في الوقت الذي تبدو فيه المرحلة الحالية بما تتضمنه من تخبّط وضياع لمعنى الإنسان وفحوى وجوده، بحاجة ماسة إلى من يبث في داخلها روح المقاومة والاستمرار، ويضمن للإنسان فيها قدرته على اختيار مصيره، ويبيّن له بجدّية أن طرائق الانتحار (مادياً كان أم معنوياً) هي نفيٌ للمشكلة وليست حلاً لها، يرى الداعية الإسلامي «عدنان إبراهيم» من جهته أن منطق سارتر هذا هو “تافه”، متذرّعاً بقدريّة وحتميّة ما يجري؛ وضارباً بدعوة فولتير الشهيرة “لم يسبق أن تعرّض النوع البشري لمثل هذه الإهانة.. اصرخوا، فليصرخ الجميع” عرضَ الحائط.
إن هذا المقال ينطلق في جوهره من قيمتين اثنتين؛ محاولة إثراء العقلية النقدية بالدرجة الأولى حيث الجميع يؤخذ من قوله ويُرد عليه، وتبيان خطورة ما ذهبَ إليه إبراهيم في ردوده العاطفية والماورائية على الوجودية كفلسفة انتشلت الملايين من الضياع في الأداتيّة خلال حقبة مريرة من التاريخ كان الإنسان فيها بأمس الحاجة إلى إنقاذه كما هو على الدوام؛ بينما كانت معظم أشكال الفهم الديني ولا تزال أيضاً -جنباً إلى جنب مع الفلسفات الشمولية- تبرر ذاك الاضمحلال وتكرّسه بالماورائيات تارة، والتعاطي السطحي مع المادية التاريخية تارة أخرى.
دون الدخول في العمق أكثر مما ينبغي، يتمسّك الوجوديون (مؤمنون وغيرهم) كما هو معلوم بأسبقية وجود الإنسان على ماهيته؛ أي أنه (الإنسان) ليس كقلم الرصاص يُصنَع وفق مخطّط يحدد وظيفته وطريقة عمله، وإنما هو يُوجَد أولاً ثم يختار لنفسه مصيره بعد ذلك بحرية ومسؤولية، فيؤمن أو ينكر، يتعلّم أو “يبقى” جاهلاً، يكون أو لا يكون… إلخ؛ يقول سارتر في «الوجود والعدم» (١٩٤٣) إنه “لا معنى للحياة في اللحظة التي تفقد فيها وهم أنها أبدية؛ لا يمكن للإنسان أن يفعل شيئاً إلا إذا كان قد فهم أولاً أنه لا يجب أن يعوّل على أحدٍ إلا على نفسه؛ إنه وحده، مهجور على الأرض في محيطه اللامتناهي بالمسؤوليات، دون مساعدة، بلا هدف غير الذي يضعه لنفسه، وبلا أية مصائر غير تلك التي يزج بها نفسه في هذا العالم”. وبالتالي فالتبريرات من قبيل “حظي مش حلو”، “القدر ما ساعدني”، “الفرصة ما إجتني”، “وُلدت لطبقة فقيرة” هي مرفوضة تماماً.
بالمرور سريعاً على قضية الولادة لطبقة فقيرة، ولربما هي الأكثر تذرّعاً بها (مادياً) لدى الماركسين وغيرهم، كان سارتر قد ردّ على مقتضاها بسؤال ذكي في محاضرة شهيرة له “إنْ كانَ پول ڤاليري هو پول ڤاليري (شاعر وكاتب فرنسي) لأنه ابن عائلة برجوازية، فلماذا لا يكون كل أبناء العائلات البرجوازية پول ڤاليري (شعراء وكتّاب)؟” في إشارة إلى ضرورة تعويل المرء على ذاته قبل كل شيء، وإلى أن الاعتبارات الأخرى ما هي إلا مساحة لعمل أكثر جودة.
في عدة مقاطع فيديو منشورة على يوتيوب تناول الداعية الإسلامي (العقلاني) -كما يصفه أتباعه- الوجودية وسارتر واصفاً الأخير بـ”الملحد العتي” تارةً، و”التافه” تارةً أخرى؛ نسبَ له عبارة قال إنها “قاسية وذكية” تقول: “حتى المعوّق على كرسي مدولب، إن حدثَ وأن شارك في سباق ماراثوني فإنه يتوجب عليه أن يبذل قصارى جهده ويفوز”.
