اختار المخرج السوري رامي فرح في ثاني تجربة وثائقية طويلة له، بعد فيلمه التسجيلي الأول “فارس حلو: حكاية ممثّل خرج عن النصّ” (2019، 95 دقيقة)، أن ينتهج أسلوباً تجريبياً يمزج فيه أزمنة الحاضر بالماضي القريب، وبين السينما والمسرح، فيحمل المتلقين الثلاث من مقاعد الحضور إلى خشبة المسرح ويحولهم لمؤدين، يعرض عليهم صوراً من ذاكرتهم القريبة من خلال شاشة سينما، ويصنع من انفعالاتهم فيلماً حمل عنوان “لنا ذاكرتنا” (2021، 93 دقيقة).
ينتمي فيلم “لنا ذاكرتنا” الذي عرض مؤخراً ضمن مهرجان “أيام فلسطين السينمائية” الدولي بدورته الثامنة، إلى موجة أفلام الثورة السورية، وهي موجة سينمائية ثورية جديدة متحررة نشأت مع بدايات الثورة السورية. كان البعض من روادها الأوائل صناع أفلام أو في مراحل دراستهم للسينما، وآخرون دخلوا التجربة من باب المغامرة والتجريب وأيضاً من باب التوثيق الذي حوّلَهم من نشطاء فاعلين بالثورة إلى صانعي أفلام بالتجربة. ميز أفلام هذه الموجة الاستقلالية من ناحية الإنتاج، لكون معظمها وثائقي، أنتجه مستقلون بإنتاج مشترك، كما تميزت أيضاً بالجرأة والانحياز للناس.
عن الثورة في عامها العاشر
اختار المخرج بعد عشر سنوات من الثورة السورية أن يعود للحظات الأولى المُؤسِسةَ، هتافاتها، مسيراتها، شهدائها الأوائل، أهم مفاصلها وأحداثها، تأسيس المقاومة السورية المسلحة “الجيش الحرّ”، قبل وصول الجهاديين والمال الأجنبي. لأن أول الثورة مثل أول الحب، نقية ساذجة، يذهلك سحرها، ترفع مستوى الأدرينالين لديك، وتنفعل حين تتذكرها وكأنها تحدث الآن. هكذا بدى انفعال أحد الشبان الثلاثة الذين ينحدرون من مسقط رأس الثورة، درعا، حين علّق على مشهدٍ من إحدى المظاهرات الأولى في مدينته: “أجمل لحظة بالثورة، بهذا اليوم نادى الشعب بشكل كامل، الشعب يريد اسقاط النظام”.
إنها اللحظة الحاسمة التي انهار فيها جدار الخوف، ربما كانت اللحظة التي استحقت فيها الثورة اسمها، تلك اللحظة التي صرخ فيها السوريون في وجه الديكتاتور كفى أيها الأحمق.
يزن دراج، راني مسالمة، عدي الطالب، من أوائل من صوروا أحداث الثورة مثل كثير من السوريين، بكاميرا موبايل بدايةً، وثقت أول الثورة، وأول الرصاص، وأوائل القطع العسكرية التي احتل بها جيش بشار أسد مدن بلده، قاد جيشاً يتفتت بالانشقاقات، دعاهم رامي على خشبة سينما مركز جورج بومبيدو في العاصمة الفرنسية باريس، ليحملهم عبر أرشيف الفيديو إلى درعا، عبر لقطاتٍ أرشيفيةٍ صوروها هم أو وآخرون، منهم أصدقاء لهم “ماتوا وهم يصورون”، ثورة شعبهم السلمية.
تجريب جريء بأن تذهب باتجاه فيلم يزيد عن التسعين دقيقة يقف فيه ثلاثة أصدقاء يشاهدون أرشيفاً على شاشة سينما تجعل حجم الأشخاص والأشياء تبدو أكبر مما هي على أرض الواقع، رابعهم المخرج يستجوبهم أحياناً، يستفز ذاكرتهم، يسجل انفعالاتهم، في ما يبدو وكأنه مشهد واحد طويل في فيلم على خشبة مسرح، دون أن يوصل مشاهده للملل، فايقاع الفيلم مستمد من إيقاع أحداث بدأ مرحاً هادئاً وارتفعت وتيرته بشكل مستمر مع تتالي الأحداث التي شكّلها المخرج من خلال أداء الأربعة الواقفين على المسرح، ولقطات الأرشيف التي تستعيد الحدث.
لربما يبدو المشهد في البداية وكأنها محاولة لمحاكمة مجريات الثورة على الديكتاتور، وأين وصلت بعد عشر سنوات، لكن صانع الفيلم اختار بعد عشر سنوات الوقوف فقط على البدايات، البدايات الجميلة مثل ضحاياها الذين أمنوا بها، ورغم رمانسية أن تقف فقط عند البدايات الجميلة لثورة شعب دفع مئات الآلاف من الضحايا والمختفين قسريا والجرحى، وملايين اللاجئين الذين شردتهم جيوش ومليشيات من كل العالم، كي يبقى الديكتاتور ولو مجرد دمية تؤدي دورها كما يشاء اللاعبون الكبار. لكن ربما أراد رامي أن يقول أنه رغم كل ما حدث لا تزال الثورة في بدايتها، فلا يزال إيمان هؤلاء الشباب الثلاثة الذين وقف وسطهم على خشبة المسرح بالثورة كما كان في أيامها الأولى.