على المرء توخي الحذر عندما يُجري في ذهنه عملية مقارنة ما بين معاناة ومعاناة أخرى أشد ألمًا وقسوةً. إذ هناك أشياء خارجة عن إرادتنا وخياراتنا، ومكان وظروف وطبيعة نشأتنا وانتماءاتنا وتحديد هوية أو هويات من خلالها نُعرّف بها عن أنفسنا.
لكن في عالمنا العربي لا يمكننا أن نمنع أنفسنا من إجراء بعض المقارنات، مثل أن نقارن ما بين المرأة والرجل، من ناحية الاضطهاد والتواطؤ الاجتماعيين؟ فالمجتمع يضهد المرأة ويتواطأ مع الرجل. يسامح المجتمعُ الرجل على أخطائه وغفواته، فو حرّ بممارسة الجنس قبل الزواج، ومسموح له بتعدد الزوجات. أما المرأة فتكاد تكون أسيرة أنماط وأشكال فرضتها قوانين المجتمع الذكوري، والنصوص المقدسة.
مع هذه المقارنات، تحضر قضية “مجتمع الميم” في العالم العربي، إذ قد يستطيع أي شخص غيريّ جنسياً تحديد هوياته المتعددة والإجهار بها في العلن بشكل واضح، والعيش بشكل “طبيعي” نوعاً ما. أما المثليين والمثليات والمتحولين جنسياً، فتكاد تكون مهمة الإجهار بهويتهم الجنسية أمام المجتمع بمثابة تعريض حياتهم للخطر، والاضطهاد المستمر، والشعور الدائم بأنهم منفيين داخل الأوطان التي ولدوا وعاشوا فيها، الأوطان التي شكّلت بالمقابل انتماءهم الايديولوجي، وانتماءهم وعلاقتهم مع المكان، المكان بوصف هوية أيضاً.
في الدورة الرابعة من “كوز – مهرجان أصوات للأفلام الكويرية” التي انطلقت أمس الخميس في “مسرح خشبة” بمدينة حيفا الفلسطينية، نحن أمام تجارب سينمائية عربية جريئة على مستوى الطرح فيما يخص معاناة “مجتمع الميم” في العالم العربي، سواءً ممن ما زالوا يعيشون دخله، أو ممن هاجروا أو هجّروا منه.
من الأفلام المشاركة في هذه الدورة والتي سنتحدث عنها هنا، فيلم «Mr. Gay Syria» من للمخرجة عايشة توبراك (تركيا، 2010، 127 د)، وفيلم «ذاكرة جسد» للمخرجة ملك مروة (لبنان، 2018، 19 د)، وفيلم «ماركو» للمخرج سليم حدّاد (لبنان، 2019، 22 د)، و«سينما فؤاد» للمخرج محمد سويد (لبنان، 1993، 41 د).
«Mr. Gay Syria»
يحكي الفيلم عن حياة اللاجئين السوريين من “مجتمع الميم” في تركيا، فمحمود لاجئ سوري مثليّ في ألمانيا، لكنه اختار أن يعيش في تركيا، وينظم مسابقة ” أداء” للمثليين السوريين تحت عنوان Mr. Gay Syria ومن يفوز في هذا اللقب سيحظى بفرصة الحصول على فيزا إلى مالطا، للمشاركة في فعالية للمثليين من كافة أنحاء العالم.
يفوز في المسابقة اللاجئ السوري حسين، القادم من مدينة عفرين، ويعمل في محل حلاقة في تركيا، لكن رغم خروجه من سوريا، لم يستطع أن يعبّر عن مثليّته بشكل كلّي، فانتمائه لعائلة محافظة، والتي تجبره على أن يتزوج زواجاً تقليدياً من فتاة لا يشعر اتجاهها بأية مشاعر، ومن ثم إنجابه منها طفلة، يضعه داخل صراع نفسي، يشطر حياته إلى حياتين؛ حياته السرية داخل مجتمع الميم السوري في تركيا، وحياته مع عائلته التي تقيم معه في تركيا، وتهديدات والده بقتله في حال لم “يتغيّر”.
