في تأمله للمعضلات المُستبطنة في عُمق الحضارة الغربية (وتنطبق على غيرها وربما بشكل أكبر) اعتبر فرويد أن الميل نحو العنف والاعتداء هو أكبر العوائق في وجه تلك الحضارة. يُرجع فرويد هذا الميل إلى تجذر فطري ولاواعي بالرغبة في الموت، وجزء من هذه الرغبة يتم تصديره إلى خارج الذات الفردية، عنفاً ضد أفراد آخرين، أو خارج الذات الجمعية، عنفاً على شكل حروب واعتداءات ضد دول ومجتمعات أخرى. حاولت المجتمعات ونظمها الثقافية والدينية والقانونية إخضاع نزعات عند الأفراد للمراقبة والمحاسبة، لكن ما ظل عصياً على المراقبة والمحاسبة هو فيضان العنف إلى شكل حرب ضد الآخرين يتم فيها توريط المجتمع ككل وليس فقط أفراداً منه. هنا تقع المجتمعات (والتي أصبحت دولاً) في سعار العنف الجماعي الموجه للخارج، ويهدف وإن كان بلا وعي إلى تفريغ العنف المُختزن الداخلي وتصديره لفضاء خارجي، كما يهدف وبوعي هذه المرة إلى تقوية “الوحدة الوطنية” داخلياً بافتعال عدو براني يلتف الجميع حول بعضهم لمواجهته. قبل فرويد كان توماس هوبز فيلسوف السياسة الإنجليزي في القرن السابع عشر وأبو الواقعية السياسية في أقصى (وأقسى) صورها قد رأى وبتشاؤمية مفرطة أن “الحال الطبيبعي” للبشر والمجتمعات والدول هو العيش في “حرب الكل ضد الكل”. فالحرب، من منظور هوبزوي صلد، هي الإطار والسياق الطبيعي لحياة البشر وتواريخهم على هذا الكوكب وهي، والاستعداد الدائم لها ثم خوضها وتحمل نتائجها الكارثية، في أول ونهاية المطاف ما يعمل على تشكيل وعيهم ووجودهم الجمعي والدولتي على وجه التحديد. العنف والحرب هما البداية والنهاية.
وبرغم اكتمال معرفة البشر بذلك وتحوطهم له إلا أنهم لا ينوا يكررونه. وتتفاقم المفارقة إذ يسخرون من هوام الليل وهي تطير مسرعة نحو أي نار تلحظها فلا تجد سوى حتفها، وهم يقومون بذات الفعل مع الحرب. حال البشر المختالين بـ “عقلهم وتعقلهم” مع الحرب والعنف لا يختلف كثيراً عن تلك الهوام التي يسترذلونها. هل تلغز فهم العنف على البشر منذ المقتلة الأولى بين أبناء أبيهم آدم، ثم تطور مع تكاثرهم إلى حرب صارت هي القلم الأعرض لكتابة تاريخهم. لغز الحرب وغموضها الفادح وغرابتها يكمن في الانجذاب المُدمر لها من قبل الساسة والمفتونين بالقوة برغم انفضاح كل أسرارها وجوانبها البشعة والتدميرية. واحد من أهم الأسرار المفضوحة للحرب هو أن الإندراج إليها سهل لكن الخروج منها صعب، ودمارها ينمو ويكبر كوحش خفي يلتف على رقبة الغازي كما على المغزي. يفيض التاريخ بقصص قادة وإمبرطوريات عظمى أرهق عظمتها وحش الحرب الخفي الذي أغواها بالمجد فلم تجد بعد الإنهاك إلا سرابه. تقول نهاية كل قصة إنه “بعد فوات الأوان” اكتشف أولئك القادة أو تلك الإمبرطوريات تفاهة انجذابهم لغرور القوة. لكن، وهنا جانب آخر من نفس السر المفضوح، نكتشف أن “الأوان حان” لقادة آخرين وقوى أخرى كي تكرر نفس القصة المكرورة، يتدافعون إلى حرب هنا وعنف هناك بلا سبب بحثاً عن ذات السراب، ليلاقوا الإنهاك والتفتت المعثور عليه من قبل من سبقهم إلى النار. العنف المُختزن في البشر، أفراداً وجماعات ودول، سر غامض رغم إنكشاف الكثير من جوانبه وآليات إغوائه وإملاءاته ومآلاته، ومع ذلك لا زال يحتل قلب سيرورات البشر، وربما يقودهم في لحظة مستقبلية ما إلى نهايتهم الإنتحارية الجماعية خاصة مع تطور تقنية العنف النووي وألوف قنابله التي قد تقيم قيامة كوكب الأرض في ساعات وتحيله دماراً مطبقاً.
