قبو السنوات الكبيسة
استلهم ناقد أكاديمي حوليّاتِ زهير بن أبي سلمى، وصنّف الأعمال الأدبية تصنيفاً زمانياً، بحسب أيام السنة التي نُشرت فيها، فقسّمها في بناء خيالي يضمّ 365 قاعة وقبواً للسنوات الكبيسة، وكلٌ منها على حِدة تفيض سنوياً بما لا طاقة لأحد على مجرد الإلمام به.
لدى شرائح متباينة من السوريين هوسٌ بتصنيف بعضهم البعض، بعدما انقسموا مذاهب وأنساباً وتشعّبت خصوماتهم وجدالاتهم، وفي غمار تشاجرهم على حصصهم من الأوهام ومشقّاتِ اتّفاقهم على أي تصنيف وضروراته، تأتي خلافاتهم حول الأدب ومعناه أو تعريفه أو واجباته، فما تعدّه جماعةٌ منهم صفوة الكتابة السورية، قد لا تعتبره جماعةٌ أخرى إلا “مجرد زبالة”. هذه المقاربة الأخيرة مربكة وربما محبطة، لأن أي تصنيف، في جوهره، قاصرٌ وغيرُ مرضٍ. ففي خضم الموت والنجاة السوريين العشوائيين، سادتْ أولاً الحاجة إلى أهداف محدّدة، تلخّص بعضها لاحقاً في توثيق الآلام وتدوين الشهادات حول التجربة الإنسانية الفريدة أو المريعة، ولكن ظل سؤال كبير معلقاً طوال الوقت أمام الفوضى الكبرى: علام سنعوّل في التقويم الأدبي، وأي مقياس سيُعتمد وقد تهدّمت المركزية الثقافية، أو خسرت المرجعيات ألقها وسطوتها؟ المتسائل تجفله كثرة الأسماء التي يجهلها ولا يستطيع أن يقرأها، وقد لا يعلم في حيرته من أين سيبدأ في هذا المتاه الأدبي، أو ماذا سيتابع من الإصدارات جديدها وقديمها. لا مفرّ من التصنيف، مهما قيل إن ساعة الترتيب العظيم المؤجّل لم تحن بعد. يُنصح المتعجّلون بالتريث، لكيلا ينسوا أن ما مِن أحد مخوّلاً بإصدار أحكام قاطعة، وإن الساخرين لبالمرصاد، وليتواصل انتظار ما سيسفر عنه هذا المخاض الدامي، إذ لا شيء يتأسس في المنعطفات ولا تبنى منازل على الجسور. لا يخفى على أحد إن سمة الوعي السائد حالياً هي البلبلة. قد تبقى فوضى الكتابات هذه على حالها من الارتجال، وتستمر بالتوسع الاعتباطي، وقد لا يقرأ نتاجها إلا القلّة، ليتحوّل معظمها إلى توغّل في ذاكرة الدم وركودٍ مديد وسط الأنقاض.
المتاهة المقصوفة
على أية حال، لنتخيل قاعاتٍ مخصصةً لأرشفة الأدب السوري، لم يتسنّ لمحمد كامل الخطيب البدء بالعمل عليها. هذا المبنى وهميّ، لا لأن سوريا التي عرفناها اختفت أو سوف تختفي، بل لأن القسم الأعظم من الوثائق والشهادات منشور إلكترونياً، واستحالت أرشيفاً مطموراً في غياهب المدوّنات ومواقع الإنترنت المختلفة وصفحات الفيسبوك وسواها، وقد تتحوّل هذه الخامات الغزيرة إلى ثروة للمستقبل مثل عظام الديناصورات في صحراء العرب. لكن الصرامة البيروقراطية تقتضي أن لكل شيء مطرحه ومكانته، فقد تعتمد هذه التصانيف معجماً يضمّ كل الأسماء الأدبية السورية بعد فهرستها أبجدياً، أو دائرة معارف جنّد المؤمنون بها كلّ طاقاتهم لتأريخ اللحظة، على ألا ينقصها نُحاةٌ مدقّقون.
