آلة اللاهوت
في كتب التربية الإسلامية التي اعتمدتها وزارة التربية في القطر العربي السوري، تضمنت البراهين المنطقية على وجود الله مثالين كلاسيكيين هما نظرية السبب الأوّل، وصندوق الحروف. قورن خلق الكون بالتأليف، فبحسب تلك المناهج، ما من صاحب عقل ينكر وجود مؤلف لهذا الكون، مثلما يستحيل أن تتألف بالصدفة المحضة “جملة مفيدة” عقب إفراغ صندوق من الحروف على الأرض.
*
على قمة جبل، في كاتالونيا الحالية، أوحى الله إلى رامون يول (1232- 1316) سمات الألوهية التسع: الخير، العظمة، الأبدية، السلطان، الحكمة، المشيئة، الفضيلة، الحقيقة، المجد. كرّس يول نفسه للتبشير بالمسيحية، بعد متوالية من المنامات التي زاره فيها المسيح ورؤى رياضيّة الطابع أقصته نهائياً عن كتابة قصائد الغزل لامرأة أخرى غير زوجته. اخترع “الآلة المفكرة”، وكانت غايته الأساسية هي استقصاء الحقيقة لهداية المسلمين واليهود إلى المسيحية، لأن الطرق التقليدية المستخدمة في التبشير عديمة الجدوى.
كتب يول بالكاتلانية والعربية واللاتينية، وألّف ما يزيد على مائتي عمل، من ضمنها كتاب الوحوش وكتاب الأعاجيب؛ سافر أكثر من مرة إلى الجزائر ليناقش المسلمين ويقنعهم بحقيقة المسيح، ثم استنتج أن النقاشات اللاهوتية تتفرّع وتتشعّب إلى ما لا نهاية، ولا سيما عند تحليل النصوص المقدسة وتأويلها، وأن المجادلات الحامية تتيح للمتخاصمين الانصراف براحة بال وكلٌ منهم مقتنع تمام الاقتناع بأن حجته وحدها هي الصحيحة الدامغة.
بحسب يول، الدور الأساسي للإنسان هو التساؤل لأن الجواب لدى الآلة المفكّرة. هذه الآلة هي “أبجدية الفكر الإنساني”، دائرية الشكل، وفي مركزها حرف الألف رمز الألوهية وبداية الخليقة. السمات التسع المذكورة تتوزع محيط الدائرة، وتترابط فيما بينها ومع حرف متغيّر من حروف الأبجدية، بحيث تكون كلّ سمة صفة لسمة أخرى، فيكون الخير، على سبيل المثال، عظيماً وأبدياً وحقيقياً… إلخ. (يشير الشارحون إلى ضخامة ما تحتويه كلمة “إلخ” هذه). في مسقط رأسه مايوركا، أضاف يول إلى آلته المفكّرة ثلاثة أقراص متراكزة وقابلة للدوران، ويحتوي كل قرص خمسة عشر أو عشرين حجرة تخصص كل منها لكلمة واحدة أو حرف واحد. الاحتمالات في هذه الحالة هائلة، ويمكن تطبيقها في شتى فروع المعرفة، إذ هناك، كما هي الحال في الحياة الواقعية، إمكانية دائمة لحلّ أية مشكلة عن طريق الصدفة.
نَرْد الموسيقى
نعلم بالطبع إن الموسيقى هي الفن الأقرب إلى الرياضيات والأكثر تجريداً والأكثر استعصاء على المؤولين ومطاردي المعاني. سنة 1757، تخيّل يوهان فيليب كيرنبرجر لعبة نرد تتيح لجهلة الموسيقى أن يصيروا ملحّنين ومؤلّفين، حيث تستخدم قطعة صغيرة من لحن جاهز ثم يلقى النرد على العدد المحدود من العلامات الموسيقية، وتجمع التراكيب الحاصلة وصولاً إلى اللحن المحتمل، وفق قالب موسيقي معين، كالبولونيز مثلاً، بعد عدد متباين من محاولات التنويع والتكرار. يقال إن هايدن وموتسارت قد قامرا بعلامات الموسيقى وألّفا بعض الألحان برمياتِ النرد تلك.
