مكان غريب بدون مؤشر ولا تأريخ، لا زمان ولا مكان، ومهمة شبه مستحيلة لفنان لا يعرف المستحيل، “مهمة عسيرة تتجاوز كل شفرات الماضي والحاضر والمستقبل لكي يبث شيئاً لا ولن يتاح لأحد أن يشفره، يبثّه في جسد جديد يمكنه أن يتلقاه ويستخلصه، في جسد يخصنا ويخص أرضنا”. وفننا وهويتنا العربية.
أتستطيع لوحة بمثل هذا الحجم أن تخترق زمنها الحقيقي؟ وأن تختزل كل الأمكنة في رحلة الإنسان الأبدية بوجعه وحلمه وشغفه في مكان قد انصاع وضاع في متاهة الوجود البشري؟ وقد مضى بعيداً على إيقاع خطى أقدامهم الحافية والمنسية التي يحاول أن يقتفي آثارها الفنان الفلسطيني المعاصر، بشار الحروب، بروح المغامر التشكيلي والباحث عن أسرار الكون الآسر بألغازه المثيرة ومكنوناته المتصارعة ظاهرها مع باطنها.
يتتبعها الفنان البصري بخطى ثابتة خطى الحقيقة الزائفة، خطى الوهم وغياهب الفكر العقيم الإيديولوجي الذي ولجت صورته دروب حياتنا الكثيرة، حتى تخبطت فيه أفكارنا وعجزت عن التمييز بين الخيط المضيء المشع والآخر المعتم، من أجل تقديم صورة جديدة عن الذات والعالم كبنية تصورية جديدة للأنا الحاضرة في الزمان والمكان لا تنفي ما سبق، لكنها تعلوه في اتصال وانفصال… انفصال لا يعني بالضرورة القطيعة بقدر ما يسعى إلى تطوير المعرفة الفنية عبر تتبع أثرها بصرياً وتشكيلياً… وإدراك علاقتها الميكانيكية بالإيقاع كمفهوم حركي وزمني في اللوحة المعاصرة، وإدراج اللون الرمادي كمعادل بصري لهذا الإيقاع، لا من أجل تركيز الرؤية وتثبيتها بصرياً، وإنما من أجل توسيع حجم إدراكنا للرؤية أكثر ومحاولة إثرائها حسياً ودرامياً من خلال محاورة الشكل للخلفية وما ينتجه من علاقات تشابه وتقارب واتجاه وامتداد يصل مداه إلى حدود الفكر والمادة، الذاكرة والأثر.
هذا الأثر الذي يتغير كلما مضى الفنان أكثر بخطاه المتثاقلة والمترنحة يلاحقهم بين أمسهم المنسي ويومهم المنصرم، بين أمل يحياه بيأس ويأس يحاول أن يبث فيه الأمل في نفوس شعبه المقاوم بفكره وساعده رغم التيه بين تحديد المصير واختيار سبل النجاة وتحقيق الذات التي مازالت تتحسس وجودها بين الصورة التي يرسمها بحس، وحس الواقع الذي ينبض في أعماقه بلهفة العاشق للفعل والممارسة والبحث الشغوف في جماليات المكان وفلسفته المجردة، ومحاولة تخليد تلك البصمة الإنسانية من خلال اقتفاء أثرها المتجسد صورياً على أرض الواقع بنمطه البدئي الكامن في أعماق اللاوعي الجمعي الذي لا يخضع للانفعال أو الاندفاع الداخلي، بقدر ما هو انصات لصوت دفين، لصدى الماضي الذي يتردد كل لحظة على مسامعنا وأمام أبصارنا ، فتتدافع خلفه الصور وتتوهّج فيه المعاني وتمضي مسرعة في طريقها إلى النسيان والتلاشي شأنها شأن آثارهم وآثارنا بعد نيف من الزمن.
بالأبيض والأسود يحاول الفنان البصري المعاصر بشار الحروب كسر حدود الفوتوغرافيا الصامتة محاولاً رسم خيالاته المألوفة/الغريبة، حائرة وتائهة، قريبة وبعيدة، تتسلل ببطء عبر مسارات الأضواء والظلال المتشابكة واللامتناهية لتعبّر عن أنطولوجيا مباشرة، ولتجسد المعنى العميق للحركة في علاقتها بالمادة والمكان والزمن الأثيري المطلق والزمن الذاتي الخاص، زمن الفنان الحي الذي يستغرق فيه معظم وقته في إنشاء تفاعلاته الكيميائية التي تنتج عنها مظاهر التغير والتحول في الزمان والمكان وفي شكل الفوتوغرافيا المعاصرة وفلسفتها الفنية المنفتحة على ما هو حسي وجمالي وسيكولوجي وأيضاً على ما هو سوسيولوجي وأنثروبولوجي من خلال التطرق لمظاهر الحضارة والعقيدة وأثر الإنسان وبصمته الماضية/الحاضرة في المكان، وهو ما كان له الأثر المباشر على رؤية الفنان البصري ومعالجته التقنية والأسلوبية للعمل المفاهيمي المعاصر. الذي يقوم في أساسه على إعادة هيكلة وتنظيم حركة الأثر الفوضوية بمفهومها التتابعي والمسترسل والمتنامي فنياً وحسياً وجمالياً في كل مرحلة من مراحل العمل المفهومي “عودة الشامان” ، ليحيلنا على عمليات استشعار حسي وفكري وتذكر استرجاعي يعمل على تسجيل مظاهر لحظية الزمن الحاضر وامتداداته المطلقة في المكان بكل ما تحمله الذاكرة البصرية من ترسبات التجربة الإنسانية وما تحيلنا عليه من مدلولات معرفية وفكرية وثقافية محددة.