رغم أن الفيلم يتطرق إلى حياة شباب سوريين غير حسين، إلا أن شخصية حسين وصراعاته الشخصية تستحوذ على تفاصيل الفيلم، فحياته اليومية يسيطر عليها القلق والخوف الدائمين، شعوره بالذنب تجاه زوجته التي يراها ضحية المجتمع مثله، انتظار الموافقة على الفيزا، ليستطيع السفر إلى أوروبا، ليعيش حياة طبيعية وآمنة، إلى جانب تفكيره الدائم بمصير طفلته التي لا يريد لها أن تكبر وتعيش في مجتمع لا يتقبل المختلف عنه. كما يسيطر عليه هاجس الاعتراف لابنته بأن مثلي جنسياً عندما تكبر، وعدم رغبته في التخلي عنها.
«ذاكرة جسد»
أما الفيلم اللبناني «ذاكرة جسد» للمخرجة اللبنانية ملك مروة، فيسلط الضوء على مسألة “علاج إعادة التوجيه الجنسي” الذي يجري فرضه في لبنان من قبل عائلات والأهالي، على أبناءهم وبناتهنّ ممن اكتشفوا أنهم مثليين جنسياً، بغرض “تصحيح” ميولهم الجنسية. إذ بعد ان تكتشف والدة الفتاة مايا علاقتها العاطفية بصديقتها دانا، تجبرها على الخضوع لعلاج بالصدمات الكهربائية العنيفة، هذا عدا إجبارها في المستشفى على تحسس جسد رجل، ومشاهدته وهو يمارس العادة السرية أمامها.
تصوّر المخرجة العلاقة العاطفية التي تربط مايا بدانا، من خلال الحالة التي تدخل فيها مايا أثناء جلسات الصدمات الكهربائية التي تُجرى على دماغها، ما إن تغمض مايا عينيها، حتى تنتقل الكاميرا من مشهد العلاج، إلى مشهد مايا ودانا أثناء ممارستهما العلاقة الحميمة. لتتداخل مشاهد النشوة مع مشاهد التعذيب على ذات الجسد الذي يقاوم الاستسلام لعملية “التحول”.
تعمل مخرجة على إحداث تناص بين حكاية الفيلم الواقعية، ومحاكاتها بالفن، كأن نجد صورة كبيرة تملأ الجدار الذي يقع خلف السرير في غرفة نوم دانا، للوحة The Oreads للفنان الفرنسي ويليام بوغيرو، والتي تصوّر عدداً من الحوريات معلقين ما بين الأرض والسماء أو متجهين نحو السماء ربما، وثلاثة رجال يحاولون الإمساك بهنّ. وتجري محاكاة حيّة للوحة بوغيرو في مشهد لفتيات عاريات مستلقيات في وضعية مشابهة لحوريات بوغيرو. وتعد لوحة بوغيرو وعملية تجسيدها ممسرحة، أشبه بحالة تمرّد، تمرد الجسد الذي لا يمكن مسح ذاكرته.
كما تظهر في لقطة أخرى صورة لتمثال «نشوة القديسة تريزا»، للنحات الإيطالي جان لورينزو برنيني، وهي قصة عشق صوفية روتها الراهبة الإسبانية القديسة تيريزا في كتاب سيرتها الذاتية.
تتقاطع ملامح النشوة في وجه المنحوتة – القديسة تيريزا مع ملامح النشوة التي نراها على وجه مايا. وبينما يقاوم جسد مايا ذاكرة لذته ونشوته بين أحضان صديقتها دانا، تصدح في خلفية المشاهد المتداخلة بين العذاب والنشوة، مقطوعة من سيمفونية “قداس الموت” (requiem) للمؤلف الموسيقي النمساوي فولفغانغ أماديوس موزارت.
