لطالما حضر الجولان السوري المحتل في السينما السورية بصورته الرمزية الجزء المحتل من الوطن الكبير وخط الجبهة المتأهب أو المشتعل، ولطالما أعيد استحضاره سينمائياً برؤىً مختلفة أعاد تصوير احتلاله وتهجير معظم سكانه، كما تناولها محمد ملص وثائقياً بفلميه “قنيطرة 74″، و”الذاكرة”، وأفلام غسان شميط، في “شيء ما يحترق”، وإيناس حقي في “المعبر”، أو كما في بعض أفلام عبد اللطيف عبد الحميد الروائية، وأفلام أخرى غيرها. لكن بقيت كاميرا السينما السورية ترى الجولان من الجهة المقابلة من الأسلاك الشائكة، حتى بدأ أبناء الجولان المحتل يصنعون سينماهم الخاصة، ويقدون للعالم صورة عن السكان الواقعين تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967.
بالنسبة لي شخصياً، بدأت بالتعرف إلى هذه السينما التي كانت تصنع بصمت من خلال صناعها، حين تعرفت إلى المخرج سليم أبو جبل، صاحب التسجيلي “روشميا”، وأذكر أنني حين أردت برمجة الفيلم ضمن عروض فعاليات أيام فلسطين السينمائية في مالمو، السويد، تساءلت عن هوية الفيلم، هل هو سوري لجهة صانعه المولود في مجدل شمس المحتلة؟ أم فلسطيني لجهة حكايته؟ أم لجهات تمويل إنتاجه؟ لا شك أن سؤال هوية الفيلم أكثر تعقيداً من هوية صانعه حتى وإن كان البعض يفضل أن تحال هويته لجهات إنتاجه.
لاحقاً تعرفت من خلال سليم بمخرجٍ جولاني أخر، هو وسيم صفدي، ومنذ لقائنا الأولى في مجدل شمس أثناء تصويري لأحد الأفلام، فتح الحوار مع وسيم أسئلة كثيرة لدي حول الجولان وعزلته التي غدت أكبر بعد الثورة السورية، وولد لدي أسئلة أكثر عن الجولان وأهله، وكيف يبدو سكان الجولان السوري المحتل بعد ما يزيد عن عشر سنوات من عمر الثورة السورية، كيف انعكست على حياتهم خلال السنوات الماضية؟ كيف تأثر سكان الجولان بمجريات الأحداث على الطرف الآخر من الوطن، فالحدود التي تفصل القرى السورية الستة التي نجت بسكانها من التدمير والتهجير الإسرائيلي: مجدل شمس، مسعدة، بقعاثا، عين قنية، والغجر وسحيتا، من أصل 137 قرية و112 مزرعة بالإضافة إلى مدينتي القنيطرة وفيق، التي وقعت كلها تحت الاحتلال الإسرائيلي، لم تعد حدوداً آمنة كالسابق حين كان السوريون يقفون على طرفها المقابل من تل الصرخات في مجدل شمس، لينادوا على أهلهم تحت الاحتلال. لقد تغير المشهد الجولاني كثيراً، ووقف سكان مجدل شمس مراراً باكين على الحدود في لحظاتٍ قاسية عاشوها وهم يسمعون أصوات الصواريخ تدك مدنهم وقرى أهلهم على الطرف الآخر، ويشاهدون من خلف السلك الشائك أخوتهم الهاربون من بيوتهم من الحرب الأكثر قسوة والأعلى فاتورة بشرية في العقد الأخير.
أجابني على العديد من تلك الأسئلة وسيم الصفدي لاحقاً حين شاركني فيلمه الأخير “حصار”، وهو فيلم وثائقي قصير 30 دقيقة، والذي اختزل في اختياره للعنوان توصيف حالة سكان الجولان السوري المحتل بعد الثورة، فتلك البقعة الجغرافية التي يسكنها ما يزيد عن 19 ألف نسمة من السوريين، من أصل 138 ألف نسمة شردتهم إسرائيل، غابوا عن عدسة التوثيق لحياتهم ومواقفهم، ليأتي هذا الفيلم في سياق يساهم في تقديم إجاباتٍ عن المتغيرات التي حدثت خلال سنوات الثورة، بحث عنها وسيم بعد عودته من فرنسا لمجدل شمس بعد أن درس السينما في جامعة “بواتييه”، وفي رصيده فيلم واحد هو “عندنا في الجولان”، إنتاج مشترك للمخرج ولجامعة “بواتيه”، وليؤسس شركة إنتاجه الخاصة (لوميير للإنتاج) وليصنع أفلاماً أخرى مثل “الجولان المحتل تحت المجهر”، 1967، و”خليل السكاكيني يوميات إنسان” مع المخرج عصام بلان، من إنتاج الجزيرة الوثائقية.
