١
يبدأ جوناثان لير كتابه، «الأمل الراديكالي: الأخلاق في وجه الخراب الثقافي»، بعبارة غامضة: ”بعد ذلك، لن يحدث شيء…”. ”ذلك“، الذي من بعده لن يعد يحدث شيء، يشير إلى لحظة إدخال السكان الأصليين في الإطار القانوني للمحميات الأميركية. بعد هذه اللحظة، انتهى نمط حياة، وانتهت معه مفاهيم وممارسات وتقاليد كانت تستمدّ معانيها من داخله. استمرّت الحياة بماديتها، ولكن في زمن ”لن يحدث فيه شيء“.
ينطلق لير من هذه التجربة، ليقف عند معنى عبارة ”لن يحدث شيء“ أو إمكانية أن ”لا شيء قد يحدث بعد اليوم“. وهذه العبارة الغامضة تشكّل تعريف ”الخراب الثقافي“، أي إمكانية أن ينتهي نمط حياة، وتنتهي معه المعاني والمفاهيم التي شكّلت بنيته الثقافية. لا يعني انهيار ثقافة ما أنّها دُمرت مادياً أو قُتل أبناؤها، بل أن معناها بات خارج قدرتنا على استيعابه. السكان الأصليّون ما زالوا هنا، ولكنهم ما عادوا هم أنفسهم. ما عاد بإمكانهم أن يرثوا ماضيهم وأن يسلموا إرثهم لجيل جديد. باتوا عالقين في زمن ”لن يحدث فيه شيء“.
بهذا المعنى، تبدو تجربة السكان الأصليين مع ”الخراب الثقافي“ نموذجية. فقد شبّه إلياس صنبر، مثلاً، وضع الفلسطينيين بحالة السكان الأصليين في أميركا، حيث سياسة إنكار وجود شعب تعدّت تجربة الاستعمار، لتصبح أقرب إلى سياسة إخفاء كامل. ويمكن تعميم هذه التجربة على أي حالة قطيعة مأسوية تطال البنية المفهومية للحياة، فيصبح الماضي السابق على القطيعة غير قابل للفهم. وإذا أخذنا بعض الحرية في استيراد فكرة ”الخراب الثقافي“ إلى حاضرنا، يمكن القول إن فشل الثورات خلّف خراباً مفهومياً، بات من الصعب لمن يعاين الماضي من حاضر ما بعد الثورات أن يفهم ما حصل قبل بضع سنوات. ما زلنا هنا، ولكننا لم نعد نحن أنفسنا داخل هذه ”المحميات المفهومية“ التي انتهينا فيها. جيل الثورات هو جيل قُطع عن ماضيه، ولم يستطع أن يسلم إرثه للجيل القادم. فبعد الثورات، لم يعد يحدث شيء، وإن كان يحصل الكثير من الأشياء.
٢
في لحظات الخراب الثقافي، يبدو ”الواقع“ في كثافته المادية وشفافيته المفهومية كآخر معقل من الثبات والصلابة للهروب من تداعيات الخراب وعبثية زمانه. ففي لحظات كهذه، غالباً ما يُرفع شعار ”العودة إلى الواقع“ كطريقة للعيش مع الخراب المفهومي، محمولاً بالأمل بأن هناك في مكان ما واقع شفاف قد لا يحتاج للمفاهيم التي فُقدت، ويمكن أن يشكّل جسراً للعبور فوق الخراب. نجد هذا الغوص الخلاصي بحثاً عن الواقع في عدد من الإنتاجات الثقافية التي ظهرت بعد خراب ”الثورة“. فمن استعراض على خشبة المسرح لشهادات حية لأناس ”واقعيين“ إلى الغوص في الذات بحثاً في عمق الأحشاء عن صلابة ما، ومروراً بمحاولات التوثيق ”الوفية“ لحقيقة ما جرى، هناك نمط من ”الواقعية“ يسيطر على محاولات الخروج من العدمية الراهنة.
لكن ليس هناك من ”واقع“ بعد الخراب يمكن اللجوء إليه، بل مجرّد خطابات أخرى تنصب كمائن للباحث عن الواقع. فاستعراض الشهادات الحية لم يعد يعني اليوم استرداد القدرة على الكلام، بل بات تكراراً لخطاب التسامح وسياسات الدمج. أمّا التوثيق الوفيّ للحدث، فيتحوّل خارج المشروع السياسي الذي قدّم له معناه في الماضي، إلى نوع من التكرار لتراجيدية إنسانية عن حتمية الشر في عالم ساقط. فبعد سقوط الخراب الثقافي، لا يوجد إلا ”صحراء الواقع“، حيث أسراب الخطابات تحوم فوق جثث الماضي.
لم يكن الواقع أخرس دائماً. ففي لحظة الثورة، كان الواقع يروي قصته غير مكترث بأي خطاب، وكانت روايته لا تحتاج إلا لبعض الهواتف النقالة لإنتاجها. الواقع آنذاك لم يكشف حقيقة مخفية تحت عقود من القمع فحسب، بل كان يصنعها مع كل صورة ينتجها. وبدت هذه الطاقة الإبداعية للواقع في فيلم «العودة إلى حمص»، حيث كان كافياً الالتصاق بالواقع لكي تظهر معالم رواية قيد التكوين، عقّدت بسلاسة علاقة المشاهد بالفيلم، وأدوات الإنتاج بالنسخة النهائية، والموضوع بمنتجيه، والحقيقة بالخيال. كان يكفي أن ننظر إلى الواقع لكي تظهر الصورة بتعقيداتها ووضوح مسارها. بكلام آخر، إذا كنا نبحث عن تعريف للثورة، فهي ربّما اللحظة التي يصبح الواقع قادراً فيها على الرواية.
ولكنّ هذه اللحظات هي مجرّد لحظات. ومع الخراب المفهومي الذي تلا انهيار الثورة، بات من الضروري العودة إلى فرضية الاكتفاء بالواقع كشعار. فإذا كان الالتصاق بالواقع ينتج روايات في ظل الثورة، فهو بالكاد يستطيع اليوم أن ينتج تقارير للأمم المتحدة. ولكن يبقى السؤال، في صحراء الواقع، كيف نوثّق من دون أن نردّد؟ كيف نشهد على واقع بعد خرابه الثقافي؟ كيف نهرب من خطابات الترويض التي ينتجها التكرار العبثي؟
٣
غالباً ما يأتي الجواب على هذه الأسئلة موارباً. فمن دون الغوص بمتاهات تلك الأسئلة، يطرح فيلم «طعم الإسمنت» لغة مختلفة للتوثيق قد تقدم بعض الأجوبة على تلك التساؤلات، أو توضح بعض المعضلات التي تواجه عمليات التوثيق بعد لحظة الخراب الثقافي. فيروي الفيلم يوميات عمال البناء السوريين في لبنان، العالقين في دوامة دمار سوريا وإعمار لبنان. على مدار ٨٥ دقيقة، تلاحق الكاميرا العمال الملحقين لشتى أنواع الماكينات، في صعودهم نحو ورشهم ومن ثم نزولهم إلى حفرهم. ينتقل الفيلم من لبنان إلى سوريا، حيث ماكينات أخرى تهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، لتنتج عمالاً جدداً وتوسّع عملية إعادة الإعمار. في هذا العالم الما-بعد إنساني، يصبح البشر مجرد روابط عضوية لماكينات تتحرك بين بلدين، ينقلون طاقة بين دمار من هنا وإعمار من هناك.