القاعة الكبرى لأدب السجون. عُلِقتْ على بابها قوقعة سوداء من شرق المتوسط، وتتضمن قسماً لكتابات السوريين الموقوفين، عبر نقاط التفتيش أو الحدود في العالم أجمع، فقط لأنهم سوريون لا غير. على رفوفها تتجاور أعمال كتبها سوريون معتقلون، أو جمعوها وترجموها أثناء مقارنتهم أحوالهم بمصائب غيرهم من البشر في العصور الحديثة، ومحاولاتهم استيعاب تجربتهم على ضوء تجارب الآخرين وأهوالهم. وحين يتناول قارئ مستقبلي رواية «القوقعة»، المرتّبة بين كتابَي «عينك على السفينة» لمي الحافظ و«قصر شمعايا» لعلي الكردي، ثم يقلب الصفحات ليتقرّى فظاعات الماضي آملاً بفهم محتمل لحاضره، فقد يكتشف إن مجهولين قد غيّروا الأغلفة التي صمّمها يوسف عبدلكي، لأن المحتوى هو كتاب «سبعة آلاف يوم في سيبيريا».
قاعة الشعر. تقع في ثلاث حجرات: الحجرة الأولى للشعر العمودي، علامتها المسجّلة هي الطلقة التي أصابت بدوي الجبل ولم تقتله، تعلوها عنكبوت تخيلها نديم محمد وهي تصطاد فراشة؛ الحجرة الثانية لشعر التفعيلة، وعلامتها زهرة ياسمين على سلّم موسيقي؛ الحجرة الثالثة لقصيدة النثر وعلامتها مدفأة المازوت، فحميميتها تدلّ على سوريا التي تخيلها رياض الصالح الحسين كمدفأة في كانون، أو بالأحرى المدفأة التي انتسب بسببها محمد الماغوط إلى الحزب القومي السوري.
قاعة الرواية. أشدّها ازدحاماً هذه الأيام. علامتها غليون وليد إخلاصي، وقد كتب تحته ”هذا ليس غليوناً“، ودخانه يخرج عبر نافذة يأتي منها الثلج.
قاعة الأدب الساخر. علامتها الأرجوحة، ركبها صحفيون وكتّاب هزليون ذهاباً من وزارة الثقافة السورية واتحاد الكتاب العرب، فركوباً تالياً لأمواج الإعلام البديل التي تموّلها دول الخليج والمنظمات غير الحكومية.
قاعة المسرح. عُلقت فوق بابها منمنمة تحاكي شخوصها رسوم أبو صبحي التيناوي، وفي مركزها أبو خليل القباني يشيح عن الرأس المقطوع للمملوك جابر، وفي زاويتها اليمنى ابن خلدون يفسّر نكسة حزيران لسعد الله ونوس، وفي زاويتها اليسرى فواز الساجر يشير لفرحان بلبل إلى سيجار بريشت. تضم هذه القاعة مؤلفات لاجئين سوريين مستلهمة من شكسبير والمآسي الإغريقية والسورية.
القاعة الصغرى مخصصة للقصة القصيرة. العلامة فوق بابها هي نمور زكريا تامر المرسومة على بطانية تغطّي سرير سعيد حورانية الذي يئنّ، السرير خاوٍ في غرفة منامة داخل قطار جورج سالم الذي يجتاز ليلاً مؤبَداً، في رحلةٍ لا بداية لها ولا نهاية.
القبو مخصص للكتابات التي لا يمكن تصنيفها، وهو الجناح الأضخم بطبيعة الحال لأن أعمالاً كثيرة جداً تظل عصية على أي تأطير. يلحق بهذا القبو مستودع ضيق للسيرة الذاتية، وعلامته جندب من حديد لا يصدأ تحت مطر الشتائم التي جدّف بها سوريون ضد العالم بأسره وتحت الدموع التي ذرفوها.