يمكننا أن نحصر ما ذهب إليه إبراهيم في أمرين، حديثه عن عدم امتلاك المرء للشروط البدئية المادية التي تخوّله تحقيق ذاته، وعن القدَر كقضية تشغل علماء الدين ودعاته بشكل عام، ولعل إبراهيم كما هو حال المتدينين ممن يسمون بالعقلانيين قد استخدم الذريعة الأولى للتحسين من صورة التبرير الثاني وتسويغه بـ “عقلانية” يراها وأتباعُه صائبة.
لدى تَقدِمتهِ لإشكالية العلل المادية وعدم امتلاك الإنسان للشروط البدئية، استخدم إبراهيم عبارة المعوق والسباق الماراثوني الواردة أعلاه، والتي لن تجدها في أي مما كتبَ سارتر، ليقول إن المنطق الوجودي في جوهره ناقص، إذ كيف للمعوق أن يفوز بالسباق الماراثوني للأصحّاء؟، ويتابع: “كيف يدّعي سارتر أني من أصنع قدري، وأن الشروط البدئية في يدي؟ ما هي البداية وأنا معوق؟ فلان يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، وفلان فقير؛ هل اختارَ المحاصَرون في سوريا أقدارهم؟ إن سيف سارتر الوجودي موجه على من لا حظ لهم، على رقاب الضعفاء والمساكين.. إلخ”.
حسناً.. دون أن نسأل إبراهيم بما عنده عن الله كيف فرض الصلاة على قعيد الفراش، وساوى في أجرها وأجر المصلي صحيح الجسم، ولم يفرّق بينهما، بل ووعدَهما الفوز بالجنة؛ افترِضْ معي فعلاً أني في سباق ماراثوني بكامل صحتي ولياقتي البدنية، إنّ الهدف الذي يدفعني لخوض السباق هنا هو الفوز بالمرتبة الأولى، وهذا الفوز (بالمرتبة الأولى) هو بمثابة الهدف النهائي والغاية الأسمى بالنسبة لي، وكل الاعتبارات الأخرى هي غير مهمة؛ لكن لو أن هدفي مثلاً هو المشاركة، أو تنمية قدراتي البدنية، أو لأغراض أخرى كإنقاص الوزن مثلاً، فإن تحقيق هذا الهدف أياً كان (المرتبة الأولى أو إنقاص الوزن) هو بالنسبة لي فوز بالسباق، وعليه كيف يمكن فهم هذه الجملة التي أوردها إبراهيم؟ هل من الممكن منطقياً أن يهدف المعوق للفوز بالدرجة الأولى مثلاً ولا يكون بذلك مجنوناً؟
إن الوجودية هي فلسفة الممكن، وليست كما يصوّرها إبراهيم؛ ولـ كامو جملة شهيرة توضح ذلك حين يقول: “يا روحي لا تطمحي إلى المستحيل، بل استنفدي حدود الممكن”، وعليه فالوجودية أيضاً لم تُبنَ على ضرورة اختيارك لملامح وجهك قبل الولادة، وإنما على ما اخترتَ مما تملكه وما لا تملكه من الممكن.
يتابع إبراهيم بجبريّة موغلة: “سأذهب أبعد من ذلك.. يا سيدي لا الأفعال ولا النتائج في أيدينا، ولستُ جبرياً.. أنا أعلم ما أقول.. هل أنت من اختار دينه واختار أبويه؟” وكأن إبراهيم يسأل هنا لماذا العقل إذاً إن كان القدر أو الله قد اختار كل ذلك؟ لماذا الدعوة إلى الإسلام إن كان الله قد اختار الدين؟ ولماذا الهجرة إن كان الله قد اختار الموقع الجغرافي؟، وكأن العدل هو في أن يُخلق الناس على دين معين ويُهدَد الآخرون على الدوام بدخول النار، وليس في أن يخضع الجميع لنفس المقياس بتساوي واجبات البحث والتفكر!.
هكذا يرى إبراهيم أن على هذا العالم أن يظل متماهياً مع ما يجري إلى أبعد حد بوصفهِ مُقدّر مسبقاً، ولا قدرة للبشر على تغيير شيء أو صناعة حتى فنجان القهوة دون مشيئة من الإرادة العليا.
