في «آخر أيام المدينة»، يحاول المخرج إعادة بناء الصور والذكريات لمدينته قبل بدء الربيع العربي في عام 2011، وكأنه رجل فاقد للذاكرة، يتأرجح بين خيوط الماضي والحاضر، محاولاً إستذكار ما تبقى من هذه المدينة قبل هذا العام. على الرغم من عدم لجوء البطل خارج مصر إلا أنه يعبر بإستمرار عن شعوره بنوستالجيا للوطن وبشعوره المستمر بالفقد وكأن الذاكرة التي يحاول استحضارها هي ذاكرة المنفى والتي تكون في العادة مليئة بالحنين وبالصورة الرومانسية عن الوطن.
وكأن هناك نوعان من الذاكرة: الذاكرة الفعلية والذاكرة “المصنوعة” والتي يذهب بها البطل إلى اختيار صور محددة من الماضي والتمسك بها. تُصنع الذكريات في الفيلم “بإنتقاء كامل الوعي” فعلى سبيل المثال، يُستحضر مشهد جلسة الأصدقاء في مقهى شعبي كأحد الأمثلة على بناء الذكريات. يجلس الأصدقاء من بغداد وبيروت ومصر في مقهى في القاهرة يشربون الشاي ويتحدثون عن مدنهم، يضحكون على بعض تفاصيل حياتهم، وسط خلفية موسيقية لأغاني أم كلثوم، بينما يوثق أحد أفراد المجموعة هذه اللحظات عبر كاميرته في محاولة واعية “لصناعة” صور هذه الذكرى المرغوبة.
المدينة “لحظة”، “صديق” أم “شريط صور” ؟
يذهب البطل إلى الحفر في احتمالات معنى المدينة مسائلاً علاقته بالمكان حيث نتلمس من خلال مشاهد الفيلم اغترابه عن المكان من داخل المكان فهو يسكن في القاهرة لكنه يعاني من الفقد والبعد المستمر. في حوار مع أصدقائه حول معاني المدينة، عُرّفت المدينة على أنها “لحظة” رغم أشلاء الجثث وضجيج الحرب في بغداد أو “صديق” بالنسبة لصديقه العراقي الذي يسكن في غربته البرلينية. أما بالنسبة للبطل فهو يقلّب بين صور الماضي حيث تتأرجح ذاكرته بين صور أحداث أليمة لعائلته، وصورة حبيبته، وأصدقائه من لبنان والعراق، أمه، شوارع المدينة، مظاهراتها قبيل الثورة، بائعي العربيات المتنقلة. فهو يحاول أن يستشعر جمال الأشياء ببطء وتروّي وتمعّن في حالة تأملية مع المدينة، ويتمسك بأي شيء يقدم له معنى فالبطل في تيه مستمر ورحلة بحث متواصلة عن الصور وعن ربطها وعن خلق المعنى.
وفي عالم ما بعد الحداثة حيث تتشابه المدن وتفقد كل منها فردانيتها، تتشابه العواصم وتُعَمّم المحال التجارية العالمية وتغزو الرأسمالية شاشات “النيون” المركبة على المباني، يصبح الوطن أيضاً ما بعد حداثي وكأنه معلب في صور جاهزة عن الوطن. وفي هذا الشأن يقول الفيلسوف الألماني أدورنو أن “الحياة مضغوطة في قوالب جاهزة في بيوت مصنعة مسبقاً وبالتالي فإن كل ما يمكن للمرء أن يقوله أو يفكر به أُنتِجَ ليستقر في شكل شيء قابل للتحويل إلى سلعة، مثله في ذلك مثل كل الأشياء الأخرى.” (تأملات في المنفى لإدوارد سعيد، ترجمة نهاد سالم ص 24).
ينطبق هذا الطرح على بعض الأمثلة المشابهة في حالة الشتات الفلسطيني حيث أصبحت صور الثوب الفلسطيني أو الخبز على الحطب مع الزعتر واللبنة أو الكوفية الفلسطينية صوراً شائعة حتى استُهلكَت وباتت كليشهات جاهزة تَختزل مشاعر الفلسطيني في المنفى وتُستَخدم عند رغبته في استرجاع مشاعر الحنين للوطن. لا يعني ذلك بالضرورة أن هذه الرموز الثقافية ليست جزءاً لا يتجزأ من معاني الوطن إلا أنها ربما تشكل “الفهم الطفولي” للوطن فإن لم تتطور وتنضج مع صراعات الوطن تبقى هذه الصور غير مكتملة ولا تؤول إلى نضج متكامل في العلاقة مع الوطن.
