حتى نحن كصحافيين مطالبين بتغطية “ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية برام الله”، وكتابة التقارير عنه، شعرنا بارتباك بالغ، علينا تصويب أنظارنا إلى فلسطين، تلك البقعة من الأرض التي لم تطأها أقدامنا من قبل، لكننا تشرّبناها في كتب التربية القومية والتاريخ والجغرافيا والدين واللغة. ارتبكنا، فلسطين ليست مجرد نظرية، فلسطين أرض وناس وحياة.
وكان من الطبيعي، بداهة، أن يرتبك أيضاً الكتّاب العرب المشاركون، وهم يرون أنفسهم في تلك البلاد، كان من الطبيعي أن تخرج كلماتهم مندهشة ولا تكاد تصدق وجودهم في رام الله، التي لم يرها أغلبهم، وجل معرفتهم عنها مستقاة من “رأيت رام الله” لمريد البرغوثي.
صحيح أن سلطات الاحتلال فرضت أكبر قدر ممكن من العراقيل في وجه الملتقى والقائمين عليه، فرفضوا منح التصاريح لمجموعة كبيرة من الكتّاب العرب، خاصة من الدول المغاربية مثل تونس والجزائر، ليفقد الملتقى حضور أكثر من نصف مدعويه، إلا أن أولئك المدعوين كانوا حاضرين عبر فضاء الإنترنت، وشاركوا في الملتقى –رغم تعنت الاحتلال– عبر برنامج السكايب.
أسماء مثل الجزائري سمير قسيمي، التونسي كمال الرياحي، المصرية مي خالد، الأردني إلياس فركوح وغيرهم، لم يُمنحوا تصاريح الدخول، وبالتالي لم يحضروا، لكن الكثير منهم شاركوا في الندوات المقررة لهم، متحايلين على المنع الغبي من قبل الاحتلال، عبر برامج الإنترنت التي جعلتهم يحضرون رغماً عن التعسّف الإسرائيلي.
السُّكر بهواء فلسطين
لوحظ جلياً، الاضطراب السعيد، على المشاركين الذين استطاعوا الوصول إلى رام الله، صدمة الحقيقة الفلسطينية، القابعة هناك عند الحدود الجنوبية الغربية لبلاد الشام، جعلت الكثير من المبدعين العرب يعبرون عن سعادتهم الكبرى بالتواجد في رام الله، وعن ذلك يقول الروائي المصري إبراهيم فرغلي: “أشعر بمشاعر متناقضة جدا، بسعادة غامرة لزيارة البلد التي نحلم بها ليل نهار، وكنا نظن أن زيارتها مستحيلة، وأشعر بالأسى لما رأيناه من مظاهر التمييز العنصري التي يعيشها الشعب الفلسطيني، ومن مظاهر الكيفية اليومية التي يحاول بها المحتل التضييق على الفلسطينيين بتضييق حركتهم عبر المعابر، وتقليل فرص العمل، والغطرسة التي يتعامل بها لكي يذكّر بها الشعب الفلسطيني أنه صاحب الكلمة العليا. وغيرها من المظاهر المؤسية. لكن الأهم أن الصورة التي يقدمها الشعب الفلسطيني العنيد الذي يحاول التحايل على كل هذا بتأكيد قوة صموده، والعمل على إتقان مهاراته، وهو ما شهدناه مثلاً في العمارة الجميلة في أرجاء رام الله، وفي متحفي ياسر عرفات ومحمود درويش المصممان على أحدث مستوى والمبنيان بتقنيات عالية جدا بأيد فلسطينية مائة في المائة، إضافة إلى سعادة الفلسطينيين بالزيارة وإلحاحهم لأن ننقل للعالم ما يجري لهم وسط إحساس بأن العالم كله تخلى عنهم أو تناساهم”.
أما الروائي الإرتري حجي جابر، والذي تواصلنا معه منذ اليوم الأول من الملتقى، فكان في حالة تشبه النيرفانا، لا يكاد يصدق أن فلسطين أرض موجودة خارج الكتب، وهو ما عبّر عنه صاحب “سمراويت”: “لا أزال عاجزاً عن تحديد مشاعري على وجه الدقة. أنا بحاجة لبعض الوقت لأستوعب ما يجري وأكون قادراً على تحديد معالم هذه المشاعر. لكن في المجمل أمام حدث كبير واستثنائي ولا يتكرر ولا يحدث للجميع.. كل هذا يجعلني متمهلاً في التقاط هذه المشاعر وفرزها وفحصها قبل الإعلان عنها مكتملة.