ففي بحثه عن الأثر يتقمص بشار الحروب دور الشامان ويتقصى إيقاع الزمن والحركة المختزلة في أثر مادي وآخر غير مرئي، يلفيه الصمت بضجيجه المزعج لمتساكني مقبرة الحياة التي يحاول بعبث بث الحياة فيها ولا يستطيع. لكنه يستطيع أن يزعزع ثوابتها بمساءلته التشكيلية والجمالية الملحة عن علاقة الإنسان المعاصر بذاته والعالم، بماضيه وحاضره ومستقبله. بأن التاريخ يعيد نفسه في كل الأحوال وأن الأحداث تتعاود بشكل ارتجالي رتيب خاضع لمفهوم حتمي لا غير.
تحملنا تصورات الفنان بشار الحروب وأفكاره الشاردة الحالمة إلى الضفة الأخرى من العالم لتروي حكايات الشامان وتعلق أحلامه التي لم تتحقق بعد، فيتواصل صداها إلى مدى فلسفته البعيدة حتى وطن الحلم، حد حصيلة التجربة الإنسانية المتفاعلة دوماً مع إيقاع التاريخ، ونسق التقدم والتطور باعتباره “التجلي الأوسع المتجاوز، الذي يلاصق ”آنات“ الزمن المتحركة، لا الثبات الذي التبس بمفهوم المعاصرة حول الآن والعصر”، والذي تجسده خطوات الفنان المعاصر وحركاته المترصدة والباحثة عن النسب الذي يظنه البعض خرافة والهوية التي يهاب معظمهم مجرد التفكير فيها أو التوغل في أقاصيها، “إنها كينونة متجانسة كاملة وناجزة في زمان ومكان ما، سكونية غير متفاعلة ولا متطورة، إنها ليست نسيج الواقع الحياتي“، وإنما جوهره الحقيقي الذي يصل الإنسان العربي المعاصر بكل شيء ويفصله عن كل شيء.
بشار الحروب: الشامان المنتظر
ومن بين حطام الأطلال المتساقطة، يتتبع الشامان بناظريه الثاقبتين تحوّل الزمن وإيقاعه البطيء في المكان الذي يلفيه الفراغ من كل جانب، خلاء ، قفار وألم يصيب جسمه النحيل بالقشعريرة ويشعره بالخوف والفزع والعراء الجسدي والروحي فيتلمس ثيابه مرة ومرات أخرى، ويشعر بالذنب عن غيابه الذي طال عن هذه الأرض، فطالها البؤس والعذاب الأليم. فتلفيه مئات الأسئلة الغريبة والمحيرة:
أين هم؟ أين ذهبت بهم الأقدار وأين استقروا؟
أتراهم فوق تلال تلك الجبال العالية أم تحت حفر التراب العاتية؟ أم فوق هذه الأرض القاسية الغريبة مثل أحجارها وحصاها الذي يذري العيون ويعمي الأبصار ويدمي الأفئدة والقلوب المتقطعة والموصولة بجرح غائر يزداد اتساعه يوماً بعد يوم، تعمقه بالأسى روائح الموت المنبعثة من كل مكان؟
يمضي ويبحث ويلاحق آثارهم فلا يجد سوى بقايا وعظام ورفات حيوانات أم قديسين. لا يهم ذلك، فكل ما تبقي من شبه حياة وحضارة وأمة شهدت على جبروتها وازدهارها أقوى الأمم، لكنها اليوم قد اندثرت وتشتتت واستحالت جماعات وقبائل متفرقة بعد أن كانت كل قوتها في لحمتها.
اليوم قد تفرقت وضعفت واندثرت ولم يبق منها سوى ذكرى الحطام، حتى الحي منه أضحى حطام جثث هامدة تتصارع فيما بينها، يلهيها الصراع والجشع والتعصب بدل البناء والتقدم، والبكاء على الأطلال بدل ترميمه، والإطناب في النعاس الطويل بدل الاستفاقة والاستماتة في المقاومة ولم الشمل… لكن للأسف وإنما هكذا الأمم، دول نتداولها عبر الأيام وكما قيل “من سره زمن ساءته أزمان”!