يتخذ هذا المفهوم أهمية مطّردة أيضاً في سياق موجة الهجرة العربية وتحديداً السورية إلى برلين كمكان المنفى الجديد وخاصة أن برلين جزء من أمكنة تصوير الفيلم وأنها كانت أول مدينة يُعرض فيها الفيلم. وبالتالي قد تتموج معاني المنفى في المشهد البرليني الحالي بين تكثيف لصور الحنين الرومانسية والمبالغة للمدينة الأم إلى إعادة إكتشاف معاني المدينة الأصلية إثر تفكيك عناصر المكان الجديد وتبلور معان جديدة ومختلفة تجاه المدينة الأم.
أما بالعودة إلى القاهرة، فتتسع رقعة التعريف وتتجاوز التحديد فربما جاء الوصف الذهبي الذي يلخص طبيعة هذه المدينة على لسان الصديق اللبناني للبطل في الفيلم “القاهرة عاملة زي شريط صور ورا صور ورا صور لدرجة بتوصل مرحلة بتبطل تقدر تشوف.“
هكذا بالضبط أرى أنا القاهرة أيضاً وتحديدا في سياق الفيلم حيث يحاول البطل البحث عن صور وقصص لا يوجد لها علاقة ببعضها فقط لخلق المعنى. وفي سياق أبعد من ذلك، كأن المعنى مفتوح وواسع بكل تفاصيله أو لا يمكن فهمه أو بلوغه. نحن نحب المدينة لكننا غير قادرين على فهمها تماماً كإحدى القصص الرمزية التي سُردَت داخل الفيلم : قصة السلطان والفلاح والوزير الذين حلّقوا في السماء للوصول إلى “الشمس” ولم يستطيعوا أبداً الوصول إليها.
وطن ”لطيف”
صورة الحبيبة، لحظة فوز المنتخب المصري، شوارع القاهرة، بائع البالونات، الأصدقاء في المقهى الشعبي، أغاني أم كلثوم، جميعها صور جميلة تكتسح جزءاً كبيراً من الفيلم. يتمسك البطل بهذه الصور والذكريات الجميلة حتى يبدو أنه عالق بها لا يمكن التقدم إلى الأمام ولا الرجوع إلى الوراء، فيكون وطنه “لطيف” وجميل ولكن ماذا بعد ذلك؟
تسيطر هذه الصور والذكريات على البطل حتى أنه يصبح مشلولاً عاجزاً عن إحداث أي تغيير للوضع الراهن، تماماً مثل “الستاتوس كو” الذي يسيطر على مصر إبان حكم مبارك أي فترة أحداث الفيلم. بالفعل، يظهر ذلك بشكل جلي في الفيلم من خلال استخدام الراديو كخلفية صوتية بين الفينة والأخرى لنستمع إلى أخبار سياسية مصحوبة بلوازم كلامية ومصطلحات متكررة ومهترئة عن “السلام في الشرق الأوسط” و”التنمية” و”خدمة المواطن المصري” التي لم تثبت قط مصداقيتها ولكنها فقط تحافظ على الوضع الفاسد كما هو.
يحاذي ذلك بالطبع قصة البطل داخل الفيلم والذي يقضي معظم أوقات الفيلم في البحث المتكرر عن شقة والعمل على تصوير فيلم لا ينتهي، وكأنه يدور حول ذاته. يراقب البطل الأحداث في مدينته عن بعد ولا يشارك بها فنراه يراقب عراكاً بين رجل وزوجته وهو يضرب بها ويوقعها على الأرض من دون أن يقوم هو بأي تدخل أو مساعدة للمرأة. حتى على المستوى البصري للفيلم، يظهر البطل بكنزة مرتبة تعلو قميصاً مكوياً بدقة في مظهر محافظ حتى أن ملامح وجهه جامدة لا تومئ بأي مشاعر.