استُقبل الفيلم بإعجاب كبير لكسره اللغة السائدة في توثيق المأساة السورية. فقد شكّل صمت العمال واللغة البصرية للفيلم لغة أكثر تعبيراً من تدفّق الكلام المعتاد، استطاعت طرح عدد من التناقضات والترابطات من خلال تقنيات تصوير مميزة، تقطع مع صور الثورة الأولى. فينجح الفيلم بتصوير الدوران العبثي الذي يشكل واقعنا، من خلال عدد من الثنائيات الرمزية التي تحرّك روايته: الدبابة والجرافة، الإعمار والدمار، الماضي والمستقبل، الرعد والقصف، الباطون والبحر، الماكينة والإنسان… في هذا الدوران العبثي، رسالة واحدة، وهي عن مأساة ”العمال المنفيين“، الذين يهدي الفيلم نفسه لهم. فرغم تقنياته وخياراته الإخراجية، يعود الفيلم إلى حقيقة صلبة، هي الألم. فكما كتب إلياس خوري في تعليقه عن الفيلم: ”نقول إن الصور والإيقاع والبناء السينمائي مدهشة كي نلخص ما نعجز عن قوله، فنحن أمام لغة أخرى، لغة تعرف أن الألم هو الحد الذي لا تستطيع اللغة اختراقه أو الوصول إلى أعماقه، وحدها العيون تختزن الألم وتصير لغته“ (القدس العربي، ١٧/١٠/٢٠١٧). بكلام آخر، ما وراء الصورة، هناك خطاب آخر، يعجز الكلام عن التقاطه. فتحت ”صحراء الواقع“، غابة من الخطابات لا نصل إليها إلا من خلال الدهشة.
٤
القراءة الخطابية لـ«طعم الإسمنت» هي إحدى القراءات الممكنة، وهي قراءة يشجعها الفيلم في لحظات ”كلامه“ النادرة. ولكنها قد لا تلتقط تماماً ما يميز الفيلم عن اللغة السائدة، وقدرته على طرح المعضلات التي تواجه عملية التوثيق بعد لحظة الخراب الثقافي. وهنا يمكن الاستعانة بالفيلسوف جاك رانسيير في قراءته لأفلام المخرج المجري بلا تار، وهي أفلام، كما يعرّف عنها رانسيير، تعبّر عن زمن انهيار وعود الماضي. يطرح الفيلسوف الفرنسي جدلية بين نمطين من المحسوس. الأول هو نمط ”التكرار“ المبني على الروايات التي تربط أفعالاً مختلفة بشبكة من العلاقات المنطقية أو السببية يحدّدها البحث عن نهايات ما. أما النمط الثاني، فهو نمط ”الحالات“، أي شبكات الأحاسيس والمشاعر والتصورات والعواطف، التي تحوّل الإنسان إلى كائن تحدث معه روايات. إنّه مستوى العلاقة بين الكلمات والأزمنة والحركات والأشياء والتمنيات والملل والاستياء على المستوى الحسي. يشكّل تخابط هذين المستويين، بالنسبة لرانسيير، جدلية ”الواقعية“ في زمن الخراب الثقافي، حيث لا يكسر تكرار الخطابات إلا ”الحالات“، الحالات التي تنسج حسياً خطوط الخروج من دوران الروايات حول نفسها.
وربّما هذا ما يقدّمه «طعم الإسمنت»، أي عدداً من الحالات التي، وإن كانت لا تقدّم مخرجاً من تكرار الخطابات، فإنّها تشير إلى هذين المستويين من الحياة في عالم الخراب الثقافي. فالفيلم مقسوم زمنياً بين نهار وليل، وهو انقسام يتطابق مع آخر مكاني، بين الورشة والحفرة. العالم الأول هو عالم الخطابات، حيث الراوي يعرّف واليافطة تفسّر واللغة البصرية تستعين بالرمزية، السهلة أحياناً. في هذا العالم، لم يعد هناك ”طبيعة“ مستقلة عن الماكينات، بل أصبحت ”غابة الباطون“ واقعاً غير مجازي. ولكن تبقى الكاميرا تبحث بين أعمدة الباطون عن إنسانية ما، يمكن للدهشة أن تلتقطها. ورغم الصمت، يعود الراوي، ليؤكد لنفسه أن زمن الروايات لم ينتهِ، وإن باتت أقرب إلى همهمة من خطابية الثورة المعتادة. في هذا العالم، يصلح التطويق الخطابي للفيلم، ليصبح الفيلم عن العنصرية ودوامة الدمار والإعمار وغيرها من ميزات حاضرنا.
