مقارنة مع العام الفائت الذي انتهى والسينما الفلسطينية خالية من جوائز تذكر، عادت السينما الفلسطينية هذا العام لتضع بصمتها مرة أخرى وبقوة، محملة بأرفع الجوائز من عدة مهرجانات سينمائية دولية مع أفلام قصيرة وطويلة روائية ووثائقية ، بدأ حصاد الجوائز مع الفيلم الوثائقي «اصطياد أشباح» للمخرج رائد أنضوني، الذي اقتنص أفضل وثائقي (وهي جائزة مستحدثة) في مهرجان برلين السينمائي في الدورة 67، ليستمر الحصاد مع فوز الممثل الفلسطيني كامل الباشا بجائزة أفضل ممثل عن دوره في الفيلم اللبناني «قضية رقم 23» للمخرج زياد الدويري في مهرجان فينيسيا، يليه جائزة التانيت الذهبي للفيلم القصير في مهرجان أيام قرطاج السينمائية والذي كان من نصيب «غزة في عيونهن» للمنتجة مي عودة، وفي قرطاج أيضاً كان فيلم «كتابة على الثلج» للمخرج رشيد مشهرواي فيلم افتتاح المهرجان، ولا بد أيضاً من المرور بتجربة المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد مع فيلمه الهوليوودي «الجبل بيننا» الذي كان فيلم افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي، لينتهي العام مع جائزة أفضل فيلم في مهرجان دبي السينمائي الذي ذهب لصالح فيلم «واجب» للمخرجة آن ماري جاسر الذي رشحته فلسطين هذا العام ليمثلها في الأوسكار، وجائزة أفضل ممثل التي ذهبت مناصفة لبطلي الفيلم نفسه “محمد بكري، وابنه صالح بكري“، وأفضل فيلم قصير في مهرجان دبي السينمائي كان للمخرج مهدي فليفل وفيلمه «رجل يغرق» الذي عرض لأول مرة في مهرجان كان السينمائي.
وغالبية تلك الأفلام تم تناولها بالتفصيل سابقا في “رمان”، لكن الحديث ونحن نحكي السينما الفلسطينية، إلى جانب الجوائز التي استحقتها هو الحضور السينمائي نفسه، وعدد الأفلام التي رحلت من مهرجان إلى مهرجان محملة بقصص وهموم وطن مازال يعيش تحت الاحتلال، ليؤكد كل مخرج أو منتج أن للمقاومة أشكال أخرى، والسينما جزء من تلك المقاومة التي تريد إيصال المعاناة بلغة عالمية يفهمها الجميع، ولا شك أن الانتاج المستقل الذي تحرر من هيمنة المؤسسات الرسمية والأحزاب جعل للقصة الفلسطينية صداها، حيث اقتربت من بيوت الفلسطينيين، وأحلامهم وهمومهم، يحكون عن الحب بين عاشقين يفصل بينهما الجدار، ويحكون عن الطريق التي تقف في وجه الدبابات، يحكون عن الطفل الذي يولد ووالده في الأسر، عن قطع الكهرباء والحصار، يحكون كل هذا وأكثر كي يوصلوا الصوت الذي بات يخفت في حضرة كل القرارات الدولية التي تقف ضده.
الحضور السينمائي الفلسطيني بات أمراً ملفتاً، وكل عام تزيد الإنتاجات السينمائية، وهذا يؤكد على حراك يريد أن يستمر ويثبت نفسه عالمياً، وبعد سرد الأفلام الفلسطينية وحضورها في المهرجانات واقتنصاها للجوائز، لا بد من الحديث عن آخر الأفلام الفلسطينية التي تم إنتاجها وكانت حاضرة في مهرجان دبي السينمائي الذي يعتبر ختاماً لما أنتجته السينما في كل عام، الإشارة إلى أفلام كـ «واجب» و«رجل يغرق» للمخرج مهدي فليفل، تنافست أفلام أخرى في مسابقات متنوعة في المهرجان ذاته، مثل الفيلم الوثائقي «نائلة والانتفاضة» للمخرجة جوليا باشا والفيلم القصير «بونبونة» للمخرج راكان مياسي، والفيلم القصير «عبور» للمخرج أمين نايفة.
صناعة الفيلم الوثائقي الفلسطيني دخل في مجال تطور غير مسبوق، تحديداً بعد فيلمي «المطلوبون 18» للمخرج عامر الشوملي، و«اصطياد أشباح» للمخرج رائد أنضوني، وها هو فيلم «نائلة والانتفاضة» يدخل طريقة الصناعة نفسها في مزج الجرافيك مع الرسم الكرتوني إلى جانب الأداء التمثيلي والشخصيات الواقعية ليحاكي ماضياً كان، وهذا الماضي تزامن مع 30 عاماً من وقع الانتفاضة الأولى، والذي تناول التجربة الشخصية نائلة في ”الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين“، مع شبكة من النساء الفلسطينيات اللاتي أسهمن في الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى.
