تنتهي صلاحيةُ جواز سفري، السوريّ، يوم التاسع من آذار القادم، أي بعد قرابة ثلاثة أشهرٍ من الآن. ورغم أنّ الدولَ تطلبُ عادةً أن يكون جوازُ السفر صالحًا لمدة لا تقلّ عن ستة أشهرٍ، كي تسمحَ لحاملهِ بدخولها، إلّا أنني قررت المجازفة. حجزتُ تذكرةَ السفر إلى بيروت.
مضى عامٌ ونصف العام على آخرِ زيارةٍ إلى هناك. لم ألتقِ أبويّ منذُ ذلك الوقت، ثمّ إنّ أصدقاء كثرًا، أعلنوا أنهم ذاهبون إلى معرض بيروت الدولي للكتاب. لم يعد هنالك ترف للتردد. بيروت، العائلة، الأصدقاء، معرض الكتاب، وقراءة شعرية في شارع الحمراء. فلنجازف، والله الموفقُ والمستعان.
أعيشُ قلقًا، غير مبررٍ في الغالب، قبل كلّ زيارةٍ إلى بيروت. لم أعرف مدينةً تعيشُ حياتها على وشك الإنفجار مثلها. الليالي التي تسبقُ سفري إليها تحفلُ بالكوابيس، وفي كلّ اتجاه. لكنّ جلّها يذهبُ إلى مؤدّىً واحد، الاعتقال. والخوفُ هنا، ليس لظنٍ واهمٍ أنّ ثمة من ينتظرُ وصولي لكي يلقي القبض عليّ، فقد انتهى وهمُ التأثير هذا منذُ خرجتُ من سوريا، إذا اعتبرتُ أنهُ كان موجودًا أصلًا، حتى قبل خروجي. إنما أساسُهُ الاعتقالُ نفسهُ، فقد عرفتُهُ سابقًا، خبرتُهُ وأحاولُ دائمًا التنصّل من أنّ علائمهُ ما تزالُ ماثلةً في حاضري، أينما أعيش. وأوهمُ نفسيَ والآخرين أنني تجاوزتُها.
بعدَ تدقيقٍ شكليّ سريع في مطار كوبنهاغن، سُمحَ لي بالمغادرة، أي أنّ مدةً صلاحية جواز سفري لم تؤخذ بعين الاعتبار. جلستُ في مقعدي على متن الطائرة المتوجهة إلى اسطنبول، حيثُ سأقضي قرابةَ ساعتين هناك قبل أن أواصل التحليق إلى لبنان. تنتابُني رهبةٌ مربكة، وقشعريرة لذيذة كلما رأيتُ اسطنبول من الأعلى. اختلاطٌ بينَ أضواء عشوائيةٍ وزنّار ضوئيّ منظّمٌ يؤطّرها، في مساحةٍ شاسعة. أقضي ثلث الساعة الأخير في الطائرة، أشاهدُ وثائقيًا عن صناعة البقلاوة التركية، رغم أنني لا أفضّلها من بين أنواع كثيرة من الحلويات المشرقية. أشاهدُ الفيلم لسبب مجهول، بينما تقتربُ الطائرةُ من أرض مطار أتاتورك، الذي باتَ معلمًا هو الآخر بعد أحداث تموز الدامية في العام 2016. لا تستمرّ البهجةُ طويلًا، إذ تُزكمُ أنفي رائحة وقود الطائرات ما أن يلمس الهواء وجهي، على السلم. فأحثّ الخطى نحو البوابة التالية لمواصلة الرحلة.
أملأُ البطاقة البيضاء التي يوزعونها على الداخلين إلى لبنان، وأمشي في ممرات المطار، مستمتعاً كالعادة بمقدمة زكي ناصيف الموسيقية لأغنية “اشتقنا ع لبنان يابا”، آلفُ وجوهَ الناس هناك، موظفي السوق الحرة، العمال، السائقين. وأرتبكُ بشدّة أثناء انتظاري مع طابورٍ طويلٍ من البشر، لختمِ الدخولِ الذي يعني أنّ أحدًا لا يلقي بالًا لدخولي أو خروجي. يسألُني موظفُ الجوازات، كم ستمكثُ في بيروت؟ ويمنحني إقامة لمدة شهرٍ كامل. لم أحظَ بمثلها منذ سنتين!
حينَ كنتُ صغيرًا، كنتُ أظنّ أنّ أيّ بشريّ يدخلُ مطارًا ويجدُ شخصًا يرفعُ ورقةً تحملُ اسمهُ، هو شخصية اعتبارية. وعلى الرغم من أنني أدركتُ أنّ هذا الفعل هو من مهام سائقي التاكسي عادة، إلّا أنّني ظللتُ أتمنى أن أدخلَ مطارًا فأجد أحدًا ما ينتظرني. تعبتُ، مثل سوريين كثر، من أنّ أحدًا لا ينتظرُنا!
