نبدأ بحادثة طريفة: زارني، ذات يوم، صديق يحمل كتاباً بالإنكليزية لجيمس بريستيد، راجياً المساعدة في ترجمة فصل عن تاريخ فلسطين القديم. أحضرتُ ورقة وقلماً، ليكتب ما أُملي عليه، وعندما وصلنا إلى يوشع بن نون، وأريحا، وردت إشارة إلى عثور بعض علماء الآثار على رماد تحت جدران السور الخارجي للمدينة، ولاحظت أنه استمر في الكتابة بعد توقفي عن الكلام. فطلبت أن أرى ما كتب، وإذا به قد أضاف، دون أن يرف له جفن، أن العثور على الرماد يدل على بسالة وبطولة الفلسطينيين القدامى، الذين آثروا الموت حرقاً على الاستسلام.
نشر صديقي كتابه في هذا الخصوص، في وقت لاحق، وأورد فيه استنتاجات كثيرة من فصيلة “الموت حرقاً”، ودون أن يرف له جفن، طبعاً. حرّضته على ذلك دوافع وطنية خالصة، بالتأكيد، ونظر إلى عمله كإسهام شخصي في إنشاء تاريخ الشعب، وسرديته البطولية.
تبدو طرفة كهذه مدخلاً مناسباً للكلام عن يوسف زيدان، وصلاح الدين، على فرض أن عدداً لا بأس به من القرّاء العرب هبّت عليهم، من خبر ما في جريدة، أو تعليق في مواقع التواصل، رياح ساخنة من عاصفة غاضبة أثارها هجوم الأوّل على الثاني. وهنا، يجدر التساؤل: أيصح وصف صلاح الدين الأيوبي بـ “أحقر شخصية عرفها التاريخ”، كما فعل الروائي المصري يوسف زيدان؟ وهل يصح استخدام عبارة كهذه في وصف شخصية تاريخية؟
يحق لكل إنسان تكوين، والتعبير عن، رأيه الشخصي، بالتأكيد. ولا أعتقد أن منح صلاح الدين الأيوبي، أو غيره، المكانة الأولى بين أحقر شخصيات التاريخ، ينم عن حكمة خاصة (سبق لزيدان أن ارتكب حماقات لفظية لا تُغتفر)، فالتاريخ يفيض بما لا يحصى من شخصيات يمكنها التنافس بسهولة على مكان كهذا، ناهيك عن حقيقة أن مَنْ رفعه التاريخ إلى مرتبة الأيقونة، في نظر جماعة بعينها، قد يكون تجسيداً للشيطان في عين غيرها.
وهذا، على أهميته ليس بيت القصيد. ففي موجة الغضب التي عصفت بكثيرين، احتجاجاً على كلام زيدان، الذي تطاول على رمز تاريخي كبير، ما يعيد التذكير بحقيقة أن علاقة العرب بالتاريخ إشكالية في أفضل الأحوال. ومرجع الأمر أن ماضي العرب إمبراطوري، وحاضرهم تابع وذليل. وهم يراوحون بين الاثنين، منذ قرنين، وفي المراوحة تتجلى جراح نرجسية كثيرة، وفيها ما يعرقل تطبيع علاقتهم بالتاريخ.
فمن الهبل، مثلاً، تخيّل أن الشخصيات التي سكنت تاريخنا، كانت دائماً مجيدة وفريدة، كما شاء لها كتّاب الحوليات القدامى أن تكون في سير لا تنجو من شبهة الكذب والمبالغة. هذا لا يعني، بالضرورة، وضع الشخصيات المعنية في خانة الحقراء، ولكنه يبرر التحفّظ على رفعها إلى مرتبة المجيد والفريد بلا دليل أو برهان، ولا تلوح إمكانية للكف عن دفع الفواتير الباهظة للمراوحة دون إعادة النظر في ذلك الماضي الإمبراطوري بأدوات العلم الحديث، لا بلغة وبلاغة حفلات الزار التراثية والقومية.
