشر جعلها تصدر تحت اسم آخر. الصوت الذي حاولت إيصاله خلال فترة السجن الأولى مرتبط بفلسطين بشكل مباشر ومن وحي نضالاتها، كانت سوريا بالنسبة لي في تلك المرحلة، ورغم تعلقي العميق بصورتها في ذهني، خالية من التفاصيل الحقيقية، كانت مجرد خارطة وألوان علم. في فترة السجن الثانية ومنذ بداية الثورة كنت قد بدأت باكتشاف تفاصيل سوريا، تلك التفاصيل التي كان النظام يعمل على تغييبها لأنها لا تشبه رغباته المزّينة في الخطابات والشعارات، ولا تشبه وحشية ممارساته في استغلال الجولان وفلسطين أداتين لقمع وقتل السُّوريين. منذ بداية الثورة السُّورية بدأت سوريا التفاصيل الحيّة تدخل إلى قصائدي وبدأت اللغة تتسع شرقاً أبعد من خط الهدنة ومن حقول الألغام.
في مجموعتك الشّعرية الثالثة «السحابة بظهرها المحني» تستنطق اللحظة السُّورية الراهنة بكل دمويتها وألمها ودمارها وخرابها، محتفياً بالحريّة والحب والثورة، غير أنك أوليت اهتماماً واضحاً بمعتقلي الرأي في سجون الأسد، ما هو تفسيرك لذلك؟
أن تكون منسياً يعني بالنسبة لي أن تقف على حافة الموت، والتجاهل أسوأ من الصمت المطلق، هو الرضوخ والقبول بفكرة عدم القدرة على الرفض أو عدم الرغبة بذلك. قضية معتقلي الرأي هي واحدة من أكثر القضايا التي تشغلني ربما بحكم تجربتي في سجون الاحتلال الإسرائيلي وربما لأنها قضية إنسانية تستحق بمعزل عن أي دوافع سياسية أن نقف عندها وأن نناضل لأجلها، والأكيد بالنسبة لي أني لا أختار مواضيع لقصائدي إنما أكتب عمّا يقلقني في اللحظة ذاتها. وكما قلت قبل قليل أكتب عن القضايا التي ترعبني فكرة أن يلتهمها النسيان.
كانت مفارقة مؤلمة بالنسبة لي أن أكون محتجزاً في زنزانة إسرائيلية ورفاقي محتجزين في زنازين الأسد وجميعنا نناضل للخلاص من الاحتلالين ونتقاسم رؤى وأفكار مشتركة في حين أن سجّانينا يتشاركون في القمع الظلم كلّ من زاويته، ثم قادتني هذه المفارقة إلى كتابة قصيدتي الأولى عن معتقلي الرأي «بين زنزانتين».
كيف أثّرت ثورة شعبك ضد الاستبداد والطغيان ومن وصفته ذات يوم بـ”حطّاب أرواح السُّوريين” على تجربتك الشّعرية؟
على الشِّعر والفنون جميعها أن تكون مؤثرة ومتأثرة بالواقع الذي تتفاعل ضمنه وألّا تسقط في هاوية الجمود، والفنون تفقد حضورها الجمعي ما لم تكن متقاطعة ومتشاركة مع بيئتها. في زمن الثورة التي تحتل كل تفاصيل حياتي اليومية لا أجد غير أن أكون منخرطاً فيها بما أملك من أدوات، وقد قادتني إلى الانتقال من قصيدة محمّلة بالرموز والدلالات بعضها متخيّل حالم وبعضها موارب إلى قصيدة أكثر واقعية لا تُهمل الرمز والدلالة ولا تتنازل عن الحلم فيها أو الرؤية الشخصية، إنما تسعى لأن تكون في بعض مقوماتها صوتاً أكثر من ذاتي. لا أقصد قطعاً تفضيل القصيدة الواقعية على النصوص الحالمة، إنما أردت فقط أن أوضح الأسباب التي تدعوني في اللحظة السُّورية الراهنة إلى كتابة نصوص أكثر واقعية وذاك لأنها تؤدي الغاية المرجوّة وتكون أكثر قدرة على التأثير والمواكبة والحضور.