آلة المؤرّخين
في الرحلة الثالثة من «رحلات غوليفر» نقرأ أن المختبرات راغبةٌ في تطوير أغنام من دون صوف، واستخدام الجليد في إنتاج البارود، وتوثير الرخام لجعله مخدّات، والاستفادة من البقايا الغذائية التي تبقى عالقة في الفضلات. حين يزور غوليفر أكاديمية لاغادو العظمى، يصادف آلة تتألف من إطار خشبي معبأ بمكعبات لها حجم النرد مربوطة بأسلاك رفيعة، وثمة مقابض حديدية مثبتة في حواف هذا الإطار. هذه الآلة معدّة “لتطوير المعرفة التأملية بطرق عملية وميكانيكية”: الكلمات مكتوبة على الوجوه الستة لكل مكعب، وعلى كل وجه ألصقت ورقة كتبت عليها كلمات كثيرة بطريقة عشوائية، وعندما تُدار المقابض تنقلب المكعبات، وفي كل دورة من دورات المقبض تتغير الكلمات المرئية ويتغير ترتيبها. تخضع المكعبات لمراقبة حثيثة، وإذا كوّنت كلمتان أو ثلاث كلمات جملةً أو شبه جملة، أتى الطلبة ونسخوها في دفتر. يقول غوليفر إن البروفيسور أراه مجلدات عديدة ضخمة المقاييس تحتوي العبارات المحطّمة التي كان ينوي أن يستصلح معانيها، وعبر تلك المواد شديدة الثراء كان يأمل بأن يقدم إلى العالم مكتبة تشمل كافة الفنون والعلوم.
يشهد غوليفر في رحلته الرابعة إن البهائم والدواب أجدر من الإنسان بالحياة، ويصف جمهورية فاضلة من الأحصنة الناطقة، حيث الكادحون بشرٌ يدبّون على أربع ويعيشون في قطعان، نهمون ويلقون بنفاياتهم فوق بعضهم البعض، يلصقون أفواههم بضروع الأبقار ليسرقوا الحليب ولا يستطيعون أن يحدثوا بعضهم بعضاً لأن لغتهم تغيّرت بعبور الزمن، ولا يستطيعون أن يقرؤوا لأنهم ينسون على الفور وذاكرتهم لا تتحمّل الانتقال من سطر إلى السطر الذي يليه.
آلة الشّعر
ألماني آخر تخيّلَ آلة لكتابة القصائد. إنه الشاعر المعاصر هانس ماغنوس إنسنسبرغر الذي انتبه بالطبع إلى كتاب ريمون كينو «مائة مليار قصيدة»، ففي هذا الكتاب هناك سونيت مطبوعة على كل صفحة، والفراغات بين السطور مقصوصة أفقياً بحيث يمكن إضافة بيتٍ أو حذفه كما يشاء القارئ، والمحصلة الرياضية لهذه العملية هي مليارات القصائد.
ما فعله إنسنسبرغر مختلف وبعيد عن حِيل جماعة أوليبو الأدبية أو ألعاب الكولاج الدادائية، فقد صمم برنامجاً رياضياً يضمن سلامة النحو والقواعد، من أجل آلة مخصصة لإنتاج عدد هائل من القصائد يضاهي عدد الذرات في الكون. لن نخوض الجانب الرياضي المعقّد هنا، ولكن لنتخيل ستة أبيات سداها التنويعات على ستة عناصر (حروف أو ألفاظ)، وكل منها يتكرر في ست حالات مختلفة. في حزيران 2000، أنجزت شركة إيطالية تصميم هذه الآلة وعُرضت في مهرجان شعري بمدينة لاندسبرغ الألمانية. بالطبع، ليس لهذه القصائد شعراء، فأصحابها هم الذين يستخدمون آلة الإنتاج الشعري هذه، إذ عند الضغط على زرّ التأليف تظهر على الشاشة قصيدة مؤلفة من ستة أبيات، وعند ضغط الزر نفسه مرة أخرى تختفي تلك القصيدة إلى الأبد لتحلّ محلها قصيدة أخرى بالحجم نفسه، محكومة أيضاً بالاختفاء إلى الأبد إذا جاء مستخدم آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية.