تبدو ترجمة Popular Culture بالعربية وكأنها شتيمة أو تعريف يستدعي استنكاره وخاصة لدى أوساط المثقفين ومنتجي الثقافة في سياق تعريفها القديم في المنطقة الشرقية من حوض البحر المتوسط أو ما يسمى ببلاد الشام.
فقد تعلمنا وخاصة أولئك الذين عايشوا منا فترات الثمانينات من القرن الماضي أن ثمة فن وأدب ملتزم وما سواه غير ملتزم، وذلك دون أن يخبرنا أحد أو يفسر لنا بقية التعبير أو نصفه الآخر، أي بماذا يجب أن يلتزم الفن وما الذي يعتبر بالضبط خارج دائرة الالتزام؟ ما أبقى معظمنا عالقين بشكل فولكوري بمرحلة الحداثة الثقافية والتي كان يفصل فيها بشكل جلي وحاد بين الفنون “الحقيقية” وبين الفنون الهابطة والترفيهية، ولكن ومع تدافع العقود وتغير وسائط نقل الثقافات وعرض الفنون وخاصة بعد ثورة الإنترنت والهواتف الذكية، تداخلت الأمور واختلطت التصنيفات ببعضها وصار العصر الما بعد حداثي في الاستهلاك الثقافي (تبدو كلمة استهلاك أيضاً كشتيمة) عبارة عن صور إلكترونية لأمور مترابطة في أحيان قليلة وفي أحيان أخرى، وغالباً، غير مترابطة، متقطعة، لا تفضي إلى بعضها، وهي وحدات معرفية، شكلية ونصية، ما يجمعها سوياً هو الوسيط الكهرومغناطيس الذي يلملمها، فيكفي مثلاً أن نراقب واقعنا الثقافي اليومي كأفراد ندعي الثقافة الرفيعة، لنفهم أننا نقضي ساعات طويلة بصحبة فأرة الحاسوب ندحرج عبرها صفحات لا ترابط حقيقي -أو فلنقل كلاسيكي- بين مكوناتها ولا علاقة سببية واضحة بين مضامينها.. ولكنها، رغبنا أم لم نرغب، عبارة عن كولاج ما بعد حداثي يحتل جزءاً كبيراً من يومنا وواقعنا، فمن فيديو لأغنية حديثة “ضاربة” لفيديو عن مجزرة في غوطة دمشق، مروراً بنص شعري قصير على شكل ستاتوس وصولاً إلى نكتة مرسومة (كوميكس) مروراً بمراجعة مستقلة وتطوعية لفيلم وهكذا دواليك…
يشكل هذا الكولاج ويحتل اللحظة الحقيقية الوجودية للفرد الذي تتزايد وحدته وعزلته أكثر وأكثر أمام الحاسوب، ويتحول تداخل الصور هذا وتداخل الأدوات الفنية هذا إلى واقع ثقافي بحد ذاته لا يمكن للمثقف التعالي عليه طالما لم يستطع تغييره أو تبديله، فلن أبالغ إن قلت أن اللوحة المعاصرة التي تعكس حياتنا هي باستيش* من حيوات كثيرة، من صور غير أصلية، من تحويرات لأشكال وأيقونات، والأهم من ذلك بالنسبة لهذه الكتابة، من إعادة إنتاج لثقافات شعبوية قديمة بسياقات متنوعة تدب فيها حياة مفاجئة لم تعرفها من قبل أو معانٍ لم تقصدها حينها.
تجسّدَ ما أقوله أمامي في زيارتي الأخيرة للقاهرة والتي كانت الأولى بعد نهايات عام 2011 حين كان ميدان التحرير المؤدي لمنطقة “وسط البلد” يعج بالثوريين وبالأحداث التجريبية ونقاشات المقاهي والتوجس من الغد ومن الغريب.
مصر، وتحديداً القاهرة، هي المورد الأكبر لأجناس الثقافة الشعبوية للعالم العربي حيث يتجسد فيها التجاور بين الفنون المعرّفة كلاسيكياً على أنها رفيعة وتلك المعرّفة بأنها شعبوية وأحياناً هابطة، ولكن وبعد سبع سنوات تقريباً، وأنت تجلس لتحتسي بيرة ستيلا في إحدى بارات “وسط البلد” تجد نفسك لا تفكر بالرهبة والتأثر من كونك تجلس في منطقة أيقونية ثورية وإن كانت قد فشلت ثورتها، ظاهرياً على الأقل، بل تحتلك أكثر وأنت تناقش مجموعة قصصية مع كاتب مغمور تعرفت عليه للتو، فكرة الإرث الفني العظيم الذي تم إنتاجه في هذه المنطقة من القاهرة موسيقياً وسينمائياً ومسرحياً وما إلى ذلك، والذي ينعكس دون شك على النتاج الأدبي المصري الشاب والمعاصر.