بعد إصدارك ثلاث مجموعات شعرية، والرابعة قيد الطباعة، ما التحولات التي طرأت على تجربتك في بناء القصيدة؟
التراكم في تجربة الكتابة مترافقاً مع التراكم في التعرّف على تجارب الآخرين هو ما يقود إلى التحولات الرئيسية في بناء القصيدة. أستطيع بكل وضوح أن أقرأ نفسي منتقلاً من قصائد معمّدة بالعواطف والحنين تنتمي إلى القصائد الثورية الفلسطينيّة المبكرة في مجموعتي الأولى «طائر الحريّة» ومعتمداً على التفعيلة بشكل رئيسي وذلك انعكاس طبيعي باعتقادي لمرحلة التأسيس، ثم إلى قصائد مشغولة بالقلق الوجودي في مجموعتي الثانية «سؤال على حافة القيامة» حيث بدأ اطلاعي على النتاج الأدبي والشِّعري يتوسع وبدأت أسئلتي في اللغة تتعمق بعض الشيء، وفي المجموعة الثالثة أقرأ نفسي أكثر تحرراً في اختيار المفردات وفي تشكيل بنية القصيدة. أما في المجموعة الرابعة «لا ينتصف الطريق» فالنصوص بغالبية واضحة وصريحة لا تقبل المواربة ومتناغمة مع إيقاع الثورة السُّورية حيث يفرض الواقع على القصيدة أن تنزل قليلاً من عليائها لتكون جزءاً من هذا الحراك الثوري ولكنها تحاول في الوقت نفسه أن لا تتنازل عن أبعادها الشِّعرية أو تتحول إلى ما يشبه الخطاب السياسي، قد أكون نجحت في بعض المرات وأخفقت في مرات أخرى، ولكني حاولت على الأقل أن أكون جزءاً من الواقع السُّوري لاعتقادي أنه أكثر أهمية من بحثي الشخصي في اللغة والشِّعر، وتوثيق انعكاساته عليّ وتفاعلي اللحظي معه أكثر أهمية بالنسبة لي الآن من الانسياق مع هذا التيار الأدبي أو ذاك، الواقع السُّوري بما يحمله من مأساة يستحوذ عليّ ولا يترك احتمالاً للبحث عن زينة للقصيدة.
تُرجمت بعض قصائدك إلى اللغات الفرنسية، والعبرية والألمانية، وستصدر قريباً عن “مؤسسة المعمل للفن المعاصر” في القدس المحتلة ترجمة مختارة لقصائدك إلى اللغة الإنكليزية بعنوان: “جراح الغيمة” (wounds of the cloud). إلى أيّ مدى تساهم هذه الترجمات في نقل أشعارك إلى ضفاف العالمية، وبالتالي في التعريف بالشّعر السُّوري المعاصر برمزيّته وحساسياته الراهنة؟
أولاً لا بد لي من القول أن القصائد المترجمة لا تعني بأي حال أنها هي القصائد الأفضل، ولا أنها الوحيدة التي تستحق الترجمة إنما هي القصائد التي حملتها الصدف أو تراكم التجربة إلى خيارات المترجم. ثانياً لكل قصيدة غاية، وكثير من القصائد ليس من غاياتها أن تخاطب جمهوراً أوسع من محيطها المباشر أو اللغة التي كُتبت بها، وهنا تعود الأهمية إلى قدرة المترجم على انتقاء القصائد التي تكون قادرة على الوصول إلى ثقافات أخرى وإيصال رسائلها أو محاكاة جمهور خارج اللغة التي كُتبت بها. أما ثالثاً فإن ما يشغلني اليوم بشكل حقيقي هو الواقع السُّوري والفلسطينيّ تحديداً، وما ترجمة القصائد في هذا السياق إلّا محاولة لإيصال صوت المأساة السُّورية إلى أكبر قدر ممكن من المتفاعلين مع قضيتنا أو التأثير ضمن هذه الشريحة.