كثيراً ما صُنّف الأدب السوري بحسب أمكنته وأحقابه أو أجياله، ولعلهما الطريقتان الأكثر شيوعاً، وقلما قُورِب بحسب لغاته، إذا استثنينا المتحيّزين القوميين، وعليه فسوف نصادف، ضمن المبنى الوهمي ذاته، قاعة الأدب الكردي وعلامته جكر خوين الجالس تحت شجرة بُطم، متسائلاً: “مَن أنا؟”، وسيرمز إلى الأدب السرياني بطائرٍ على شكل صليب تخيله مار أفرام دكتور الكنيسة ابن نصيبين، وسيرمز إلى الأدب الآشوري بثعبان يأكل عشبة الخلود، وإلى الأدب الشركسي بسيف نارت، وإلى الأدب الآرامي بشجرة مشمش مزهرة في دير مار تقلا، وإلى الأدب العربي بمنارات الجامع الأموي. مثل هذه التصانيف السابقة لا تقلّ عبثاً عن الكثير من شبيهاتها التي تدّعي الجدية والموضوعية، من قبيل تقسيم الأدب السوري بحسب الطوائف والديانات، أو الموالاة والمعارضة، أو الداخل والخارج، أو تجزئته إلى آداب تحمل سمات: اللجوء، الثورة، المنفى، التطبيع، المرأة السورية…
نموذج صغير
في الهوس الإعلامي بالقوائم ومن يتربّع على رؤوسها، في أوروبا وأمريكا، وصداه في العالم العربي من هوس مستجدّ بالأفضلية والنجومية، يُطرح دوماً سؤال أي كتاب هو الأهم والأشمل تمثيلاً لسوريا. تُقرأ بعض الكتب بدءاً من صفحتها الأخيرة. التعاريف الملحقة ببعض الكتب السورية المترجمة إلى لغات أوروبية، أو الكتب المكتوبة حول سوريا، عادةً ما يتمّ إعدادها من قبل الناشرين ليفهم القراء ما يلتبس عليهم في سياق الشهادات المُدوّنة. إليكم قبسات من الملحق في نهاية كتاب «أنا آتٍ من حلب» الذي أعدّته بالفرنسية لورانس دو كامبرون عن مقابلات مع جود جسومة.
-الأكراد: أغلبيتهم سنّة، عددهم في سورية مليون نسمة. إنهم شعب قريب من الثقافة الإيرانية، وله لغته الخاصة، ونمط حياته أقرب إلى الغرب منه إلى الشرق.
-الدروز: مسلمون، ولكنهم فرع من الطائفة الإسماعيلية، ولا يعترف بهم السنّة ولا الشيعة. موطنهم في جنوب سوريا وجنوب لبنان وشمال إسرائيل. ليس لديهم مساجد ويؤمنون بالتقمص.
أما المسيحيون فهناك ملاحظة أوردها التعريف الخاص بهم، وهي تستحق الاهتمام فعلاً: “إنهم مندمجون داخل المجتمع السوري ويتكلمون اللغة العربية“.
متفلسفون هاربون
في التلمود، مَن يطرح سؤالاً يحكم عليه بالتساؤل مدى الدهر، لأن كلمة “الجواب” تنطوي في معانيها على طرح “سؤال آخر”، وهكذا إلى أبد الآبدين. ماذا لو سألنا: هل الزيف مثمر، والحقيقة عقيمة بشعة؟ لسنا مجهزين بأية عدة للإجابة على عدد هائل من الأسئلة. في الأدب، قد يكون الخطأ منجاة والصواب تهلكة. بعض الحقائق القديمة التي تأسست عليها حياتنا صارت أخطاء، واستمرّت أيامنا مرتكزة إلى أخطاء أخرى نجهلها، وأحياناً ندركها جيداً ولا نصححها أبداً. مرهق هو الحديث المستمر عن المعنى والجدوى، أو الأمل والتفاؤل، والمنغّص أحياناً هو أن متصيّدي أخطائنا لا يشرحونها بطريقة صحيحة.
لولا الأوهام، كيف كنا سننعم بلحظات نادرة من السكينة أو المتعة؟ نحن جميعاً نخدع أنفسنا بأكثر الطرق حميمية، وربما صفاقة أيضاً. لهذه الحيل، رغم لا منطقيتها الصريحة، منفعة عظمى أمام أفكار الموت والوحدة العميقة التي تساورنا، في السهرات والأماكن العامة، في الغرف المستأجرة، أمام موظفي الدول ورجال الشرطة، ومثلها في المنفعة قبولنا بالزيف كجزء من الواقع لا صلة له بأية حقيقة ولا بالطريق إلى أية حقيقة. نحن غالباً نعيش بدائل الأشياء التي فكرنا بها وحلمنا. عشنا حياة أخرى عوضاً عن تلك التي راودت آمالنا، أخفينا الطبقات التي انحدرنا منها كالدموع إلى حضيض العالم، تجاهلنا وتناسينا الكثير لتغدو حياتنا العادية قابلة لأن تُعاش، وادّعينا إننا قد فهمنا ما لا نفهمه. شهوداً وشهداء ومشاهدين، آمنا بأشياء لا نراها وتستحيل البرهنة عليها، ولا ضمانات لتحققها إطلاقاً. شجّعنا أصدقاءَنا كما يُشجّع الأطفال والسكارى لينهضوا على أقدامهم ويمشوا ويواصلوا الطريق، وشهدنا كيف عُومل المجرمون كأنهم مرضى، وكيف انتظر الأمريكان كأنهم المنقذون، وكيف امتدح الإسلاميون والجهاديّون كأنهم وجهٌ من وجوه الثورة السورية.