قيمة مضافة
كتبت الروائية السورية مها حسن، على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فايس بوك: “وزير الثقافة إيهاب بسيسو، يتوجّب استنساخه وتوزيعه على وزارات الثقافة في العالم، وخاصة طبعاً العربي منه”.
هذا الامتنان الذي عبّرت عنه صاحبة “الراويات”، للوزير الشاب وكل مساعديه بوزارة الثقافة الفلسطينية واللجنة المنظمة للملتقى، ينبع في المقام الأول من التنظيم الجيد الذي حظي به الملتقى، رغم المعوّقات التي سبق الإشارة لها.
حول مستوى التنظيم يقول حجي جابر: “برأيي أن الملتقى لاقى نجاحاً كبيراً وذلك قياساً بتوقعاتي وما رأيته في ملتقيات أخرى في الوطن العربي. وباستطاعتي التدليل على ذلك بأمثلة عديدة، فدرجة التنظيم كانت عالية رغم كل المعوقات التي فرضها الاحتلال، من منع العدد الأكبر من المدعوين من الدخول، إلى تعطيل الآخرين على المعبر، لكن في المقابل كان المنظمون على درجة عالية من المرونة في جدول الندوات والفعاليات المرافقة. كذلك توفّق المنظمون في اختيار عناوين جيدة للندوات وصمموا جدولاً مصاحباً للتعرف على هوية المكان وتراثه بحيث أصبح كل الوقت يعود بالمعرفة والمتعة والتعمّق في فهم حالة الفلسطينيين عن قرب”.
المصري إبراهيم فرغلي، يشاطر جابر الرأي ذاته، حول قيمة الملتقى وجودة التنظيم، إذ يقول: “أعتقد مبدئياً أن فكرة الملتقى فكرة عظيمة جداً للفت الانتباه لفلسطين الداخل، وما يجري فيها سياسياً وأيضاً فنياً وأدبياً. الملتقى في تقديري نجح رغم سلوك سلطات الاحتلال في محاولة تعويقه بعدم إصدار التصاريح للبعض، أو تعمد تأخير الوفد على المعابر، ولكن أقيمت الفعاليات كلها، ومن لم يتمكن من الحضور شارك عبر السكايب، والأهم أن الجمهور الفلسطيني تفاعل بشكل رائع مع الكتّاب ونقدَ الأفكار المقدمة ولفت الانتباه لجوع الشعب الفلسطيني لمثل هذه الأجواء التي تمكّنه من التفاعل مع الكتاب بوصفهم كتاباً وبوصفهم حضوراً عربياً أراد أن يشاركهم تفاصيل حياتهم ويسمعهم ويرى ثقافتهم المحلية والشعبية عن قرب”.
وحول قيمة وأهمية الملتقى، قال الأردني إلياس فركوح: “لهذا الملتقى خصوصيته وتفرده لأسبابٍ يمكنني تلخيصها بالآتي:
1. أنه عُقد في فلسطين، بتنظيم من وزارة الثقافة، في مدينة رام الله التي باتت ترمز إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، ما يشير إلى أنّ ما يصيب الملتقى من “إعاقات وعرقلات” يشكّلُ أمثلةً ملموسة على ما يصيب السلطة نفسها؛ بمعنى العمل الدؤوب من قِبَل سلطات الاحتلال الصهيوني على الحد من “فاعليتها”، وتقليص حضورها داخل المجتمع والتقليل من شأنه!
2. أنه رغم ما سبق وأن أشرتُ إليه، بدا واضحاً عزم الجهة المنظمة على توفير ما تملك من إمكانيات، مادية ولوجستية وإدارية وبشرية، من أجل عقده على مستوى لا يقلّ عن سواه من الملتقيات المثيلة خارج فلسطين. وهذا، في ذاته حين نتأمله، لأمرٌ إيجابي يُحسَب له وللقائمين عليه – آخذين بالاعتبار المعيار النسبي عند التقييم.
