حال وصولي إلى دمشق، حرصت على أن آخذ جولة في الشوارع، سيرًا على الأقدام، مع الحذر الشديد، أثناء مروري بأحد الحواجز الأمنية، بأن أتعرض للاستجواب، أو للاعتقال، ويُحقق معي من قبل جهاز أمني، وأقضي بقية حياتي في السجن. هواجسي كانت بمحلها، فما إن أدرت رأسي إلى الوراء وأنا أمشي في أحد شوارع منطقة المهاجرين في دمشق حتى وجدت مجموعة من عناصر الأمن تقول لي: ”توقف عندك، وتفضل معنا“ كان مكان التحقيق الذي يريدون أخذي إليه قريبًا، وهو عبارة عن مبنى ضخم، جدرانه صنعت من معدن الفولاذ.
فتحت بوابة المبنى بشكلٍ آلي. في الممر داخل المبنى، مشينا مسافة قصيرة، حتى توقفنا أمام باب على الجانب الأيسر من الممر، فتح أحدهم الباب وقال لي أدخل، فدخلت لأجد رجلًا تخطى الثمانين من عمره، يلبس بذلة سوداء، ويملك جبينًا عريضًا، ويجلس خلف مكتبه. ملامح وجهه مهما تبدلت تعبيراته، تبقى متخشبة، إنه الرئيس “الراحل” حافظ الأسد. أشار بيده للرجل الذي أدخلني، ففتح الباب مرة أخرى، ليدخل منه شقيق الرئيس رفعت الأسد. قال لي: ستعمل معنا بالسرّ. وأخرج رزمة ضخمة من الأوراق النقدية من صنف الألف ليرة سورية، ووضعها بين يدي. أما حافظ الأسد فبقي محافظًا على صمته وهو يصوّبُ إليّ نظرات تهديد في حال حاولت أن أهرب أو أتملص من المهمة التي سأكلف بها. صحوت من النوم مذعورًا، وأعرق عرقًا باردًا!
يُعتبر هذا الكابوس، من أكثر الكوابيس رعبًا، من بين كل الكوابيس التي حلمت بها، في السنوات الخمس التي قضيتها خارج سورية.
أي “مواطن” سوري اليوم، خرج من سورية هربًا وخوفًا من الاعتقال والموت على يد النظام السوري، قد لا يحتاج لجهد كبير للوصول إلى فهم بسيط لتحديد مشاعر الانتماء، وعدمها، للوطن. ومجرد سرد المنامات/ الكوابيس في الليل، وأحلام اليقظة التي يرسمها الخيال في النهار، كافية لرسم شكل “العودة” إلى “حضن الوطن”. ما إن تغفو عيناك في الليل حتى تتحرر مخاوفك وهواجسك من سيطرتك. الأحلام/الكوابيس، ليست سوى ترجمة لكل ما يشغلك وتحاول الهروب منه، أو نسيانه في النهار.
كانت مصادفة مفيدة أن أقرأ رواية «الجهل» للكاتب التشيكي ميلان كونديرا، بعد خروجي من سورية بفترة قصيرة، فقد أنقذتني هذه الرواية، من فكرة أن أعتقد أني أنا الوحيد من تأتيه كوابيس” العودة للوطن” بهذا الشكل المفزع.
فبطلة الرواية (إيرينا) التي هاجرت إلى فرنسا كانت تأتيها أحلام غريبة هي وزوجها مارتن، شبيهة بأحلام السوريين والمهاجرين والمهجرين اليوم.
في هذا المقطع يقول الراوي: “منذ الأسابيع الأولى للهجرة؛ رأت إيرينا أحلامًا غريبة: إنها في طائرة تغير وجهتها وتهبط في مطار مجهول؛ رجال مسلحون يرتدون زيًا موحدًا ينتظرونها عند أسفل سلم الطائرة؛ تعرّفت، وجبينها يتفصد عرقًا باردًا، على الشرطة التشيكية. ومرة أخرى، وهي تتنزه في مدينة فرنسية صغيرة تشاهد مجموعة من النسوة اللاتي يجرين نحوها، كل واحدة منهن تحمل في يدها كوب بيرة، يوبخنها بالتشيكية، ويضحكن بمودة مرائية، لكن إيرينا ينتابها الذعر، وتدرك أنهن من قسم الشرطة السرية، وأنها في براغ، فتصرخ وتستيقظ”. كما أن زوجها مارتن كانت تراوده نفس الأحلام “عند صباح، كان كل واحد منهما يحكي للآخر عن رعب العودة إلى البلد الأم”. وخلال حديثها مع صديقة بولونية مهاجرة أيضًا، ستدرك إيرينا أنه هذا الأحلام تراود جميع المهاجرين بلا استثناء.
تقطع هذه الأحلام/الكوابيس، شريط الحنين الذي يرافق المهاجرين واللاجئين خارج بلدهم الأم أثناء أحلام اليقظة في النهار. مراقبة ما يجري من دمار وقتل وإبادة وتغيير ديموغرافي في البلد، تتقاطع مع الأمل أن تنتهي الحرب وتتحقق العدالة، وأن يحاكم نظام الأسد، وكل من شارك في التدمير والقتل من مجموعات متطرفة مثل “داعش” وأشباهها. لكن كل أحلام اليقظة التي ترسم مدينة فاضلة في الخيال، تجمع بين ما كان جميلاً في الماضي، وما يجب أن يكون عليه المستقبل، واقتطاع الجزء الذي يخص الحاضر بصورته القاتمة.
في أحدى أحلام العودة “الوردي” وجدت نفسي أني عدت إلى البلد بالفعل بعد سقوط النظام، وحين وصولي إلى الحي الذي أعيش فيه، كان الأهالي مشغولين بترميم وإصلاح بيوتهم المهدمة، فمنهم من يكنس غرف البيت من الغبار، ومنهم من كان يصلح الأبواب الخارجية والنوافذ، وآخرون بدؤوا بطلاء الجدران بألوان مبهجة، كاللون الوردي والأزرق الفاتح.
لكن مع اشتداد اللون الأسود في الواقع، تكاثرت الكوابيس، كأن يأتيني أبي وأمي في الحلم، وجوههم حزينة وغاضبة، وينظرون إلي نظرة ملامة، وأنا أتأمل وجوههم، وأحاول التفسير داخل الحلم، هل هذا بسبب انشغالي أحيانًا، وتقصيري بالاتصال بهم والاطمئنان عليهم؟ أم أن السبب خروجي من البلد؟
أما الحلم الأخير، كنت في زيارة إلى مدينة بيروت. أثناء تسكعي مع بعض الأصدقاء في شوارع المدينة سألتهم: هل أستطيع الدخول إلى دمشق بطريقةٍ سرية؟ فأجابني أحد الأصدقاء ساخرًا: لماذا تريد الدخول بالسر، ونظام الأسد قد فتح الباب لكل من يريد العودة إلى «حضن الوطن»؟!