المحاكمة
بحسب باردو ثودول (كتاب الموتى التيبتي)، حين توزَن الأفعال الصالحة والشريرة، يوم القيامة، يوضَع في الميزان حصى أبيض مقابل حصى أسود.
في كتاب الموتى الفرعوني، توضَع ريشةٌ مقابل القلب، “يمثّل القلبُ سلوكَ أو ضمير الراحل، والريشةُ التقوى أو الحقيقة”. هناك وحش ينتظر المذنبين، إنه آكل الموتى. يقسم الميت بأنه لم يتسبب بالجوع ولا الحزن، ولم يقتل أحداً ولا دفع الآخرين ليقتلوا من أجله، ولم يسرق الطعام المتروك للموتى، ولم يطفّف بالمكاييل، ولم يسرق الحليب من فم طفل، ولا طرد المواشي من مراعيها، ولا اصطاد طيور الآلهة. حين يكذب الميت، يسلّمه الآلهة القضاة الاثنان والأربعون (لبعضهم رؤوس قردة) إلى آكل الموتى الذي “له رأس تمساح، وجذع أسد، والأقسام الخلفية لفرس نهر”.
يوم الحساب
(إلى حسين بن حمزة)
إذا حلّتِ العدالة ضيفاً على مستقبلنا، وفُكّت العصابةُ عن عينيها الحسيرتين وأذهلها سطوعُ عذاباتنا، فسيمْثُل سوريون كثيرون بين يديها قبالة سوريين كثيرين على الكفّة الأخرى، أصدقاء سابقين وكتاباً وصحفيين وفنانين يتسقّطون “زلّات” و”جرائم” بعضهم البعض، وتتألف هيئة محلّفين للمحاسبة هنا ومجلسٌ للقضاء هناك، أو غافرٌ يتربّص هنا ومغفورٌ له هناك مطالَبٌ بالاعتذار والتوبة والشكر، وقد يقول متّهَمون راهنون أو مشتَبهون قادمون، أمام الرقباء والأوصياء الجدد، كلاماً لا يُصدّق، ولا يشفي غليل أحد، حول المغفرة التي يقصفها الغرور وتتفتّت كالمنازل وتذروها الثرثرات ويحشو غيابُها النظراتِ والقلوبَ بالقسوات، في حطام هذا الحاضر أو في عراء المستقبل: “سامحوني سيادة القاضي. لطالما توهّمتُ معكم وصول هذه اللحظة المقبلة. الصداقة هي تفسيري الوحيد للنشر في جريدة الأخبار الموصومة لدى جنابكم بجريدة البراميل. وقبل أن ينتهي الضحك وتخمد النقمات وتطول الألسنة شاتمةً لاعنة، في هذا الفضاء الواسع المريض، صِفوا بما تريدون اقتضاب هذا التفسير ذي الكلمة اليتيمة (الصداقة): “سخيف؟ ساقط؟ هارب من المواجهة؟ جبان يهاب الانتقام؟ ضالع في الجرائم؟” إذا استُغرِبت الكلمة اليتيمة، الضائعة التي لا تُغتفر معاصيها، أو استُكثِرت عليّ ووُصفت بالذريعة والحمق والسذاجة واللؤم والضلوع في جرائم حزب الله أو ما لا أدري من التوصيف، وإذا اكترث علَمٌ مثلكم باستجوابِ نكرةٍ مثلي فتفضّلوا بالأسئلة، مرة أخرى سأجيبُ بما يُنْسى ولا يُستَحَبّ: الصداقة”.
المعهد الدولي للغفران
لا أعرف عنه إلا اسمه. تخيلتُ أحد شعاراته: ما وراء جميع الكفّارات، حاجتك إلى الغفران سببها هشاشتك.