3. حقق الملتقى إحدى غاياته الأساسية، ألا وهي إقحام المشاركين من كتّاب وناشرين عرب في المشهد الثقافي داخل فلسطين، وحثهم على التفاعل معه أخذاً وعطاءً، وذلك من خلال حضورهم الفيزيقي/الشعوري/الحِسّي في المشهد الاجتماعي/السياسي/المعيشي واليومي للإنسان الفلسطيني المقاوم لشتّى أشكال التهميش ومحاولات الإذلال والإخضاع! وهذا بدوره سينعكس في المستقبل نصوصاً عربية ذات خصوصية غير مسبوقة، ومواقف سياسية وأخلاقية وثقافية وإعلامية جديدة تعاينُ الحقائق هناك بمنظور مختلف، بعيداً عن الأطروحات المستريحة إلى كليشيهات قيد التساؤل، والتعامل معها على نحوٍ مغاير.
4. أن يوصَف هذا الملتقى بـ”الأوّل” إشارة بليغة على إصرار الجهة المنظمة على عقده في دورات لاحقة، وتعزيزه بالاستفادة من التجربة ودروسها، وبذلك يتحوّل إلى إحدى تجليات تحدي الاحتلال الغاشم ومقاومته والرد عليه، في البُعد الثقافي، وكسراً لـ”الصورة النمطية” المروجة صهيونياً، القائلة بأنّ الفلسطيني مجرد كائن يدعو للعنف.. أو إرهابي، إلخ!
محاور الملتقى
تسعة محاور، موزعة على أربعة أيام، ناقشها الكتّاب العرب في “ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية برام الله”، الأول: “التجربة الذاتية وتجلياتها في الرواية العربية” بمشاركة: الجزائري واسيني الأعرج، التونسي شكري المبخوت، المغربي أحمد المديني، والأردني إلياس فركوح. ثم محور: “فلسطين.. رواية المكان والذاكرة”، ودُعي للمشاركة فيه يحيى يخلف، محمود شقير، أنور حامد، ليلى الأطرش.
المحور الثالث حمل عنوان “الرواية العربية في ظل الثورات والحروب” بمشاركة السورية مها حسن، المصري محمود الورداني، السوداني حمور زيادة، والعراقي علي بدر”. أما المحور الرابع “دور المرأة الكاتبة في تطور الرواية العربية” بمشاركة الأردنية سميحة خريس، المصريتين منى الشيمي ومي خالد، والفلسطينية ليانة بدر.
حمل المحور الخامس عنوان “الرؤية النقدية في الرواية العربية الحديثة”، وشهد مداخلات من المغربي ياسين عدنان، المصري محمد عبدالنبي، التونسي كمال الرياحي..
“سؤال هوية وتحولات المكان” هو عنوان المحور السادس، وحمل جدول أعمال الملتقى لهذا المحور أسماء مدعوين مثل الأردني محمود الريماوي، الإرتري حجي جابر، الليبية نجوى بن شتوان..
المحول السابع خُصص لـ “أدب المنفى والاغتراب” بمشاركات من العراقي زهير الجزائري، المصري إبراهيم فرغلي، والسوداني خالد عويس.
مجموعة من الناشرين العرب تمت دعوتهم لمناقشة المحور الثامن من ملتقى فلسطين الأول للرواية، ومنهم المصريان محمد رشاد وفاطمة البودي، والفلسطينيان جهاد أبو حشيش و ماهر كيالي.
أما المحور الأخير فحمل عنوان “الجوائز وتأثيرها على كتابة الرواية” بمشاركة من التونسي الحبيب السالمي، الفلسطيني ربعي المدهون، الكويتي طالب الرفاعي.