سلكنا طرقاً ممهَدة، وكانت هناك طرق لا متناهية للاقتراب من العالم غير المفهوم. ربما لا أحد سوى المجانين تصدى لمهمة الإحاطة بالواقع وتقلباته. لكننا مثلهم تصرفنا وكأن العالم مطابق لتصوراتنا وفرضياتنا حقاً. وإذا كان ثمة معنى أصيل لمعنى “هدف” أو “طموح”، فإننا نسعى دائماً إلى أهداف خيالية لا تتحقق أبداً، وما نصل إليه ليس إلا هوامش ما أردنا الوصول إليه. أوهمنا أنفسنا بالحرية وكأن ما اعتنقناه هو الحقيقي والواقعي معاً، لأن الجميع يخشى صفة الحالم ويتهرب من وصمة الرومانتيكية. تأقلمنا وتصرفنا كأن شيئاً لم يكن، كأن الرضوض لم تنل من أرواحنا، وكأننا لسنا هنا ولا هناك، كأننا سنبقى في قيد الحياة غداً وبعد غد، وسوف نعود إلى بلداننا. ثم أكملنا تيهنا وكأن تجاربنا هذه المرة هي الحقائق. ردّد بعضنا “تصرف كأنك لم تخسر ولم تُوبّخْ ولم تُهن”، وردّد غيرهم “لا إمام سوى العقل”، ولم تكن هذه العقلنة إلا قولبة أخرى نتشبّث في إطارها بالصحة الموضوعية ونطارد الحقيقة، حتى لو كان ثمة في الأدب أشياء كثيرة لا يفهمها عقل ولا يقبلها منطق. ربما الأحاسيس والمشاعر وحدها حقيقية، أما الذكريات والكتابة والتفكير فاختلاقات تتوهّم مطابقة الواقع، ولا تضع الابتكار، أو التلفيق بمعناه الخلّاق، في المقام الأول. نخترع القصص لننجو ونلهو، حتى لو زيّفنا هذه الأحجية المسماة الواقع، بتعقيداته التي تفوق مقدرتنا على الفهم، لنختلق بلاداً ثانية ونبتدع بلادنا الأولى من رميمها.
راجعاً من كاف محمد الماغوط المسرف في التشابيه إلى كاف النفري الذي قال: “وقال لي ليس الكافُ تشبيهاً هي حقيقةٌ أنتَ لا تعرفها إلا بتشبيه”، أستعيد هنا مثالاً شعرياً يتجلى واضحاً في أنظمة الحكم الدكتاتورية، وينسحب على الكثير من أهل الشتات، وأعني به مبدأ كولريدج في “تعليق عدم التصديق” عند مقاربة الغرائبي، والغرائبي وجه من وجوه الواقعي في الحالة السورية. يقال إن أباً قد أورث أبناءه الثلاثة سبع عشرة ناقة. الوصية خصّت الابن الأكبر بنصف العدد، والأوسط بالثلث، والأصغر بالتسع. احتاروا كيف سيتقاسمون التركة. مرّ بهم شيخ أعانهم على الحلّ. أناخ ناقته، وأضافها إلى قطيع الميراث لينال الأكبر تسعاً من النوق، والأوسط ستّاً، والأصغر اثنتين. ثم امتطى الشيخ ناقته التي كانت جزءاً من الحل وأكمل طريقه، جزءاً خيالياً من رقم خيالي. تركة المأساة في الأدب ينقصها أمثال هذا البدوي وناقته التي حلّ بها المعضلة وأكمل ترحاله.
(ملاحظة: بضع أفكارٍ في القسم الأخير من هذا المقال مستقاة من أعمال الفيلسوفين الإنكليزي جيرمي بنثام والألماني هانز فايهينغر، ولا سيما مؤلَّف الأخير “فلسفة كأنّ” (1911)، وهو عمل تداركته الحرب العالمية الأولى ولم يأبه به الفلاسفة، لكنه ينسجم مع أعمال الفنان السوري دينو أحمد علي، تحديداً لوحاته الرقمية المنفذة بتقنية الخداع البصري، والمرافقة لمواد ملف “الأدب السوريّ اليوم”.)