تعج المنطقة بالمحال التي تبيع وسائد تحمل صور أم كلثوم وسعاد حسني وعبد الحليم حافظ وصباح، إضافة إلى فناجين القهوة والصواني و”الماچز” وأغطية الطاولة وصور التذكاريات لتحية كاريوكا وسامية جمال وماري منيب (انتبهوا لكمية النساء ضمن هذا المسح) كما تنتشر بوسترات أو بالمصرية ”أفيشات“ الأفلام الشهيرة وغير الشهيرة، الرفيعة والهابطة المليودرامية والتجريبية.
إذاً. فوسط البلد في القاهرة وبنظرة قد تبدو خارجية ورومانسية قليلاً هو انعكاس لذلك الباستيش الما بعد حداثي حيث يتداخل الواقعي والافتراضي، المعاصر والقديم، التاريخي والثوري… ولكن ما يحدث فيها أيضاً هو تجريد الإرث الفني الشعبوي الكبير من جرائمه وهفواته ودواعيه الأمنية والمخابراتية، ليصبح نوستالجيا أيقونية مطبوعة على القمصان وأجندات المراهقات وأغطية هواتفهن. يشكل وسط القاهرة إذاً ذلك الحيز الذي يلتقي فيه كتّاب الأدب الغارق في تركيبه وفنيته إلى جانب كتّاب المسلسلات والقصص عادية إلى متواضعة المستوى، وشعراء الفصحى والنثر والعامية والفنانين التشكيليين على مشاربهم ومستوياتهم. ففي أثناء جلوسك على مقهى للحديث عن غرامشي ونظرياته عن المثقف والهيمنة الثقافية، تنطلق بقربك موسيقى شعبية فضائحية من حيث القيمة النصية، ومن ثم صوت الآذان وأصوات الباعة، ومداعبات شبان يتسكعون في وسط البلد ويوزعون المدائح للعابرات، ثم ترتفع عيونك قليلاً فوق مستوى الشريط الصوتي المتداخل والمتنوع، نحو النوافذ المضاءة ولافتات الأدوار العليا من عمارات شارع شريف وقصر النيل وطلعت حرب والبستان، لتعود إلى أصل الحكاية، إلى الأذرع التي لا تزال تحتضن هذا المكان وتحافظ عليه، هنا تتخيل شركة أسطوانات كانت تدخلها أم كلثوم أو ليلى مراد لسماع أغانيها المسجلة وتوقيع العقود، ومن هنا كانت تخرج سعاد حسني بعد جلسة طويلة مع المخرج والمنتج واستلام الصيغة المعدلة والنهائية من السيناريو لفيلمها الأخير، وكذا فاتن حمامة وكذا نور الشريف وعمر الشريف ونجوم مسارح ومراقص عماد الدين والصحفيين والنقاد والنقابات المقاومة للطغيان.
في روايتي الأخيرة «يولا وأخواته» وفي إطار محاولات الشخصيات أن تجد معنى سعياً للخلاص من دوي الأفول وصخب الوحدة تلجأ… أو فلنقل ألجأ أنا ككاتب فأجعلها تحاكي شخصيات وأحداث من أفلام العصر الذهبي للسينما المصرية.. السينما التي صُنعت في هذه العمارات وهذه المكاتب… «ثرثرة فوق النيل».. «بئر الحرمان» و«الصعود إلى الهاوية».. وكأنها (أي السينما وأخواتها من صنوف الفن الشعبوي) هي عبارة عن حاوية طرية ودافئة تنتشل الشخصيات من خطر تلاشيها وهي حية.
قد يعتقد بعض المتفائلين أن عصر التداخل بين طبقات الفنون المختلفة في عصر الإنتاج والاستهلاك الفني الما بعد حداثي يذيب الفوارق الثقافية وبالتالي الاجتماعية بين البشر ولكن للأسف ليس الأمر سوى إعادة إنتاج ذات الفوارق ولكن بصيغة مجمّلة، ففي حين يستخدم المثقف -أو المبدع أيضاً- على الرصيف القاهري كافة أشكال الفن والثقافة، الشعبية منها والرفيعة، التقليدية والطلائعية، لمشروعه أو لمخزونه الحسي والوجداني، فلا يملك غير المثقف، وغالباً ابن الطبقة المهمشة والذي يشارك الأول نفس الرصيف وأحياناً نفس المقهى، أي وجهة للثقافة الرفيعة والفنون المركبة، الطلائعية أو فلنقل النخبوية.
*هو مصطلح في الفنون البصرية ما بعد الحداثوية ويعني تشكيل صورة عبر لصق عدة صور لا صلة بينها، لخلق معنى جديد لها بعد أن صارت سوية.