العام الماضي أصدر فيل توراس، باحث وأكاديمي أمريكي، كتاباً مثيراً حاول فيه استكناه الهوس الإنساني في فكرة “نهاية العالم” سواء عند الأديان والمتدينين أو عند غير المتدينين و”العلميين”، وخاصة في مجالات البيوتكنولوجي والروبوتات حيث يتم إعادة تركيب البشر بـ “قطع غيار” آلية ذات ذكاء اصطناعي. عند كلا الجانبين ثمة هوس بفكرة فناء العالم، إما على شكل قيامي مسيحاني مهدوي أو على شكل انفلات السيطرة على العلم وخضوع العالم وبشره لكائنات آلية صنعها البشر أنفسهم. وإلى قائمة المنضوين تحت عنوان فناء العالم بسبب التقدم العلمي والتكنولوجي تنتمي شريحة من المُغالين في توقع هلاك العالم بسبب تغيير المناخ والإنحباس الحراري. والتمثل الأشهر والأوسع نطاقاً لهوس شرائح عديدة وواسعة في فكرة الفناء ونهاية العالم يتجسد في العدد الهائل من أفلام هوليوود التي تصور تلك النهاية في كل كيفية وخيال ممكن. فهي قد صورت دمار العالم عبر الكوارث الطبيعية وفيضانات المحيطات التي أغرقت المدن الكبرى وخنقت كل ناسها، وعبر حروب كونية ونووية أفنت كل من على وجه الأرض، وعبر أوبئة فتاكة انتشرت بسرعة الريح فقضت على البشر، وعبر غزو كائنات فضائية احتلت كوكبنا وقامت بإفناء من عليه، وهكذا دواليك. والشيء المُدهش والذي لاحقته دراسات سيكولوجية لا تُحصى هو غموض عمق التلذذ الداخلي، المخلوط بالخوف نعم لكن المهجوس أصلا بالميل نحو النهاية، الراكن في منطقة اللاوعي عند المشاهدين والجمهور العريض الذي تستهويه هذه الأفلام، وهي دراسات تؤكد الفكرة الفرويدية الأولى التي تتلذذ بمشاهد الفناء الكبرى. وهنا تحظى مشاهد إنهيار الأبراج العالية ودمار الجسور ولنهدام المدن الكبرى وغرقها في المياه بمتابعة لصيقة وشغوفة تعكس ذلك التلذذ الداخلي. لنتخيل مثلاً أن فيضانات وزلازل تضرب مدينة كبرى ومتقدمة وهدمت كل بناياتها وناطحات سحابها وأغرقتها ثم بقي برج واحد يتأرجح وتضربه المياه من كل جانب وتميد الارض تحته، عندها تجد ثمة ترقب وتشوق للحظة نهاية وانهيار هذا البرج لأن سقوطه يكمل مشهد الفناء والدمار الكلي.
في أحد فصول كتاب حديث صدر من أسبوعين بعنوان “الخوف والحرية: كيف غيرتنا الحرب العالمية الثانية” ( The Fear and Freadom: How the Second World War changed us ) يفكك المؤرخ البريطاني كيث “لاو” الكثير من التصورات والإرث والأساطير والقناعات شبه الدينية التي ورثتها المجتمعات الغربية عن الحرب العالمية الثانية، التي كانت أبشع حروب البشرية وأكثرها دموية وضحايا. وفكرة “نهاية العالم” كانت واحدة من تلك التصورات التي سيطرت على كثيرين واستهوتهم أيضاً وهم في قلب المعاناة من تلك الحرب. ينقل لنا “لاو” ردود الفعل المؤرخة والمكتوبة التي كانت تصف مشاهد الدمار الكلاني الذي شمل مئات المدن وأتى عليها كلياً، وبين سطور تلك الردود والأوصاف كان ثمة إعجاب خفي ورغبة مُستبطنة بالتسريع في نهاية وإنهاء العالم. هناك أوصاف مُرعبة عن “جماليات الدمار” الذي حل بهيروشيما وناغازاكي بعد ضربهما بالقنابل الذرية، وأوصاف لا تقل عنها رعباً حول محارق اللهب التي أنتجها القصف البريطاني لمدن درسدن وهامبورغ ودوسلدورف، فضلاً عن التوصيف الدقيق لجرائم النازية ومحارقها ضد اليهود وكيف اتسمت “صناعة الموت” بهندسة وتقنيات بالغة الدقة. ينقل “لاو” مقتبسات مطولة عن الصحافة الأمريكية ومبالغاتها في وصف الدمار والتدمير، وهي المبالغات التي كادت تصل إلى حد التعبير عن الإعجاب. بل إن بعض “الغيرة” كان قد حل ببعض مخططي المدن الأمريكية، كما يشرح “لاو” في فصل مختلف، جراء “فرصة الدمار” التي أتيحت لكثير من المدن الأوروبية ووفرت لها فرصة “النهاية من أجل بداية جديدة”. كما الأمر في الحرب العالمية الثانية تقف وراء نزعات الحروب والعنف رغبات فرويدية دفينة في التلذذ بتدمير ما هو قائم ورؤية نهاية سريعة له في تجسيد غريب وغامض ومخيف لمكنونات البشر التي ما زال الكثير منها قيد الاكتشاف.