وبالتالي، يبدو أن هذا القالب المحافظ هو “المدينة” التي يتماثل معها البطل ويصور لنا “آخر أيامها” وكأن ما حدث إثر إنتهاء فترة أحداث الفيلم أي إنتهاء فترة حكم مبارك واندلاع الربيع العربي عام 2011 أنهى علاقته بها. لا يعرف ماذا يسمي مصر بعد هذا العام لكنها لم تعد “المدينة” التي يريد.
بيد أننا لسنا في موقع تقييم من كان مؤيد لثورة المصريين أو معارض أو حتى ممن يؤمنون أنها ليست “ثورة” في الأساس إلا أن فعل المقاومة بحد ذاته هو فعل ضروري وصحي في عملية نمو وتطور العلاقة مع الوطن وأن الأنظمة الفاسدة لا يمكن أن تستمر في البقاء. وتكمن الإشكالية في الفيلم أن البطل لم يبد أي رغبة في تغيير الوضع الراهن طوال مدة الفيلم ولم يجرؤ حتى على محاولة التدخل أو المشاركة في التغيير فاستمر في المحافظة على “استقرار” الوضع رغم إدراكه لمدى سوئه.
التموج في الزمن
كان للزمن دور كبير في محاولة فهم المدينة ففي مشاهد الفيلم يتأرجح المخرج بين الماضي والحاضر في محاولة تصوير حالة المنفى التي يعاني منها البطل. بالفعل، تكثر اللقطات التي تتسم بعدم التطابق الزمني بين الصوت والصورة حيث كنا نرى صورة الأصدقاء أو المحبوبة بصمت مع أننا على المستوى الصوتي نسمع حواراتهم ولكن بدون تطابق بصري وصوتي وكأن حواراتهم في الماضي تغزو حضورهم الحالي في فجوة بين الماضي والحاضر، وكأن البطل عالق في الماضي، ضائع في منفاه، يبحث عن المعنى الذي فقده للمدينة.
وفي تارة أخرى، يلجأ المخرج إلى إستخدام أسلوب التأمل والوعي التام في التصوير (Mindfulness)، وهو ربما جُل ما يميز هذا الفيلم عن غيره. يستهلك المخرج بضع دقائق فقط لتصوير حركة الأشياء والشعور بها ببطء بتجلي حضورها فمثلاً نراه يأخذ بعض الدقائق ليصور لنا عملية تحلل الشاي في الكأس الشفافة فنرى عملية ذوبان حبيبات السكر في قاع الكأس وهي تنصهر مع الماء ببطء ومن ثم تخمر الشاي، كما نرى مشهد آخر وهو يقطّع التفاحة بالسكين البلاستيك ويتقاسمها مع أمه لتأكلها رويدا رويداً ونرى الكاميرا تستقر بعض اللحظات الطويلة على تفاصيل وجوه أصدقاء قدامى وتدرس ثبات نظراتهم ودقتها وتستشف الأحاسيس والقصص من وراء أنفاس ملامحهم الدقيقة. يتأمل البطل في جميع تلك التفاصيل تماماً كفاقد للذاكرة يحاول إسترجاع ما فقد من معنى فتراه يحاول الإحساس بالحاضر والتأكد من أنه حقيقي قبل خسارته.
وكأن البطل بحاجة لهذه التفاصيل العادية ليأخذ نَفَساً ويعيد التوازن لنفسه، وكأن الذاكرة الجماعية المصرية بحاجة لهذا النوع من التروي والمراجعة في محاولة أخد نفس راحة بعد سبع سنوات من الضجيج وكأنها تسأل “نحن ماذا حصل معنا بالضبط؟”.
بالضبط هنا، تتجلى عبثية شيقة في موضوع التعامل مع الزمن أي أن النقطة الزمنية التي نشاهد منها الفيلم تُحدِث إختلافاً في رؤيتنا للأمور وكأن الجمهور المصري الذي يشاهد الفيلم فقد الإحساس بمعنى الحاضر من كثرة زخم الصور التي مرّت عليه خلال السنين السبعة الأخيرة، تماماً مثل البطل الذي كان يفقد الإحساس بحاضره في بعض الأحيان وهو منغمس في صور وذكريات الماضي التي تغزو مخيلته. كأن القاهرة بالفعل “شريط صور” يوحي لنا بأن التاريخ في مصر يعيد نفسه وأن هذه المدينة تحملت الكثير من الصور حتى غدت كالشمس وأجنحتنا المتكسرة، كأجنحة إيكاروس، لا تستطيع احتوائها!