يعد “حصار” الحائز على التنويه الخاص في مهرجان غوتنبرغ للفيلم العربي الذي أُقيم في السويد، فيلم وسيم صفدي التسجيلي الرابع، والذي يبدأ فيه من أسئلته الشخصية كأحد سكان مجدل شمس التي عاد لها بعد غياب طويل، ليجدها قد تغيرت كثيراً، وأصبحت تعيش عزلةً وحصاراً خانقاً يشعره سكانها نتيجة للحرب المستعرة في بلدهم الأم، ويستعرض موقف عددٍ من سكان الجولان من الثورة، وكيف يرون مستقبلهم في ظلّ الصراعات الدائرة من حولهم.
يطرح وسيم أسئلته من صوته في الفيلم كمعلق، ويقدم إجاباتها من خلال شخصياته التي قابلها، في سياقات مختلفة تعكس الواقع والمتغيرات التي طرأت على المنطقة المحتلة من سوريا، والتي لم يعد يوصلها في بقية شعبها سوى تكنولوجيا الاتصالات.
ويعود من جديد سؤال الهوية والانتماء في ظلّ الإحتلال الإسرائيلي، والنظرة إلى الدولة السورية التي قصفت سكانها بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، هذا السؤال الذي سيقود إلى انقسام في المجتمع الجولاني الصغير، كما يبدو من فيلم “حصار”، الذي يعرضها بحرفية صانع الأفلام الوثائقية من خلال معالجة واقعية وسرد بصري وصوتي سلس وايقاع سريع.
أسئلة كثيرة للكيفية التي يرى فيها الجولانيون ثورتهم، يجيب عليها شرائح مختلفة من المجتمع، فنانون اختاروا الوقوف إلى جانب ثورة شعبهم، وقدموا أغنيات أصبحت من أيقونات أغاني الثورة الساخرة، ويوثق أنماط حياة الجولانيين اليوم في لحظات حاسمة من حياة السكان المحاصرين ما بين حرب تحرق بلادهم على مرآى من أعينهم قبل أن ترى أجيال منهم ولدت وعاشت عبر ما يزيد عن الخمسين عاماً من عمر الاحتلال بلادهم، واحتلال يحاصرهم بكل وسائله الممكنة، ويعزلهم عبر إحاطتهم بمجموعة من مستوطنات المستعمرين المهاجرين الغربيين الجدد.
وفي سياق موازٍ يعرض فيلم “حصار” للتفاصيل الحياتية الجولانية اليومية، الصراع المستمر مع المحتل، حيث تنتشر حول القرى الستة 45 مستوطنة على أنقاض القرى السورية التي دمرها الاحتلال، يسكنها ما يزيد عن 20 ألف مستوطن، وتنتشر حولها 76 حقل ألغام تحوي نحو مليوني لغم، منتشرة في المساحات الزراعية، بالإضافة إلى 60 معسكراً للجيش، عاش ويتعايش مكرهاً مع وجودها سكان البلدات السورية المحتلة.
لا يزال هنالك الكثير ليقال عن الجولان وأهله، ومشاكله المتجددة التي لا يفتك الاحتلال عن صنعها يومياً للتضيق على السكان، فوسيم الذي يعمل الآن على فيلم تسجيلي جديد، يتابع فيه رحلة مقاومة مستمرة لسكان الجولان لمنع فرض شركات الاحتلال على سكانه وضع مراوح هوائية ضخمة لتوليد الطاقة الكهربائية لمستوطنات الجولان، رغم ضعف الإمكانيات، واحجامه عن اللجوء للدعم الإسرائيلي الذي بطبيعة الحال لن يتوافق ورؤيته لما يحدث في الجولان، وتوثيق تفاصيله اليومية الحياتية سينمائياً.
بالإضافة لتعقيدات الهوية كما يراها الآخر، أقصد جهات منح الدعم التي تشترط غالباً أن يحصل صانع الفيلم على نسبة معينة من الدعم لفيلمه من بلده الأصلي ليكون مؤهلاً للتقدم والحصول على دعم خارجي، لكن في مثل حالة وسيم وآخرون من صناع الأفلام الجولانيين المسألة غاية في التعقيد لتحقيق هذا الشرط، حيث مؤسسة السينما السورية التي تحولت لأداة بروباغندا للنظام الدموي في دمشق، وما بين مؤسسة الاحتلال الإسرائيلية.
لذلك أنتج وسيم فيلمه من خلال قناة “سوريا”، في اسطنبول، وعُرض على شاشتها، ساعياً إلى إيصال صوت أهالي الجولان إلى السوريين في كل بقاع الأرض التي شردتهم الحرب إليها في السنوات العشر الأخيرة، ومثل وسيم مخرجون جولانيون آخرون لا نعرف ما يودون قوله، لأنهم عجزوا حتى اللحظة عن إيجاد تمويل أو جهات إنتاجٍ لأفلامهم، وهو من مونتاج اسنات حديد وإياد فاضل، وصوت نبيل الحلبي، موسيقى بشر أبو صالح.