أوصلني سائق التاكسي الذي كان يحملُ اسمي على ورقةٍ بيضاء، إلى الفندق في شارع الحمراء. حوالي الساعة الرابعة فجرًا، سمعتُ من شبّاك الغرفة في الفندق صوتَ مؤذنٍ قريب: حيّ على الصلاة…
وكانت بيروت!
**
1
أُقفِلَ «كافيه بين»، وافتُتح مكانهُ محل ملابس بأسعارٍ معقولة. لم أشترِ شيئًا منه.
هنا كنتُ أجلسُ صباح كلّ يوم، في معظم الزيارات، أشربُ قهوتي وأقرأ الجرائد ووجوه العابرين، وألقي التحيّة على من أعرف ولا أعرف.
لم أرَ يحيى جابر خلال أسبوعين! كان الرجلُ من روّاد المكان المياومين، ومع إقفالِ المقهى أضعتُ مكان يحيى، ولم أراسلهُ لطلبِ اللقاء، حيثُ كانت ميزة اللقاء الدائم بيحيى، في كلّ زيارة، أنّني لا أطلبُ موعدًا ولا أعطي وعدًا، نلتقي في المقهى، والسلام.
أضعتُ شباب «شيعة السفارة» أيضًا. التسميةُ التي أطلقها حزب الله على أبناء الطائفة الشيعية المناهضين له، وأصحاب الموقف المؤيدِ للانتفاضة على النظام السوري.
تشعرُ أنّ الهواء يشحّ أكثر فأكثر في المدينة. لا بدّ أنّ هؤلاء وجدوا لأنفسهم مكانًا جديدًا، لكنّ الغرباء من أمثالِي، سوف يصعبُ عليهم أن يعرفوا الطريقَ الموصلةَ إلى وجوه المقهى الصديقة.
2
منذُ نهاية العام 2012، لم أجد في بيروت هذا العدد الهائلَ من السوريين، مثل الذي وجدتهُ في هذه الزيارة. كتّاب وشعراء ومشتغلون في الثقافة، يعطون المدينة ضجيجًا لا ينقصُها، لكنّهُ ينقصهم. سواء كانوا من المقيمين في سوريا، حيثُ بُترت الحناجرُ قبل أعوام، تخوفًا من أن تصدرَ أصواتًا تُزعجُ الديكتاتور. أو كانوا من المقيمين في أوروبا، حيثُ الهدوءُ قانونٌ لا يمكنُ بحالٍ تخطّيه. في ستوكهولم مثلًا، في الحيّ الذي يسكنُهُ غياث المدهون، الشاعرُ الفلسطينيّ السوري، يصعبُ الاستحمام بعد العاشرة مساءً، لأنّ صوتَ الماء في المواسيرِ يُزعجُ سكّان العمارة، الذين ينامون في مثل هذا الوقت.
3
أقامت مؤسسةُ ”اتجاهات”، نشاطًا تحت عنوان «البحث عن مدننا في مدن ومنافٍ أخرى». حملَ شهاداتٍ أدبيّة لكتابٍ سوريين، جمال الشحيّد، رشا عمران، عدي الزعبي، جولان حاجي، عروة مقداد، جمانة الياسري، بينما تخلّفت ضحى حسن عن الحضور.
التقيتُ الأصدقاء هناك، في اليوم الثاني للزيارة. كنتُ قد ضربتُ موعدًا مع جولان حاجي منذُ سنوات، لم ينجح إلا في بيروت. أسرّ لنا جولان، أنهُ لن يقرأ في الأمسية تلك، فغادرتُ رفقة فؤاد محمد فؤاد وزوجته إلى البيال، حيثُ يقام معرض الكتاب. وفي الطريق أخذنا الحديثُ إلى حلب، مدينة فؤاد، وإلى جيلهِ، جيل شعراء الثمانينات في حلب، الذي لطالما لفتني، ولطالما شعرتُ أنهُ علامة فارقة في الثقافة السورية، ما بعد استلام حزب البعث السلطة.
سأشتري روايةَ محمد أبي سمرا الجديدة في ذلك اليوم، حيث كان يوقعها في جناح دار رياض الريّس للنشر، ثمّ أتابع طريقي إلى مبتغاي، منشورات المتوسط. وسوف يمرّ يومٌ آخر، ثمّ أرى رياض الريّس نفسه، في جناحه، على كرسيّ متحرّك، يجرّ معها عمرًا طويلًا من المعرفة، الثقافة، الخبرة، التجربة، الحركة الوطنية، شعراء الحداثة، وبيروت المذهلة، بيروت الحروب والعطور والمتفجرات!
