ماذا جرى في طرابلس قبل أيام؟
هذه المرة ليس هناك عملية عسكرية بين باب التبانة وجبل محسن، بل يوجد أفلام تُعرض في الدورة الرابعة من مهرجان سينمائي يحمل اسم المدينة، يصر على أن يثبت أن السينما تتجاوز الجميع وتقرب بينهم، يصر على أن يؤكد أن ثمة لغة تنتقل عبر أشرطة سينمائية طويلة وقصيرة، وثائقية وروائية ومتحركة، قادرة على أن تجعلك جزءاً منها إذا أعطيت لنفسك فرصة أن تكون واحداً من الحضور، بل هي، أي السينما، ومن دون أن تشعر ستكون بوابة الأمان التي ستدخلها دون أن تخاف من موت يقترب منك في لحظة طائشة وطائفية.
مهرجان نهض في جل الأزمة المذهبية لا لشيء بل لمحاولة إعادة الذكرى لمدينة كانت السينما جزءاً أصيلاً في حياتها قبل أن يتم إقفال 29 دار عرض. يريد المهرجان أن يتحدى لغة الموت التي باتت هي عناوين الصحافة الرئيسية، في محاولة للفت انتباه العالم بل اللبنانيين أنفسهم الذين يعيشون خارج تلك الفيحاء، إلى أن من يعيش في طرابلس ما زال يحب الحياة وما زال يريد أن يكون جزءاً من تلك الحياة، بعد إعلام أجحف بحقهم وأجحف بحق كل المحاولات الوطنية، إن صح التعبير، في محاولة النهوض بين الركام وتجاوز رائحة الدم، والوقوف مرة أخرى على القدمين كقلعة صنجيل بشموخها وعنفوانها وتاريخها الذي كان يشبه في طباعه طباع أهالي طرابلس الذين كانوا يتميزون بانتمائهم للوطن لا للطائفة أو المذهب.
هي السينما إذن التي حمل رايتها مدير المهرجان الياس خلاط الذي من الصعب الحديث عن قيمة المهرجان دون الربط بشخصه وهو الذي حمل ذلك الشغف المتأصل به أباً عن جد وحوّله من حلم إلى حقيقة، ذلك الرجل الذي من الصعب أن لا تدمع عيناه وهو يتحدث عن مدينته التي يحب، وعن جده الأكبر الذي كان يهوى السفر والترحال وجاء بأول جهاز عرض للأفلام في الهواء الطلق في بداية الألفية الأولى، وعن عائلته التي توارثت ذلك الشغف وكانت هي نواة من بنى دور عرض سينمائية متعددة مثل دار الريفولي، التي كانت تعرض كل أنواع السينما التي كانت جزءاً من حياة الطرابلسيين في أوقات نزهاتهم أو لقاءاتهم الخاصة.
في طرابلس يوجد سينما، بل مهرجان كامل العناصر، 45 فيلماً من كل العالم، حكايات متنوعة، ولغات مختلفة، وجمهور يريد أن يكون جزءاً من الحدث من خلال التواجد في صالات العرض، أو من خلال النقاشات التي تحدث في قسم المنتدى والتي تتناول مواضيع مهمة في صناعة السينما، إضافة إلى الجلسات بين الضيوف من كل صوب وجانب للحديث عن ثقافة جمعت بينهم وقربت بين وجهات نظرهم في مطارح عديدة، كل هذا يحدث في مكان يضج بالحياة المطلة على بحر تشعر لوهلة أنه يشبه ملامحك، لأن الراحة التي تكمن في تلك المدينة تستشعرها من عيون المارة ومن ابتسامة وجوه من السهل أن نقول أنها موجودة بشكل لافت في محيى أهالي طرابلس.
وفي الحديث عن البحر الذي تطل عليه المدينة، من فلسطين قالوا لي أنت قريبة “إلفي علينا”، ومن سوريا اكتفوا بالقول لوّحي لنا من بعيد وسنرد عليك السلام، ومن الأردن أصروا على أن المسافة خطوة قدم فلا ضرر من زيارة خاطفة، واتفقوا جميعهم على أن أتلو قصيدة أمام البحر وأضحك من اتفاقية صنعت كل تلك الحدود وكل ذلك الخوف:
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي. ولي
شَبَحي وصاحبُهُ. وآنيةُ النحاس
وآيةُ الكرسيّ، والمفتاحُ لي
والبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي
لِيَ حَذْوَةُ الفَرَسِ التي
طارت عن الأسوار… لي
ما كان لي. وقصاصَةُ الوَرَقِ التي
انتُزِعَتْ من الإنجيل لي
والملْحُ من أَثر الدموع على
جدار البيت لي…
في النهاية ما يحدث في طرابلس هو فرصة مهمة لإثبات أن الفنون بشكل عام والسينما بشكل خاصة يقدرون على تحدي كارهي الحياة، وعلى التغيير ليس بشكل آنيّ بالضرورة بل على الأقل سيخلقون من خلال الاستمرارية نوعاً من التراكمية تؤدي في النهاية إلى اعتماد السينما كثقافة حاضرة في المدينة ومتأصلة فيها، فلا خوف على مدينة فيها بحر وفيها سينما، وطرابلس فيها بحر وفيها سينما ومشهورة بالحلويات أيضاً. باختصار، في طرابلس توجد حياة.