تفاسير الناطق باسم المرضوضين
المرضوض يميل إلى تكرار ماضيه، ضحية خرساء تسدّ أذنيها دون قصص ضحايا آخرين من مدنٍ أو بلدانٍ أو قارات أخرى يتبارون معه في رواية الألم. قد يفكّر أحدهم بأن الكراهية الأصلية هي الخطيئة الأصلية، مسترجعاً مقولة “لا تلمس هولوكوستي” لأنه الأعلى في مراتب الآلام، تقمّصُ المسيح الشهيد الأعظم. الشهود الحقيقيون عالمهم الصمت، عاجزون عن الكلام أو لا يتذكّرون ما شهدوه. إنهم غائبون عن أنفسهم، متعايشون مع عدم تأقلمهم. انهارت ثقتهم بأنفسهم وبالعالم، أو سُرقت منهم هذه الثقة، ولكن يتوجّب على المسروقين تسديد الثمن أيضاً. أصغرُ هذه الأثمان هو الغثيان الممزوج بالأسى والحنين أمام شاشات الهواتف والحواسيب التي تنقل إليهم حطاماً من بلادهم البعيدة. صار لفظ الطمأنينة لديهم مرادفاً آخر للحسرة، وتجزّأ وجودهم وتهشّم معناه. أليس هذا التبعثر من صفات المعرفة؟ ربما، ولكن حين فكّر أحدُ الناجين بأن يقصّ ألمه، أجابه الخبيرُ بمقصّات النشر: “لقد تأخرت. لا تزال تراوح في حقول الخير والشرّ، بينما الحقيقة يمزّقها العبث. كلُّ أرض راسخة قد تتزلزل. كتابتك هذه، أيها الشاهد الناجي، مخطّطة بالأبيض والأسود كقميص السجناء أو قميص المجانين أو الممشى المقلّم مثل ظهر حمار وحش بين إشارتين مروريتين؛ لا تنسَ إن بعض المارة قد يفكّرون باحتمال أن يتململ الإسفلت تحت أقدامهم خلال تلك الخطوات القليلة بين رصيفين متقابلين، ليطوّح بهم حمار الوحش في الهواء ويصرعهم، مثلما أيقظتْ نارُ السندباد حوتاً نائماً حسبه البحارة جزيرة فأوشكوا يغرقون جميعاً. هل فهمتني؟ هناك مَن سبقك إلى اليوميات والشهادات؛ مثل هذه الكتب الآن سِلعٌ ملقاة على الطريق، بضاعةٌ منتهية الصلاحية”.
الكفّارة
كان يغنّي: “الماضي مضى”، صار يغنّي “الماضي لا يمضي”. تقاذفته البلدان والثقافات، المطارات ومحطات القطارات وكراجات الباصات والموانئ، اللغات والغرف والمقاهي، قبل وصوله إلى تلك المنصة التي وقف عليها، أمام جمهور من الغرباء، وإذ فتح فمه قليلاً ليقول ما يجول في صمته، متردّداً في هذا التعرّي، ارتفع عن أرضِ الخشبة كغيمةٍ من غبار تعلو منزلاً ينهار، وبدأ هذيانه: “هل أحببتُم سوريا أكثر لأنها انهارتْ وانتهتْ؟ سامحوني إذا غضبتُ على هذه المنصة. أدرك إن غضبي يندلع في المكان الخطأ، موجّهاً ضد أناس ليسوا موجودين بين الحضور، جارحاً آخرين كُرَماء ولُطفاء. في حياةٍ لم تعرفِ السلم يوماً، كلُّ هذه النداءات والاستغاثات باسم الإنسانية، كل هذه التحاليل المعمّقة حول العنف والدين والطغيان، أودتْ بفكرة الانتماء إلى الابتذال، الانتماء إلى أي بلد. حين أسمع كلاماً يستخدم كلمتي الضحية والجلاد، فيقلّب معانيهما ويتفنّن في تفسيرهما، مكرراً مقولةَ بطلان المساواة أو المفاضلة بينهما، لا أستطيع منع نفسي من الإحساس بأن هناك مَن يخدعني. أستصعب الاستماع إلى ما يرويه الضحايا، أنا المحسوب عليهم، وأحياناً لا أفلح في ضبط هذا الصوت الوغد في داخلي، حين لا يصدّق ما يرويه الضعفاء، مستريباً بأنهم يلفّقون القصص ويختلقون الوقائع. أترون إلى أين يقود الجنون؟ يُضاف إلى بؤسنا، عذابُ شرح عذابنا، عذابُ سماعه بأفواهِ الآخرين…”
شذرة لبول تسيلان
“كلُّ حديث عن العدالة سيبقى لغواً، ما لم تتحطّمْ أقوى البوارج على جبهة إنسان غريق”.