4
نشأَ خالد الناصري شاعرًا، لم يكن يتجاوزُ السبعة عشر عامًا حينَ نُشرت لهُ ثلاث قصائد في مجلة المنتدى الثقافي العراقي، التي كانت تصدرُ في دمشق، التي تسامحَ نظامُها السياسيّ مع معارضي نظام صدام حسين العراقي، نكايةً، وإن كانوا من المعارضين لهُ أيضًا. حظيت قصائد الناصريّ تلك بإعجاب عددٍ من المتابعين، سيقرأها صدفةً الشاعر العراقي فوزي كريم، وسيطلبُ من خالد قصائدَ أخرى للنشر في مجلة اللحظة الشعرية التي يشرف على إصداراتها.
سمحت لهُ نشأتهُ تلك، وطبيعته العفوية، وعصاميته، أن يكوّنَ شبكةَ علاقاتٍ واسعة منذُ مقتبل حياته، تعدّت العلاقات العامة، لتصبحَ صداقاتٍ وثقى. حدث ذلك قبل أن يراودهُ حلمُ أن يكون ناشرًا، لكنّهُ، وبعد أكثرَ من عقدٍ من الزمن، سوف يدخلُ عالم النشر من خلال «منشورات المتوسط»، وسيكونُ واحدًا من الذين يقتحمون عالمَ النشر بقوةٍ وعناد وبكتبٍ لافتة.
من خلال الناصريّ، وصداقاته القديمة والحديثة، جاء إلى بيروت عدد من الكتاب السوريين، وغير السوريين. كانت فرصةً لأن يتواجد كلّ هؤلاء في مكانٍ واحدٍ لأكثر من أسبوع، ما قد يُشكّلُ اللقاء الأطول فيما بينهم معًا منذُ خروجهم من بلادهم. وفّرت شخصيةُ الشاب الثلاثينيّ لكلّ هؤلاء استعادةَ مشاعر كانت في طيّ النسيان، أو الكتمان.
**
في كلّ زيارةٍ إلى بيروت، ورغم الخوف والتردد والارتباك، أخرجُ بما لا يُنسى. سكّانُ المدينةِ ما زالوا يختنقون، لكنّهم ما زالوا يرقصون أيضًا. لم يتغيّر موقعُ تمثال سمير قصير، ولا البنايات التي ما تزالُ آثارُ رصاص الحرب الأهلية تملأُ جدرانها.
لم يتغيّر الخوف، رأيتُ خائفين من بلادٍ عربيةٍ شتّى، عراقيّ يخافُ الاغتيال، مصريّ يخاف الاعتقال، لبنانيّ يخافُ الانفجار، فلسطينيٌّ يخافُ الاحتلال والنسيان، جزائريّ يخافُ التنفّس العاديّ، بحرينيّ يخافُ إخوته، وكنتُ، من بينِ كلّ هؤلاء، أخافُ كلّ شيء… كانت بيروت مدينة للخائفين. كنت خائفًا فيها هذه المرة. أتجنب الحديث إلى كلّ من لا أعرف، وأثق. حاولت التنصل من معظم الأحاديث الخاصة بسوريا، ذلك أنني أعرف أنني أمرّ بمرحلة حقد، قلّما تترك فرصة للتحليل البارد. لم أفلح في محاولاتي دائماً. كان صعبًا عليّ أن أسكت عن جملة المغني والملحن البحريني خالد الشيخ، حين قال لي إنّ إظفر بشار الأسد أفضل من كل المعترضين عليه. ووصفنا، نحن المعارضين للنظام، بأننا رعاع.
صرخت في وجهه وتوترت وانفعلت. وكنت بعدها خائفًا لأيام، خائفًا من “الفنان” الذي رأيتُهُ في صورةِ رجلِ أمنٍ صغير.
لكنّ الخوفَ لم يحل سابقًا، ولن يفعل لاحقًا، دون الخروج من بيروت بما لا يُنسى، هنا بكى الفلسطينيون حين تعرّفوا إلى والديّ، وحين أخبرتهم أمي إنها زارت فلسطين في العام 1966. بكوا بحرقةِ من شاهد أناسًا آخرين، من غير الفلسطينيين، كانوا شهودًا على حياة بلادهم.
هنا، ستظلّ دمعة يوسف بزّي النظيفة التي سقطت من عينيه حين تحدث عن سوريا، في حانةٍ من حانات «بدارو» عالقةً في الصورة، وسيظلّ صوتُهُ القويّ العنيد في أذنيّ: الـ 2011 هي النقطة الفصل، لا يمكنُ السكوتُ عن القتلة، لا يُمكنُ ترك الناس لمصائرهم، لا يمكنُ التسامحُ مع أزلام الديكتاتور، الانتحارُ أسهل من هذا…
صوتُ يوسف الرافض السكوت، والذي يمثّلُ صوتَ كثيرين سواه، إضافةً لما تحملهُ رائحة المدينة البحريّة وصيادو كورنيشها، وتمثال سمير قصير في وسطها، من شغفٍ، أشياء تمثّلُ بالنسبة لنا، فيزا دخولنا إلى لبنان، بجوازاتٍ صالحة، أو منتهية الصلاحية!