في أي مناسبة يُذكر فيها الأديب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي (1922- 1996)، نستعيد على الفور أن إبداعه في شتى مضامير كتاباته الأدبية، والذي يُتيح للقارئ إمكان الإطلالة على مذاق الكينونة الفلسطينية عامة وفي داخل أراضي 48 خاصة، حافل من بين أشياء أخرى بتوصيفات للمكان الذي عاش تبدّلاته في منعطفات المصير الإنساني. ومن الطبيعي أن يكون متصلًا اتصالًا وثيقًا بمدينة حيفا، التي اختار أن تكون فيها رقدته الأبدية داعيًا إلى نقش عبارة “باقٍ في حيفا” على شاهد قبره عند سفوح جبل الكرمل، وعلى مقربة من موج البحر.
وحيال استعادة ميراث حبيبي الآن، بالأساس على خلفية مواقف التيار السياسيّ الذي انتمى إليه أثناء تلك المنعطفات، وما رافق ذلك من لغط كبير، وجدت من الأنسب أن أعود إلى نصّ كتبه قبيل رحيله، وجرى تأطيره بأنه بمنزلة وصية.
نُشر هذا النصّ/ الوصيّة بعد وفاة حبيبي عام 1996، بين دفتيّ كتاب منفرد ضمن مجموعة أعماله الأدبية الكاملة. ولفت الناشر (“دار عربسك” المسؤولة عن إرثه) إلى أنه كان انتقى له في حياته عنوانين هما: “سراج الغولة”، و”لا تطفئوا هذه الشمعة”، من دون أن يرجّح كفّة أحدهما على كفّة الآخر.
في هذا النص قرأ حبيبي تجربته الأدبية، مُستعينًا على نحو مستفيض ببعض الصور من أعماله الناجزة.
وفي واقع الأمر، فإن قراءته لهذه التجربة تتمظهر- في وعيه التام- في هيئة قراءة أخرى، موازية ومكملة، للتجربة السياسية الشخصية التي تحاول أن تشتقّ مفرداتها ومستحصلاتها واستشرافاتها من مستويات التجربة السياسية الفلسطينية، ولا سيما التي خاض غمارها ذلك الجزء من الشعب الفلسطيني الباقي في الوطن.
ولئن كانت هذه القراءة تشفّ عن شيء جوهري بائن، فهذا الشيء هو نزعة يستبطنها حبيبي لا تحيل فقط إلى الموقف النظريّ الذي يتبناه وفحواه أن على الأدب، بالضرورة، أن يزامل السياسة ويتحالف معها، وإنما أيضًا تحيل إلى أن خصوصية الحالة الفلسطينية لا تسمح بذلك الفراق بين الأدب وبين السياسة، بشرط أن تتبدّى تلك الأخيرة في مداليلها النبيلة، وعلى وجه الدقّة مدلول خوض صراع مفتوح من أجل بلوغ حالة أفضل على المستوى الإنساني العام.
ومثلما شهد حبيبي على حاله، فقد آل على نفسه ألا يظل منحصرًا في أي قفص، وأرخى لجناحيه العنان، ووقف بالمرصاد للوثات كثيرة، في مقدمها اغتيال العقل، وقطع اللسان.
وعندما نطلّ على مشهدنا الحاضر- الثقافي والسياسي- ندرك مدى حاجتنا وضرورتنا في الآن معًا، إلى تجاوز الكثير من الأقفاص، والوقوف بالمرصاد للعديد من اللوثات.
في أعماله كافة- بدءًا من “سداسية الأيام الستة” مرورًا بـ “المتشائل” و”إخطية” و”سرايا بنت الغول” وانتهاء بـ “أم الروبابيكيا” و”سراج الغولة”- نحا حبيبي منحى رسم عوالم وحيوات زاد جوهر معرفتنا بها، وحمل أحيانًا مصباح الحكيم ديوجين ليكشف عما اعتبر أنه “لآلئ إنسانية” زاغت عنها أعين البشر في الأرض الطيبة. وبرز في مقدمها ما أسماه “الطبيعة الإنسانية” لبني البشر كافة التي هي في عرفه “الضعف الإنساني”.
“… وصرتُ أعتقد -يقول حبيبي- أن المهمة الأساس، أمام مبدعي الأدب والشعر ومختلف الفنون، هي البحث عن هذه اللؤلؤة -الضعف الإنساني- في أعماق البحور الإنسانية”.
وأوضح أن هذه الطبيعة، التي في مقدرتها أن تحمل صفة الإنسانية بامتياز وعن جدارة، جعلت نظرته إلى “الآخر” تتحرّر من “إسار الأصولية الدينية والدنيوية” التي تتعارض تعارضًا عدائيًا مع الضعف الإنساني، فنقرأ عنه: “… وهذا، أيضًا، هو ما أوصلنا إلى ما نسميه باسم “أنسنة العدو”. وكان بعضنا أسهم، عبر الكشف عن هذه اللؤلؤة، في الظاهرة المثيرة للاحترام- ظاهرة الطفل الفلسطيني الأعزل الذي لم يكن يتردّد في مواجهة جندي الاحتلال المدجّج بالسلاح. فقد أصبح يدرك أنه يوجد، تحت اللباس العسكري، إنسان يتميز، مثله مثله، بالضعف الإنساني. وكان على زملائنا اليهود أن يبذلوا جهدًا كبيرًا حتى يتخلص مجتمعهم من الظاهرة الشيطانية، ظاهرة الجندي الذي لا يتورع عن توجيه رصاص بندقيته نحو صدر طفل فلسطيني أو طفلة. فكيف يعود إلى بيته وإلى أطفاله بعد هذه الفعلة؟”.