فيلم «ماركو»
تطرح قصة فيلم «ماركو» قصة مشابهة لقصة الفيلم الوثائقي «مستر جاي سيريا» وهي علاقة المثليين مع عائلاتهم، لكن من زاوية مختلفة بعض الشيء، إذ إن «ماركو» يصور هذه العلاقة في مرحلتها النهائية؛ أي بعد تحقيق الوصول لبلد المهجر، وانقطاع بعض الخيوط التي تربط بين الأبناء المثليين مع أهاليهم. عمر الذي يعيش لندن، يحاول التهرب من التواصل مع والده الذي دخل إلى المستشفى لإجراء عملية خطيرة، بعد أن تتصل والدته وتطلب منه أن يتحدث لوالده بعد نجاح العملية التي أجراها، بالمقابل يحضر إلى بيته في لندن شاب يدعى ماركو، يدّعي أنه إسبانيّ، مختص بجلسات المساج، لكن بعد أن يتحدثا، يكتشف عمر أن ماركو، لاجئ سوري مثليّ، قدم مؤخراً إلى لندن، واسمه الحقيقي أحمد.
بينما يحاول عمر الابتعاد عن ماضي العائلة، يسهب أحمد في الحديث عن علاقته بأهله، وحنينه إلى بلده، فهو لا يريد، ولا يستطيع قطع علاقته بعائلته، إذ أنه ابنهم الوحيد، ويخاف أن يمرض أبوه أو أمه وهو بعيد عنهما، كما أنه يحلم بأن يحصل على إقامة، أو لجوء بشكل رسمي في المملكة المتحدة، حتى يستطيع إحضار عائلته.
الشعور بالاغتراب هنا مضاعف، فالاغتراب مع استمرار صلة التواصل مع الأهل قد يكون أهون من الاغتراب الذي يترافق مع فِعل القطيعة، والتي بدورها تفاقم الشعور بالعزلة عند اللاجئين.
«سينما فؤاد»
مع «سينما فؤاد» نعود بالزمن لفترة التسعينات في لبنان، إذ أن الفيلم من إنتاج 1993، أي بعد ثلاثة سنوات من انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990). يتناول الفيلم قصة السوري من مدينة حلب خالد الكردي. يحكي خالد قصة العنف الذي تعرض من قبل أخيه الأكبر، عندما كان يعيش مع عائلته في حلب، ويرتدي ملابس أخته، ويتشبه بالنساء.
حلم خالد بأن يصبح راقصة، كما حلم أن يجري عملية تحول جنسي، لكي تتضح ملامحه كأنثى، وتنتهي معاناة عيشه داخل جسد نصفه أنثى ونصفه الآخر ذكر.
لكن المخرج اللبناني محمد سويد يركزّ في فيلمه على أكثر من جانب في شخصية خالد، التي أطلقت على نفسها إسم ” أوسكار الحلبية”. فأوسكار تعشق الرقص الشرقي، وقد عملت كراقصة في الكازينوهات والملاهي الليلية، لكن بالمقابل هي شغوفة في السينما، وأثناء حديثها مع المخرج، تعود بذاكرتها لأول مرة دخلت فيها السينما في حلب؛ سينما فؤاد.
خلال عملها كراقصة، تتعرف أوسكار على أحد رجال المقاومة الفلسطينية، وتنضم إليه في المقاومة المسلحة، وتنفيذ عمليات فدائية في جنوب لبنان ضد الإسرائيلين وجيش أنطوان لحد في فترة الحرب الأهلية.
يقدم فيلم «سينما فؤاد» شخصية فريدة من نوعها، إذ أن حب أوسكار لأنوثتها، يطغى على كل تفصيل بحياتها، سواء في طريقة تعبيرها عن نفسها، وحبها وتقبلها لذاتها، فعندما تتطرق أوسكار للحديث عن موضوع الدين وأداء الصلاة، تقول بأنها تفضل أثناء تأدية فروض الصلاة أن تكون بين يدي الله أنثى، كما تشعر من أعماقها وكما حلمت بأن ترغب أثنى كاملة من الخارج كما في الداخل، لذلك عندما تصلي، ترتدي الحجاب المخصص للصلاة.