يقال: “إن مهمة الشّعر الحقيقية الآن ليست وصف الخراب الحالي، إذ لم تعد مهمته تكريس الحنين والذود عن خرائب الذاكرة، بل أن يستشرف المجهول، من منظورك الخاص ما هي مهمة الشّعر اليوم في زمن الحرب ومخاضها؟
باعتقادي أن المقولة لا تنسجم تماماً مع الواقع، لقد سبقت الثوراتُ العربيّة والسُّورية تحديداً غالبية نبوءات الأدب والفنون، هنالك استثناءات بالطبع، ولكننا أمام واقع ثوريّ لم يتبع خُطى النبوءة في الفنون ولم تكن هي محركة له. رؤيتي الشخصية لمهمة الشِّعر اليوم في زمن الثورة هي الوقوف على أبعاد ودلالات الأحداث في محاولة السير معها إلى الغد الذي يفترضه الشِّعر أكثر نقاء، وفي الوقت ذاته لا بد للشِّعر أن يعمل أيضاً على حراسة هذه اللحظة الاستثنائيّة أمام آليات التدمير الممنهج لأهداف الثورة والمعنى العميق لأحداثها وتطوراتها، هذا التدمير الذي يتّبعه أعداء الثورة والحريّة بداية من المجرم الحاكم ومروراً بأشباهه الساعين إلى إحلال طغيانهم مكان طغيانه. بلى نحن بحاجة ماسّة إلى فنون تكون قادرة على حماية هذه الذاكرة الحالية بكامل قدسيتها بكامل عريها وبردها وجوعها وآلامها ومن ثم بكل هذا الخذلان الذي تتعرض له وبيأسها وبُعدها عن الإنهزام.
نبدو أمام انسداد الأفق وهذا الخراب كما لو أننا عدنا إلى درجة ما تحت الصفر. سؤالي كيف تنظر للشِّعر في عالم مضطرب مثل الذي نعيش فيه؟
الفنون جميعها باعتقادي هي أداة للتعبير عما يشغل الفكر والقلب ووسيلة للمضي بجمال أحلامنا قدماً في محاولة لمنح هذه الأحلام أرضاً تقف عليها، وفي وقتنا الحالي هي أيضاً تأريخ وتوثيق تفاعلي شخصي مع الحدث. يعمل الشِّعر أيضاً والفنون جميعها على ثقب هذه الآفاق المسدودة، على نبش الخراب كي يصل الضوء إلى قعر الهاوية. على الشِّعر أن يظل متمسكاً بالحلم وبرغبته المتأصلة في البحث عن صبحٍ متحرر من تغوّل العتمة.
هناك من يرى من الشعراء أن “الشّعر قبل أي شيء هو حامل للفكر، ومجاله الحيوي الإنسانية..”. والسؤال كيف نفهم الالتزام في هذا الإطار؟ وأين هو من الجمالية الشّعرية؟
الشِّعر لا يقبل الحدود الدخيلة عليه، فهو حرية قائمة بذاتها، يختار مقومات نفسه بنفسه يحمل فكراً في بعض تجلياته ويكتفي بجمالية اللغة تأويلاً ورمزية ودلالات في تجلياتٍ أخرى، ثم يختبر ذاته مع الوقت. أمّا الالتزام فهو خيار الشاعر لا الشِّعر، هنالك قصائد ملتزمة تحمل جماليات شِّعرية فائقة المتعة وقصائد أخرى يجدر بها أن تكون خطاباً سياسياً، وأقصد أن ما يجعل الشِّعر شِّعراً ليس موضوع القصيدة منفرداً ولا لغتها منفردة، أنما قدرتها على استثمار جمالية اللغة من أجل إيصال صوت الفكرة.
قسّم النقاد الشّعر إلى مراحل معينة، فقالوا شعر الستينات أو السبعينات أو الثمانينات أو التسعينات، وكذلك من ناحية المضمون مثل “شعر الغزل”، “شعر المقاومة”، “شعر الحرب”، و”شعر الانتفاضة”… كيف تنظر إلى هذه المسألة من وجهة نظر الإبداع وليس التاريخ الشعري؟
لا تخضع الفنون باعتقادي إلى تقسيمات مسبقة، هي تنتج عن انشغالٍ ذاتيّ وقلق شخصيّ ثم يعمل النقّاد على تصنيفها وإدراجها في هذه الخانة أو تلك. لا أتخيّل أن شاعراً ينتقي قبل البدء بالكتابة تصنيفاً أو قالباً ما. الشِّعر لا يحتاج إلى هذه التقسيمات بقدر ما يحتاج إلى نقد يبحث في كيفية بناء الشاعر لقصيدته، للعلاقة ما بين لغة القصيدة وفكرتها، لكشف الرموز المستخدمة في هذا النص أو ذاك، لمكامن الضعف أو القوة في الصورة الشِّعرية، للغنائية في هذا المقطع أو السّرد في مقطع آخر، النقد الذي يحتاجه الشّعر هو تحريره من كل القوالب التي قد تكون حواجزاً أو قيود تفصل روحه عن غايته.