أهمية هذا الفيلم يكمن في كمية القصص المحكية التي قد يسمعها المتلقي ليدرك تاريخاً نضالياً كان فعالاً وحقيقياً، فكل امرأة ظهرت في الفيلم هي حكاية وطن، حكاية تشبه أي ابن لهذا الوطن. استطاعت باشا أن توثق بالصوت والصورة والتوثيق ما حدث فعلاً في تلك المرحلة، وخصوصاً دور المرأة الفلسطينية في النضال الذي لم يتهاون إلى اللحظة، وعهد التميمي الطفلة مكبلة بقيود الظلم.
وعودة لفيلم باشا، التي استطاعت من خلاله مزج الدراما مع الواقع مع الرسم الكرتوني، إيصال دور اليسار الفلسطيني في النضال الوطني بعد أن تم اختزاله حالياً في مقاومات إسلامية، لتثبت كم كان صوت المرأة عالياً وفعالاً ومقاوماً، ومن الممكن أن يلاقي الفيلم اختلافاً في وجهات النظر لكن الأكيد أنه انتصر للمرأة ودورها، وتم تجسيد الحكاية بطريقة جاذبة، تجعلك تسمع الحكاية إلى آخرها، وعلى الرغم من أن الأفلام الفلسطينية تحررت نوعاً ما من الحزبية، إلا أن هذا الفيلم أعاد الصورة إلى دور الأحزاب اليسارية تحديداً و“الجبهة الديمقراطية“ خاصة، وهو نوع من الأفلام التي لم تعد موجودة، ففكرة البطل الواحد لم تعد مجدية، بالرغم من أن باشا دمجت قصة نائلة مع قصص متلاحقة لفلسطينيات أخريات إلا أن قصتها هي التي كانت المحرك الأساسي للأحداث.
في المقابل يأتي فيلم «بونبونة» القصير مغلفاً بجمالية تستحق التقدير وجريئاً، أهميته أنه يخاطب الغرب ربما أكثر من العرب الذين من الممكن أن يروه قد تجاوز التابوه. استطاع راكان مياسي أن يختصر فكرة شعب بأكمله في دقائق معدودة، مع ممثلين محترفين هما صالح بكري ورنا علم الدين، يحكي قصة أسير يريد تهريب سائله المنوي إلى زوجته، طريقة تجسيد الحكاية وهي حكاية واقعية حدثت مرات كثيرة في فلسطين، هي التي تختصر حال الشعب، كيف يصر على استمرار الحياة، أنت ستشاهد مشهداً جنسياً كاملاً لكن بالإيماء، بسبب إصرار الزوجة على الحصول على ذلك السائل الذي يغلف أخيراً في ورق بونبونة. تعتقد أن المهمة انتهت لكن الحقيقة أنها بدأت لأن على الزوجة أن تسرع في العودة قبل مضي ست ساعات كي لا يذهب مفعول السائل، وهنا تراها ومجموعة من النسوة العائدات من زيارة الأبناء والأحباء في باص، تراها وهي تنظر إلى الساعة كل فترة، وكأن الوقت هو الذي سيكون عدوها هذه المرة، يقترب الوقت من النفاذ لكنها وبسبب إصرارها تجد الطريقة المثلى لتنفيذ المهمة في حضرة النسوة اللواتي تواطأن معها خلسة، بأن قررن النوم، وحضرة الطريق المليء بالحواجز.
فيلم يستحق التمعن بكل تفصيلة فيه، لأنه وإن كان جريئاً بالنسبة لكثيرين إلا أنه حمل فكرة لها علاقة بتحدي القهر والحرمان، والرغبة في الاستمرار، فكرة الولادة المرتبطة دائماً بالوطن.
ومن جهة أخرى يوجد الفيلم القصير أيضاً «عبور» للمخرج أمين نايفة والمنتجة مي عودة، كل شيء يتغير في آخر لقطة في الفيلم، بعد أن تتعرف على الشخصيات الرئيسية فيه، شقيقان وأختهما، يتجهزون لعبور الطرف الآخر من البلاد لملاقاة جدهم، بعد أن حصلوا أخيراً على تصريح للزيارة، ستتعرف في هذا الفيلم على المحك الذي يجعل كل شخصية في الفيلم تعبر إلى مرحلة أخرى، فالعبور هنا لا يكمن بالطريق بل بالنفس، وما يطرأ عليها. في هذا الفيلم قهر من نوع آخر، وبناء لمشاعر تتراكم في القلب، التصريح تمت الموافقة عليه لأن الجد ببساطة توفى، وهذا هو الشرط الوحيد الذي يسمح لك بالزيارة، فلا وجود لمعنى الحياة مع العدو، أنت تعبر كي تدفن الأحباء فقط. اللحظة الفارقة تكون عندما اكتشف الشقيقان الأصغر هذه الحقيقة، ونظرة كل واحد منهما إلى الطريق، تحديداً الأخ الذي لم يتوقف عن المزاح والضحك، العبور هنا هو الطريق الذي نصنعه لندرك أن من الصعب أن يكون الشخص في كثير من محطات الحياة فلسطينياً.
في النهاية، كان للحضور السينمائي الفلسطيني ألقه وقصصه التي تتطور كل عام أكثر وأكثر، وتجد من يفهمها ويقدّرها ويعرضها ويمنحها الجوائز.