وفي سياق الوصية السالفة شدّد حبيبي على أنه لا يجوز لشعبنا الفلسطيني أن يقبل بأن يتخلّى عن ماضيه مهما يكن هذا الماضي، كذلك شدّد على أن الشعوب الحيّة تتعلم من ماضيها لتضمن مستقبلها. كما لو أنه يؤكد أنه هو نفسه ليس ماضيًا انقضى، وأننا نحن مدعوون دائمًا لأن نتعلم من الماضي كي نستمد القوة لضمان مستقبلنا.
وفي النصّ ذاته يقول حبيبي حرفيًا: “لا شعب يقبل بأن يتخلى عن ماضيه مهما يكن هذا الماضي… والشعوب الحيّة تتعلم من ماضيها لتضمن مستقبلها…”.
وهذه الجملة تضعنا وجهًا لوجه أمام فكرة أخرى -له ولغيره- هي التعامل مع الزمن الحاضر على مستوى تقاطعه مع الزمن الماضي، ولو أنها لا تأتي على ذكر الزمن الحاضر، وأعتقد أن هذا لم يكن من قبيل المصادفة. وليس مبالغة الادعاء بهذا الشأن أن ما يقوله لنا نصّ حبيبي، دون روغان، أن الماضي يشكل في أحد جوانبه مرتكز الرفض للحاضر على مستوى صيرورة هذا الزمن الأخير من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا الماضي هو متكأ الكشف عن مفهوم المستقبل والجديد على صعيد الرؤيا والحلم.
ثمة مسألة أخرى تطرّق إليها حبيبي في وصيته هي اعترافه بأن ما بقي للفلسطيني الباقي في وطنه بعد نكبة 1948، هو رأس خازوق، كما المصير الذي آل إليه بطل روايته الأشهر “سعيد أبي النحس المتشائل”، مؤكدًا “إننا نفضّل رأس خازوق فوق تراب الوطن على رحاب الغربة كلها. فقد وجدناها، كلها، حرابًا وفراشها أشبه بفراش هندي فقير: رؤوس مسامير أو خوازيق صغيرة وكبيرة على قدر المقام”.
يمكن التقاط الكثير من الشذرات الأخرى داخل هذا النصّ التي تخدم الفكرة التي ركزت عليها في السطور السالفة: فكرة عدم إخفاء الماضي. وهي الفكرة التي يقول بها حبيبي بل ويوصينا بها فعلًا. بيد أنه في الوقت عينه يلمّح إلى أن هذا الماضي قابل للمراجعة والنقد والنقض، وحتى للمحاكمة.
ومنذ أن ترجّل حبيبي عن حصانه جرت مياه كثيرة في النهر تستوجب مثل هذه المُراجعة، وخاصة فيما يرتبط باجتهاداته السياسية التي يأتي على ذكرها بالتفصيل الكبير في نص الوصيّة نفسه.
لماذا أقول هذا الكلام؟
لكي أؤكد على مسألتين ذواتي صلة في هذا الاستحضار المتجدّد لصاحب رائعتي “المتشائل” و”إخطيّة”:
الأولى، أن حبيبي وقف بالمرصاد لأي محاولات يرمي أصحابها إلى إخفاء الماضي، بما في ذلك الماضي الذي كان هو جزءًا غير منفصل منه، واعترف بأن فيه “أشياء نستحي منها”.
والمسألة الثانية، أنه بكيفية ما اعتبر الحاضر الذي عاش فيه وعايشه بكل جوارحه غير ضامن للمستقبل الذي تطلع إليه، ودعانا بموازاة ذلك إلى أن نتعلم من الماضي لضمان المستقبل. وبغض النظر عما إذا كانت هذه الدعوة تنطوي في قصديتها على تبييض للجانب الشخصي من هذا الماضي في سبيل تزكيته، أم لا تنطوي على هذا قطّ، فإن ما يبقى منها هو مطلب التعلّم من الماضي.
ونظرًا إلى أنه منذ رحيل حبيبي قبل أكثر من عقدين، انضاف ماض آخر إن لم يكن أكثر إلى ذلك الماضي الذي كان قبل 1948 وخلاله، فقد أضحت المهمّة أكبر وأشدّ زخمًا، والاجتهادات باتت كثيرة، ولا يجوز نزع الشرعية عن أي منها، بقدر ما إنه لا يجوز نزع الشرعية عن اجتهاد حبيبي أديبًا وسياسيًا.