هل يمكن الحديث الآن عن “شعر الثورة السُّورية”، عن “قصيدة ما بعد الثورة”، إن جاز التعبير، وما هي خصوصية هذا الشعر -إن وجد- من وجهة نظرك؟
لست ناقداً لأمتلك قدرة الإجابة على هذا السؤال، ولا أدّعي قطعاً إلمامي بكل ما كُتب خلال فترة الثورة السُّورية المستمرة، ولكن قراءتي الشخصية تحملني إلى الاعتقاد أن هذه المرحلة المليئة بالدم والمجازر والتهديم والتهجير قد تركت بصمة دامغة على الكثير من قصائد الشعراء السُّوريين تشبه إلى حد ما بصمة الانتفاضة الفلسطينيّة رغم فقدانها في حالاتٍ عديدة إلى روح المقاومة وعنفوانها، تلك الروح التي كانت رافعة معنوية وثقافيّة وعامل توحيد للفلسطينيين ورفاقهم ما زالت قليلة الحضور في قدرتها على أن تكون رافعة ثقافيّة ومعنويّة للسُّوريين ورفاقهم وعامل توحيد لهم في هذه الثورة العظيمة.
أخيراً، برأيك لماذا اختار الكثير من المثقّفين والكتّاب والشعراء السُّوريين الوقوف إلى جانب النظام، ولم يختاروا الوقوف إلى جانب الثورة؟ وكيف تفسر ظاهرة الصمت أو مهادنة الاستبداد أو اختلاق مبررات له؟
ليس المثقف، كاتباً أو شاعراً أو فنّاناً، استثناءً إلّا بقدر الأفق الذي تحمله ثقافته إليه، وما اختياراتهم إلّا تعبير عن عمق هذا الوعي وتجذّره. الخيانات أيضاً لا تستثني المثقفين، خياناتهم أشدّ خراباً من خيانات السياسيين وذلك لقدرة التأثير القوية عندهم على شرائح أوسع من المجتمع. لم تخسر الثورة ولا الحريّة أحداً، بمعنى أن خيارات الناس أيّاً كانوا تعكس حقائقهم، وما من أحدٍ يُشرّف الخَيار الذي يتخذه إنما يتشرّف به.
العلاقة ما بين المثقف والسلطة قديمة ومليئة بالتناقضات، غالبية السلطات المستبدّة تسعى إلى إدراج “مثقفين أو أشباه مثقفين” في صفوفها ليس للاستفادة من وعيهم وقدراتهم الثقافيّة في تطوير علاقتها مع المجتمع، إنما لتجميل جرائمها واستخدامهم أدوات لتعميق بطشها وسلطانها. في المقابل فهنالك “مثقفون وأشباه مثقفين” يسعون بكامل قدراتهم للتقرب من مراكز القوة والسلطة لاعتقادهم أنها تمنحهم ما فشلوا في تحقيقه، وليس من السهل مقاومة الإغراء بامتلاك القوة. هذا لا يعني أن كل المثقفين المنحازين لجلاد شعبهم يقفون في خانة واحدة، وأقصد خانة الخيانة، فالبعض لم يفهم حقاً عمق الثورة وأبعادها الحقيقة، فانحاز إلى صفوف النظام إما خوفاً من التطرّف الإسلامي (وهو مخيف) وإما تبنياً للشعارات الزائفة التي يطلقها النظام عن المقاومة والعدو الخارجي وغيرها من الشعارات. هنا يمكنني القول أن الثورة بمؤسساتها وكوادرها المتصدّرة لم تنجح تماماً في تعرية النظام من خطابه الزائف هذا وتركت له مجالاً واسعاً ومؤثراً يلعب فيه منفرداً.
أخيراً فإني أعتقد أن الثقافة ما لم تكن رفضاً لكل ظلمٍ، ما لم تكن سعياً إلى الحريّة التي توسّع أفق الحياة ليست هي الثقافة التي ينتظرها الغد السُّوري ولا الفلسطينيّ ولا هي الثقافة القادرة على الذهاب مع سوريا وفلسطين إلى حلم الحريّة.
ننشر غداً قصائد خصّها الشاعر للمجلة.