بالدخول أكثر، ما الذي سيتغيّره إيمانك بالقدر إن كنت مطالباً في الوقت ذاته بالكشف عن نفسك بخياراتك؟، كيف لإبراهيم أن يؤمن بأن أشياء كثيرة قُدّرت على الإنسان وانبثقت في وجهه صدفة، في حين يرى أن العالم لم يأتِ بشكل مصادف وأن يد الله هي من صنعته؟، وكيف تدل البعرة على البعير، وتدل الخطى على المسير فيما يخص صناعة الله للعالم، ولا يؤخذ بقدرة الإنسان على حك ظفره إلا أن يشاء الله؟ وكيف لك أن تعلم إن كان حكّ الظفر مقدّراً أم هو غير مقدّر دون أن تهم بذلك أولاً؟ أي رعب هذا؟!
ناهيك عن ذلك كله، يعزو إبراهيم الإلحاد لأسباب ساكولوجية دون أن يتوقع سؤالاً مقابلاً عن إمكانية كون أسباب الإيمان سايكولوجية كذلك! ويؤمن بالقدرة على إشعال المصابيح الكهربائية بـ”بعقلانية” دون الحاجة للطاقة! يؤمن بما هو أبعد من الباراسيكولوجيا نفسها.
في النهاية سعى إبراهيم لإيجاد أي مفارقات في شخصية الفيلسوف الفرنسي، فنسبَ له عبارة أخرى تقول: “يبدو أن في رأس كل منا ثقب لا يملؤه إلا الإيمان بالله”. أراد إبراهيم بهذه العبارة أن يدعّم أقواله في أن الشك والبحث هو أمر مضنٍ، وأن سارتر يعلم أن الإيمان هو راحة واستقرار، ثم أردف بالقول إن سارتر مات معمّداً.
العبارة هذه وردت على لسان باسكال في «الخواطر»، ونسبت لمونتسيكو صاحب «روح القوانين»، ووردت بمعنى مقارب على لسان القديس أوغسطين، إلا أنها ألصقت لدى إبراهيم بسارتر عنوةً، وهو الذي لم يقاربها أصلاً، قال:
«Our existential dilemma would leave humanity conscious of a hole the size of God»
«إن معضلتنا الوجودية ستترك الضمير الإنساني في حفرة بحجم الإله».
إن اجتزاء هذه العبارة ونزعها عن سياق ما جاءت ضمنه هو تشويه بالغ القبح؛ ففي الوقت الذي يشعر فيه معظم البشر -إن لم يكن جميعهم- بالحاجة العميقة لمعنى في حياتهم يقلل حجم الهوّة التي تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم بين الإنسان وعالمه، يبحث آخرون عن الإسفين خارج أنفسهم، في شيء أكبر وأوسع (الأسرة، العائلة الكبرى، العشيرة، المجتمع، الدولة، الكنيسة، الكون) أو أي انتماء آخر؛ وللدقة ربما هو يبحث عن نوع من الوفاء أو الولاء يقدّمه لأحد بأسرع وقت ممكن في رحلة اغترابه التراجيدية.
الأزمة الوجودية في جوهرها أزمة ثقة، إن عدم قدرة الإنسان على الانتماء لنفسه أو للدائرة الأكبر.. ونزعته الدائمة للهروب بعيداً عن الحقائق غير الرحيمة، وتوقهُ المستمر لتخطّي ذاته والانفلات من ضعف حرّيته ومسؤوليته الأصلية، وسوء التفاهم الحاصل بينه وبين العالم، كلها ستترك ضميره في ثقب أسود بحجم الإله «يا إلهي إنها هاوية سحيقة بحجم نصائحك» يقول جان كالفن.
ختاماً، حين كتبت سيمون دي بوفوار «المثقفون»، كانت تتحدث عن روح العصر على أعقاب الحرب العالمية الثانية، عن مرحلة سادَ فيها القلق واليأس، وعن مثقفين شكلوا حياة المجتمع الفرنسي، كان تأثيرهم فيها -سيما لدى الشريحة الشابة- هائلاً، صارَ خلالها سارتر وكامو ودي بوفوار وغيرهم أيقونات رأت فيهم فرنسا ممثلاً لعصر مغاير ومستقبل آخر أوجدَ إجابات عن أسئلة بات يفرزها واقع لم يعد يشبه بأي شكل واقع ما قبل الحرب، كانت تعبّر عن ضمير إنساني يقظ، يحاكِم ويقاوم إلى أبعد حد، لا أن يبحث عن الذرائع والمسوّغات هنا وهناك.