شهادات ورؤى
الأردني إلياس فركوح كان من ضمن المشاركين الذين لم يحصلوا على تصريح الدخول، إلا أن ذلك لم يمنعه من إلقاء مداخلة قيمة في محور “التجربة الذاتية وتجلياتها في الرواية العربية”، يقول صاحب “أرض اليمبوس”: “إني من الرائين إلى أنَّ ذات الكاتب، بما تحمل من سِمات شخصية، وتتضمن من ذخيرة ثقافية معرفية، وتملك من رؤيا للحياة وقضاياها؛ كلّ هذا لا بد وأن يتجلّى داخل نصوصه، على نحوٍ أو آخر: يتجلّى من خلال تركيبه للمواقف، ورسمه للشخصيات، وطبيعة الأسئلة التي يطرحها عبر توالي الكتابة الناسجة لبؤرة النصّ ومركزية معناه. وهذا، كما جاء في الورقة/الشهادة التي قدمتها للملتقى، ليست النتاجات المسماة “كتابات ذاتية” الهادفة الإحاطة بحياة الكاتب، وتاريخه، ومواقفه المعلنة من قضايا مجتمعه وعصره، والتي يمكن تحديدها بـ: اليوميات، المذكرات، السيرة الذاتية المباشرة. وكنت قد عملتُ على تكثيف ما أعنيه بالذات إذ اقتبستُ جملةً للروائي المكسيكي كارلوس فوينتس مفادها: “أنتَ تتكون من الشيء الذي تأكله. كما أنك المجلات المصورة التي تمعنتَ فيها وأنت صغير.”
هذا عن رؤيتي للذات وكيفية تجليها في الرواية.
أما إذا كنتَ تقصد الروايات التي تتخذ من حياة كاتبها وسيرته موضوعاً لها، ومحوراً رئيساً تدور من حوله الأحداث؛ فإني لا أملك رأياً حاسماً بشأنها –إذ أن ذلك يعتمد على قدرته في إذابة هذه الذات بعدم شخصنتها داخل “إطار بورتريه” يشير إليه في الواقع الحياتي دون سواه.
أما الإرتري حجي جابر، فقد شارك بمداخلة في محور “الهوية والمكان”، وعن ذلك يقول جابر: “شاركت بورقة أقرب للشهادة الإبداعية عن تجربتي مع الهوية والمكان وتقاطعاتهما مع الكتابة. الأدب الجيد برأيي لا يرتهن لحال الجغرافيا الراهن بل يطوعها وفق إرادته. تحدثت عن الكتابة عن المكان من خارجه كمثال على هذه الفكرة وهنا أجد تشابهاً في الحالة بين الإرتريين والفلسطينيين.
أما لماذا يحظى سؤال الهوية بهذا الحضور فلأنه يصدر عن قرار الروح وقد يكون محركاً للكتابة كما هو الوضع معي مثلاً”.
“أدب المنفى والاغتراب” كان عنواناً كبيراً لمحور شارك بمداخلات حوله العديد من الكتّاب، منهم المصري إبراهيم فرغلي، وعن ذلك قال صاحب: “معبد أنامل الحرير”: “طبعا أنا قدمت شهادة عن علاقتي أنا بفكرة الوطن والحدود كفرد. من خلال الاغتراب طفلاً ومراهقاً، ثم الآن. ولكني أعتقد أن فكرة أدب المنفى أصبحت فكرة قديمة انتهت في عالم مفتوح على بعضه البعض. اعتقد أن الاغتراب نفسه ليس شراً كله، بالنسبة للأدب، فهو قد يتيح للكاتب أن يرى موطنه بشكل حيادي وبارد، ويوفر له اختبار فكرة الوطن في عالم يقوم رأس المال العالمي بتغيير حدوده اليوم باستخدام السلاح والنزاعات الإقليمية والاحتلال”.
خاتمة لا بد منها
على هامش ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية برام الله، وفي تصريح خاص لرمّان قال الأردني إلياس فركوح: “كنتُ زرت فلسطين (رام الله، القدس، يافا، الكرمل، طولكرم… إلخ) قبل حوالي عشرين سنة، إثر اتفاقية أوسلو ووادي عربة، وعاينتُ كثيراً من معالم التحولات الطارئة على ما عرفته أثناء دراستي في القدس أوائل ستينيات القرن الماضي. إحساسي وتأويلي أفادني بالتالي:
هذا الكيان الصهيوني لا مستقبل له هنا. وما وجوده سوى حالة طارئة ومؤقتة بمقياس التاريخ. ولسوف ينتحر بعناصره الداخلية المتناقضة، أو يختنق بإحكام عزلته بسبب عنصريته وتعنته. هذا كيانٌ يعيش أزمة “الغيتو” الأوروبية ويجددها هنا بإرادته”.
برنامج الملتقى من صفحة وزير الثقافة الفلسطيني إيهاب بسيسو.. هنا