ثاني مصادر العلاقة الإشكالية، أن مُخيّلة العرب التاريخية دينية في الجوهر، يبدأ فيها الزمن من لحظة كمال فردوسية أولى ومتعالية، وكلما ابتعد عنها انحدر وتدهور، ولكنها تظل غايته القصوى، فالماضي يسكن المستقبل، والتاريخ إذا أردنا له أن يكون كاملاً ليس أكثر من عود على بدء. أنجبت العلوم الإنسانية، ورصدت، على مدار القرنين الماضيين، ما لا يحصى من تحليلات وتجليات الزمن الدائري. ولا ضرورة للاستطراد، بل مُجرّد القول إن نزع السحر عن العالم، بتعبير ماكس فيبر، يعني أن الأزمنة الحديثة محكومة بمخيّلة زمن السهم لا زمن الدائرة. وعلى خلفية كهذه تتجلى علاقة العرب المؤلمة بالأزمنة الحديثة منذ الفتح النابليوني لمصر، وحتى خلافة الدواعش.
ثالث مصادر العلاقة الإشكالية بالتاريخ أن المجتمع العربي بطريركي (أبوي) بتعبير هشام شرابي. وعلى خلفية كهذه، التاريخ أبٌ، أو جدٌ أكبر، له على الأبناء والأحفاد حق الطاعة والهداية والولاية. ثمة الكثير مما يُقال في هذا الشأن. والمهم أن نُبقي في الذهن حقيقة التداعيات اللانهائية لحق كهذا، وعلاقتها الوثيقة بمعنى ومبنى السلطة في العالم العربي، سواء سلطة النص، أو نص السلطة، فكلاهما أبٌ على طريقته، وكلاهما في نخاع البنية السياسية والثقافية لأنظمة الاستبداد، وكلاهما جوهر الاستيهامات الشعبوية (وهي سلطوية بامتياز) عن “الحاكم” و”الأمة” و”الشعب”.
ولن تتجلى، في الواقع، المعاني المُحتملة، لكل ما تقدّم ما لم نحتفظ في الذهن، أيضاً، بحقيقة أن المصادر الثلاثة تشتغل على طريقة الأواني المُستطرقة، فما ينقص هنا يصب هناك، وهي في كل الأحوال متحالفة، ومتضامنة، فالنيل من الواحد يهدد بتقويض الكل. يعني إذا زعزعت سلطة التاريخ كأب، هددت زمن الدائرة، وإن فعلت رششت ملحاً على الجرح النرجسي. لذا، في بقاء وصلاح وصلاحية المصادر ما يضمن بقاء وصلاح وصلاحية أنظمة الاستبداد، ويُفسّر لماذا تبدو حريّة التعبير والتفكير، إذا طالت واحداً من المصادر الثلاثة، مكروهة ومُخيفة إلى هذا الحد.
وصلنا إلى مسك الختام: في سياق إنشاء جماعاتها المُتخيّلة، أعادت أنظمة التعليم ومنابر الإعلام المركزية، في العالم العربي، على مدار قرن مضى، إنتاج المصادر الثلاثة الموروثة من بنى سياسية واجتماعية سادت ثم بادت. وما لم نخرج منها، وعليها، فلن تكف عن انجاب قرويين غلاظ القلوب كصدّام، الذي أراد في حرب عبثية وخاسرة محاكاة القادسية، ولن تكف عن إنجاب دواعش يُعيدون، بالذبح، الزمن إلى أوّله. وفي الأثناء، لن يتمكن أحد من إقناع زيدان ومعجبيه ومبغضيه، بالفرق بين الشتائم وممارسة القطع والقطيعة التاريخية، ولن يتمكن أحد، على الأرجح، من إقناع صديق بتحري الدقة في تأويل الرماد. فالغالب أن الناس لا يقلون حرصاً على “تاريخهم” من حكّامهم.
نُشرت صباح اليوم في جريدة الأيام الفلسطينية