استيقظتْ أخيرًا بعد تكاسل ساعتين، على السرير الذي بات لها وحدها الآن، والملاءة الصفراء التي طالما تشرّبت بعرقهما. فتحت عينيها وتسارعت دقّات قلبها لبدء يومٍ جديد. عدّلت وضعية استلقائها، رفعت رجلاً فوق رجل، القدم اليمنى استقرت على الركبة اليسرى. من هنا، كانت ترى كل شيءٍ مرتين، مرةً أمامها ومرة في المرآة الكبيرة على الحائط مقابل السرير. في قدمها اليمنى خلخالٌ بسيط؛ خيطٌ واحدٌ لا رفيع ولا سميك من الفضّة الغامقة، ومربّعٌ صغيرٌ يتدلى بعبارة “امسك الخشب”.
في هدوءٍ استلقت تتابع دقّات قلبها، يدهشها دومًا كيف يفور الدم في عروقها لحظة أن تفتح عينيها. تقارنه بمولودٍ حديثٍ تأذنُ الحياة لرئتيه بالعمل فور خروجه من الرحم. وهي من رحم النوم، الموت المؤقت والأحلام، تخرج كلّ صباحٍ جاهزةً لأنفاسٍ جديدة.
كعبُها هناك آخر الخلخال. كعبها المتعب من مشي الصيف الطويل في بلدٍ غريب. كعبها الذي أخبرها عشاقها السابقون جميعًا بأنه ناعمٌ كخدٍّ حنون، لم يعدْ من السفر الأخير سالمًا؛ خدوشُ الطريق، خشونة القلب، وثقل جسدٍ مُضنى بالجراح والأفكار.
كانت ترى كل شيءٍ مرتين. وقف خلفها أمام هذه المرآة مراتٍ كثيرة. في أحيانٍ احتضنها. وفي أحيان، ترك قبلةً على بطنها أو علّق على نقصان وزنها أو اختال بجسده المشدود وصدره الواسع. وفي أحيانٍ، كانت ذراعاه على خصرها، يثبّت وقفتها، صدره المتعرق يبلّل ظهرها، يراقب وجهها، تموء وتتلوّى لما يفعله بها. يتعاقب عليها بتصميم، وهي تلفّ وجهها بكل ما تستطيع من مرونة لتخطف قبلة حيوان هائج. كانت ترى كل شيءٍ مرتين، لكنها تشكّ الآن في ما رأته. هل حدث ذلك أمام مرآةٍ أخرى؟
تتحسس الملاءة الصفراء. تستثيرها نسائم الخريف، هي التي قررت منذ مدّة التخلي عن الملابس الداخلية أثناء النوم. جسدها بحاجةٍ لأنفاس جديدة كل يوم أيضًا. تتحسّس الملاءة الصفراء وتضيق أنفاسها شيئًا فشيئًا. صور قبيحة ترسلها المرآة إليها الآن، تخطر على بالها كلمةٌ واحدةٌ لا أكثر ولا أقل، تفكّر فيها ولا تنطقها أو تكتبها.
لأشهرٍ كان هذا أول ما تفكّر به كل صباح. تسأل نفسها عن الكلمة، وتستعجب لأنها لا تجد تعبيرًا آخر عنوانًا لحكايتها. الأصوات الساكنة في الرأس تتجادل. تتفلسف. تتقارع لتحلّل معنى الكلمة، درجاتها، إمكاناتها، ومدى مناسبتها أو مطابقتها لما حدث، لما تشعر به. لكنها وهي تلتقط أنفاسها الضيقة تدرك أنها على حق.
مرت سنةٌ وخمسة أشهرٍ على تلك الليلة التي ضاجعته فيها بكلّ ما أوتيت من غضبٍ وحزنٍ وذهول، وعلى نفس الملاءة الصفراء. بكل ما حملته من غريزة الحيوان امتطته وتركت له جسدها ليمتطيها. عضّت شفتيه وغرزت أظافرها في جلده، صرخت حين ولجها. تلك الليلة، كانت تسعة أشهرٍ قد مرّت على وجودهما معًا.
تركّز هي في التواريخ والذكريات، وفي الكلمات. تتمنى أحيانًا لو أنها لا تذكر، لو أنها حقًا تنسى أعياد الميلاد وتواريخ المحادثات والزيارات والقبلات المسروقة والمواجهات البائسة؛ تحملها حجرًا ثقيلًا على صدرها. تتمنى حقًا لو أنها تفقدُ تلك الكلمات التي صادفتها يومًا. كلماتٌ كثيرة، كلماتٌ يومية، كلماتٌ بخط اليد، كلماتٌ من نرجسيةٍ صافية تروي تفاصيل خدعة كبيرة. الكلمات تصنع جملًا، والجمل تنحفر على عدستي عينها، وتحملها كحائط صدّ ضد كل محاولات النسيان.