لم ييأس الشامان وواصل مسيره إلى الأمام في صحاري قاحلة بعيدة، يبحث فيها عن قطرة ماء تروي ظمأه للحقيقة أو عن عشبة خضراء تزين تلك المساحات الصفراء الممتدة وتعيد إلى محياه الأمل من أجل إيجاد رابط حقيقي يفصل الحقيقة عن الواقع والواقع عن المكان والمكان عن الزمان. لكن هيهات من يقدر على جمع كل تلك المتناقضات أو إيقاف عقارب الزمن والرجوع به إلى الوراء… فاضرب بعصاك يا راهب لعلك تستطيع أن تتصدى لهذا الصمت الذي ما فتئ يصيبني بالصداع.
وفجأة يتحول الصمت إلى ضوضاء والقفار إلى حياة والخلاء إلى حضارة تشرق وتزهر وتزدهر من جديد ويستحيل ذلك الجماد المميت إلى حركة صبية يلعبون ونساء يرقصون ويغنون أهازيج الجبال المرتفعة مثل ضحكاتهن التي تملأ المكان البسيط، ورجال يتبارزون بالسيف، وآخرون يتسابقون على الخيل وهو بينهم غريب يتصفح أحد أطوار حياة البداوة والترحال، وفي صفحة ما يتوقف به الزمن ويسرح به الخيال بعيداً إلى حياتهم البربرية، فينزع قبعته ذات الطراز الأوروبي ويتلحف بعمامتهم البيضاء ويلبس لباسهم البدوي الأصيل ويأكل بنهم من زادهم، زاد الكرم والجود والنخوة والاعتزاز بماضي الأجداد وحضارتهم التي نفتخر بها شئنا أم أبينا… وهكذا يواصل الفنان بشار الحروب. عذراً، الشامان حلمه تحت تلك الأطلال المنكسرة كما ماضيهم الحزين، كما أحلامهم الضائعة في أن يكونوا أسياد الكون.
وسرعان ما يفتح عينيه التي أعياها التعب فيرفع حاجبيه ليتطلع بشوق الذكرى إلى حلمه الأخضر المزهر الذي سرعان ما يتحول إلى خريف تتساقط منه أوراق العمر والحياة، فتذروها رياح الصحاري إلى بعيد كما تذري الأيام والأحلام رفات جثثهم وعظامهم المتناثرة هنا وهناك، يمضي وفي داخله شعور غريب بالأسى وبدون طول تفكير، وبحسّ الفنان وشغف المغامر يمسك الفنان الفلسطيني المعاصر بشار الحروب آلة التصوير ويصوب بعدسته عله يقتفي أثراً ما، أثراً لم تنتبه إليه ماكينة الزمن وانفلت من سلطته وغطرسته وجبروته الذي يجعل كل شيء خاضعاً له متوسلاً لإرادته ما عدا إرادة الفنان وإرادة آلته الفوتوغرافية التي تجمّد الزمن وتثبت لحظاته فيقف أمامها الزمن صاغراً حائراً بعد أن سقط منه تاج ملكوته واندثر مثلما اندثرت شعوب هذه الأرض ومضت بعيداً في طيات النسيان.
فبربك يا شامان على أي أمل تبحث؟ اغلق دفترك وامض وارحل مثلهم فلم يعد لذكراك أو ذكراهم غير الأثر.
يجيب الشامان متحدياً رافعاً عينيه إلى السماء مشيراً بإصبعه إلى أسفل:
ليتشتتوا ليندثروا ويرحلوا بعيداً فلا يزال الأمل قائماً مادام هذا الأثر قائماً.
وليبقوا بذلك جاثمين يوماً ما وجثامين كل يوم على هذه الأرض. التي ستزهر يوماً ما وستكسوها العظام من جديد. النور، كما الظلام ظاهر للعيان، والزيف كما الحقيقة ينير الأبصار وبين الأمل واليأس مسافات، والكل يميز بين هذا وذاك ويختار، أيكمل مساره بحق وشرف أم يبحث عن أقصر السبل ويمضي مطأطئاً الرأس تدنوه الخطايا والذنوب؟ ومن منا ليس له ذنوب؟ كلنا عابر سبيل يمر على هذه الأرض ويمضي في صمت ويبقى الأثر شاهداً على التعمير والتشييد والحضارة، وحافزاً على الإبداع والمضي في الحياة رغم كل الانتكاسات ومحاولات الآخر في محاربة لحمتها واغتصاب أرضنا ولغتنا وتاريخنا وتشويه عقيدتنا، نسبنا وعرضنا… حتى صرنا نعتقد بأن النسب والدين كما التاريخ كما الأسطورة استحالة وأنهما خرافة، حينما نعمق النظر في تاريخنا وحاضرنا أو حينما نحاول أن نستشرف مستقبلنا بنظرة أمل يائسة… أو حينما نسرح بفكرنا في أقاصي هذه الأرض الموحشة الممتدة بخلائها فلا نرى غير شبح الفراغ المفزع الذي ما فتئ يهدد وجودنا العربي اليوم ويخترق ذواتنا شيئاً فشيئاً ويرحل بنا إلى دائرة المجهول.