أيام فقط كانت تفصله عن رؤية أغلفة كتبه الأخيرة التي ستصدر تباعاً عن دار المتوسط، رحل قبلها بشار إبراهيم، في الثلاثين من آذار في دبي. تلك الكتب التي كانت جزءاً من مشروعه كقاص، شاعر، صحافي، وناقد سينمائي. قدّم العديد من الكتب وكتب كذلك العديد من المقالات في دوريات ومجلات متخصصة بالسينما، وكذلك حكّم في العديد من المهرجانات السينمائية. رحل بشار بكامل حيويته رغم السرطان القاسي الذي أنهكه في الفترة الأخيرة من حياته. حياته التي شاركنا بها، جميع من نعمل بحقل الثقافة والفنون وخاصة في موضوعه الأهم ومشروعه الأكبر، السينما الفلسطينية، والعاملين فيها، إما بشكل شخصي أو عبر ما قدمه من كتب ومقالات وأبحاث متخصصة بالسينما.
قابلت بشار أول مرة في مكان عمله في إحدى الفضائيات في دبي عام 2010، بلقاء رتبه الصديق المشترك المخرج عائد نبعة، لتخرج علاقتنا الرسمية لإطارها الشخصي، منذ اللحظات الأولى للقاء طرح العديد من الأسئلة عما كنا نشتغل عليه من أفلام في ذلك الوقت، سألني عن تجربة وثائقية كنت قد بدأت العمل عليها عن تاريخ الصحافة الفلسطينية، الأمر الذي لم يفاجئني كثيراً، فهو متابع شغوف لكل الأخبار التي تصدر عن كل صنّاع الأفلام الفلسطينيين، ملمٌ حتى بأخبار الأفلام التي يجري إنتاجها.
عندما عرض عليّ الصديق سليم البيك المشاركة في ملف تعده مجلة رمّان عن الراحل، ترددت في الموافقة على ما أرفضه عادةً، رثاء أصدقائي، لكن شعرت بإمكانية الكتابة عن التجربة التي ربطتني ببشار “المثقف الموسوعي” بعيداً عن الرثاء، وتحديداً في مشروعي المشترك مع صديقي عائد نبعة عن السينما الفلسطينية قبل النكبة الذي نعمل عليه منذ ما يزيد عن السنتين، وكان بشار حاضراً معي في مراحل البحث وتطوير المشروع منذ كان مجرد فكرة، فكرة استهوته جداً كونها من صلب مشروعه الذي عمل عليه لسنوات طويلة، وهو في توثيق وأرشفة السينما الفلسطينية منذ منتصف الثلاثينيات وحتى اليوم.
شغف بشار كان يجعله غالباً يسبقني بالسؤال عن أين وصلنا، مقدماً مقترحات تغني مشروع الفيلم، وكان له الفضل في تعريفي برواية “موفيولا” التي تؤرخ روائياً للسينمائيين الفلسطينيين في مرحلة ما قبل النكبة، ابتداءً من الأخوين لاما مروراً بإبراهيم حسن سرحان ومحمد صالح الكيالي وآخرين من رواد السينما الفلسطينية. لاحقاً عرفني بكاتب الرواية، الفلسطيني تيسير خلف، وأخرين ممن كان يعرف أن لديهم ما يمكن أن يكون مفيداً في الخروج برؤية كاملة لسينما فلسطينية ولدت في مدينة يافا وضاعت مع النكبة، وولدت من جديدة في الشتات في الستينيات بدعم من منظمة التحرير الفلسطينية وسميت سينما الثورة الفلسطينية، وعادت من جديد لتولد على أرض فلسطين عام 1987 مع تصوير ميشيل خليفي لفيلمه «عروس الجليل»، وهو العام نفسه الذي رحل فيه عنّا أحد أبرز رواد السينما الفلسطينية الأولى إبراهيم حسن سرحان في مستشفى في بيروت.
توثيق مرحلة أولى من تاريخ السينما الفلسطينية ليس مجرد فيلم لمخرجه، إنما توثيق لأرشيف مفقود معظمه في الشتات الفلسطيني، أو حُرق أو دُمر أو سُرق، وحوله الكثير من الروايات المتعارضة حول من صنع أفلام ليست هنالك أية نسخ بين أيدينا حولها، بالتالي فإن الدقة في التقصي والدقة في الوصول للمعلومة وتحقيقها يحتاج الكثير من العمل، وبالنسبة لي كان بشار أحد المراجع التي ألجأ لها لنتحقق من كل معلومة كنّا نتوصل إليها في البحث.
لم يُنجز فيلم «سينما ما قبل النكبة» حتى الآن رغم الشوط الكبير الذي قطعه فريق العمل، ذلك الفيلم الذي قال لي بشار “سأكون قاسياً في نقده، لأن ما أنتظره من هذا الفيلم وثيقة تؤرخ للمرحلة بأمانه وليس مجرد رؤية فنية”.
رحل بشار مبكراً، مبكراً بالنسبة لنا نحن أصدقاؤه ومعارفه، مبكراً بالنسبة لمشروعه الأدبي والنقدي، وبالنسبة لمشروع توثيق السينما الفلسطينية، رحل حارس الذاكرة البصرية الفلسطينية قبل أن ينتهي وزملاؤه من المشروع (أفلام فلسطين) الذي بدأوه متطوعين في إسطنبول مع المخرج الفلسطيني بشار حمدان وآخرين، في ظلّ غياب شبه تام لمؤسسة فلسطينية لتوثيق الأرشيف الفلسطيني بشكل عام، ولأرشيف السينما الفلسطينية التي عمل بشار منفرداً لأكثر من عقدين على أرشفتها وجمعها من مصادرها المختلفة، جامعاً جزءاً كبيراً من سينما الثورة الفلسطينية، ومعظم ما أنتجه الفلسطينيون في الداخل والشتات منذ الثمانينيات حتى اليوم.
ندرك غالباً جحم خساراتنا حين تقع، ندركها ليس فقط على المستوى الشخصي لفقدان الصديق الذي نرجع إليه للمشورة، بل على مستوى أزمة النقد الأدبي والسينمائي العربي، فرحيل ناقد عربي موسوعي مثل بشار إبراهيم يزيد من مأزقنا في ظلّ إشكالية كبيرة مع النقد وغيابه وقلة النقاد. وما رحيل الناقد السينمائي المصري سمير فريد قبل أيام إلا خسارة فادحة أخرى تضاف لحالة النقد السينمائي العربي.