ولكن الفيلم، في لحظة جدلية كما عرّفها رانسيير، يغوص في عالم الحالات وهو يلاحق العمال إلى حفرتهم الليلية. يقف الراوي على مدخل الحفرة ولا يدخل. ففي الحفرة، لا مكان للروايات، ولا للرمزيات. إنّه عالم الحالات، حيث يتحوّل العمال من ملحقات لماكينات إلى كائنات حية تنتظر، تخلع الثياب، تفتح الباب، تقشّر قطعة جبنة، تدلق سمكة سردين، تفكّ لمبة. تستفيق الهواتف النقالة، ولكنها لم تعد أدوات للتوثيق بل مجرّد شاشات تقدّم صوراً معلبة لدمار معروف، وبعضاً من الإضاءة في الحفرة المعتمة. الحركة في هذا العالم تفاجئ بقلتها. نعتاد تدريجيا على الصمت. فنبدأ بالخضوع لوتيرته. الصمت يتحوّل من لغة مرادفة إلى تقنيات تربوية، تحضّر المشاهد على تقبّل عالم الحالات الخالي من الروايات. ففي هذا العالم، نبدأ بالاهتمام بحالة الانتظار بحد ذاتها، وليس بخاتمتها المنتظرة. فليس من روايات هنا ولا نهايات، مجرد مدة الزمن، أي زمن ما بعد كل الروايات، زمان لم نعد نهتم بالرواية بل بمكوناتها الحسية. في الحفرة، يعلّم الفيلم فضائل العيش في حاضر ما بعد الخراب، وهي مناقب تحتاج إلى شجاعة ومثابرة وإحساس.
يعود الفيلم إلى الورشة، في جدلية رانسيير الواقعية، حيث الحالات والروايات تتخبط. فيستيقظ الرواي، ومعه الماكينات، قبل أن يتركنا من جديد على باب الحفرة. وينتهي الفيلم كما بدأ في غابة الباطون.
٥
هكذا يروي «طعم الإسمنت» جزئياً ألم العمال السوريين من خلال دهشة اللغة البصرية. ولكنه، وربّما هذا هو الأهم، يشير إلى ضرورة البحث عن لغة توثيق لحاضر الخراب الثقافي الذي نعيش فيه. فهو يقف في لحظة انحسر فيها خطاب الثورة، ولكنه ما زال يشكّل خلفية الصورة، فلا نراها إلا من خلال انعكاسات مزدوجة. ولكنّه يقف أيضاً في لحظةٍ تقاوم التعليب السهل لهذا الانحسار بأنواع من الميلانكوليا الرديئة، وذلك من خلال لغته الما-بعد إنسانية من جهة، وغوصه بحالات الانتظار من جهة أخرى. بكلام آخر، إنّه فيلم عن حاضر ليس له ماض أو مستقبل، ولكننا لا نصل إليه إلا من خلال ماض معكوس ومستقبل مُخان. إنّه فيلم يعترف بالتكرار ويشير إلى الحفرة التي يمكن من خلالها الهروب من هذا التكرار، حفرة تُعلّق ولو للحظة عملية تدفق الخطابات، هي لحظة الباطون السائل قبل أن يتحجر بغابات من البنايات. قد يكون هذا الزمن هو تعريف الحياة ما بعد الخراب الثقافي.
”أفلام بلا تار لا تتكلم عن الأمل. إنها الأمل“. هكذا ينهي رانسيير نصّه عن تار. «طعم الإسمنت»، بهذا المعنى، لا يتكلم عن الأمل، لأنه يستحيل الكلام عن الأمل اليوم، بل يستحيل الكلام اليوم. ولكنّه يشير إلى إمكانية الخروج من حالة التكرار القاتلة لأي جديد، بما في ذلك الأمل نفسه.