كان هو يذكر أيضًا. كان يذكر ما يريد، ولا يحتفظ بالذكرى لنفسه. كان يذكر، ويفرض الذكرى عليها. يعيدها مربعاتٍ إلى الوراء. عليها أن تذكر. عليها أن تظلّ هنا أمام مرآتي المفضّلة ريثما أخرج في رحلات صيدي الطويلة ثم أعود نظيفًا كأن ما جرى شيء.
تسترجع تلك الليلة بوضوح في ذاكرتها الآمنة الآن، لم يعد هناك ليُقحم ذكراه عليها. تلك الليلة، كانت تسعة أشهرٍ مرّت على وجودهما معًا. كان يَلجها وكانت تذوب في الذكرى كحضنٍ أخير قبل وداع مهاجرٍ لن يعود. كان يَلجها، وكانت تكرّ الأيام في رأسها. كرّت المرّات الساحرات، الرسائل والهدايا، تجاربها لقمصان النوم الخليعة، زوايا البيت جميعها التي عرفت رائحة الشهوة بينهما. كان يَلجها وكانت تدمع إلى أن انتهى داخلها.
كانت تحبّه، تفكّر اليوم وهي تتحسس تلك الملاءة. كانت تحبّه، وكان يصيبها بالذهول مرّةً بعد مرّةً. كانت تحبّه فتكلّمت بهدوءٍ مدروس. كتبت ما ستقوله في اليومين السابقين. تمرّنت أمام المرآة طويلاً لكي لا تضلّ الطريق.
كان مرتاحاً بعد لهاثٍ على الوسادة. الضوء أصفر خافت، رأسها بمحاذاة رأسه، عيناها تحدقان فيه، يدها ترتاح على بطنه الحبيب، وقطرات العرق تنحدر منهما، بنفس البطء، على الأصفر الممتد تحتهما.
كانت تحبّه فتكلمت بحذر، وكان شاخصًا ومذنبًا فاعتذر. لم تنطق الكلمة حينها. سمّت ما حدث كلّ اسمٍ ممكن عدا تلك الكلمة. أبقتها بعيدةً عن لسانها، قلبها، دموعها، وسريرها، لتبقى هي ويبقى هو. كانت كلمةً واحدةً فقط، لكنها أدركت أن النطق بها سيغير كلّ شيء فصمتت. تلقّت اعتذاره بالدموع. تلقت وعده بالأمل. تلقت قبلاته وولوجه مرّةً أخرى بالسماح. كانت تحبّه فصدقت بالحب أكثر مما صدّقت نفسها. صمتت.
صمتت هي وحاولت معه من جديد. وصمت هو ليحتفظ بصورتهما أمام المرآة أطول وقتٍ ممكن. صمت عن الكلمات المكتوبة فقط. لم يكترث حقًا، كما لم تكترث هي، لقلبها. ولمراتٍ ومراتٍ بعدها، ظلّ يغادر ويعود، ويغادر ويعود، مورّمًا شفتيه بشفتيها، معريًا صدره الواسع المكتنز بالأكاذيب.
الشمس تستوي في السماء خارج نافذتها، والريحانة تطلّ من نفس النافذة عليها، تطلب الماء والعناية، وهي ما تزال تحدّق في المرآة. تنظر للخلخال. تتبع الظاهر من جلدها. القدمان فالساقان فالفخذان. تتخيل الباقي تحت قميص النوم البنفسجي حتى رأس صدرها. وحدها في السرير هذه المرّة. على نفس الملاءة، امرأةٌ أخرى الآن، دون دموع ودون خوف ودون صمت. تتنفس فقط وتفكّر.
مرت سنةٌ وخمسة أشهرٍ على تلك الليلة، ومرت الليالي ليلةً ليلةً على كل ما تلاها. هي الآن بعيدة، تتمدّد في الصباح، وتكتب قصّتها دون حذر. تشعر بالصّدق يملؤها، والتصديق بقلبها شفاؤها.
تكتب قصتها باختصار. لا تحتاج لدلائل أو براهين وقلبها موجود. لا تحتاج للإقناع لتحكي ما عاشته. لن تكفي أية تفاصيل لشرح ما حدث.
تكتب قصّتها بهدوءٍ ورضا. تسميها “خيانة”. وتدرك أنها تصنع النهاية اللائقة بكلّ ما حملته من حبّ وكلّ ما أضاعه من أمل.