وعلى الرغم من التحولات الكبيرة التي حدثت في مسار تلك الثورة وأخذتها للحرب الدموية، إلا أن فيّاض في فيلمه لا يخرج عن السياق الوثائقي السوري الذي تأسس مع بدايات الثورة، وأسس له مخرجون شباب بعضهم دفع حياته ثمناً لانحيازه لثورة شعبه، أثناء توثيقه الأحداث، كحال المخرج الشاب باسل شحادة الذي قضى في مدينة حمص، ومخرجين آخرين ساهموا في صنع سينما توثق لما يحدث في سوريا، وللتحولات التي طرأت على ثورتهم، ومآساة شعبهم في مواجهة الديكتاتور، والتنظيمات المتطرفة، وكذلك التدخل الدولي في بلدهم الذي مزقته الحرب.
سينما الثورة التي قدم فيها فراس فياض، استكمالًا لما بدأه المخرجون السابقون مثل طلال ديركي وسواه، أفلاماً تسجيلية جديدة ومتطورة على صعيد الحكاية، الصورة، الرؤية، والمعالجة، استطاعت أن تصل المحافل والمهرجانات الدولية الأهم مثل صندانس، والأوسكار وغيرها، ليس لمجرد موضوعها فقط بل لتكامل عناصر الفيلم التسجيلي فيها، الفيلم الذي يقترب كثيراً من حياة شخصياته، ويشرك المشاهد بتفاصيل يومية عادية أثناء الحرب لهؤلاء الناس.
آخر الرجال
منذ لقطاته الأولى، يعرض الفيلم قسوة الحرب وضراوتها، البيوت التي تُهدم فوق رؤوس ساكنيها، الأطفال الذين يخرجون من تحت الركام أمواتاً أو شبه أحياء، ليروي ويؤسس للعلاقة التي تنشأ بين أحد الأطفال الناجين وإحدى شخصيات الدفاع المدني أو من عرفوا بأصحاب “القبعات البيضاء” العاملين في المدينة، وهم نخبة من الشباب الذين قرروا حين بدأت الحرب أن لا يحملوا السلاح، وأن يلجؤوا لإنقاذ الأرواح بدلاً من إزهاقها. في بلد أصبحت فيه مسببات الموت أكثر من دوافع الحياة.
يمتد الفيلم على مدار 110 دقيقة، وساهم في تصويره فريق “مركز حلب الإعلامي” الذي غطى أخبار المدينة على مدى سنوات الثورة السورية وتحولاتها اللاحقة. ويروي قصة أربع شخصيات من عناصر الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) الذين يجولون الأحياء الشرقية لمدينتهم، متنقلين بين المواقع التي يستهدفها النظام السوري وشريكه الروسي، في محاولة لإنقاذ المدنيين الذين يتعرضون للقصف اليومي.
ولأنه فيلم لم يُصنع للسوريين أنفسهم، إنما للمشاهدين حول العالم، حتى يدخل أكثر في تفاصيل ما يحدث في سوريا من خلال ما يحدث في إحدى أقسام مدينتها حلب، فقد يؤخذ على المخرج ربما خروجه عن السياق التسجيلي الحقيقي إلى افتعال لبعض المشاهد خاصة في أثناء الحوارات بين رجال الدفاع المدني أنفسهم أو بعض الحوارات مع الآخرين، كما ظهر مثلاً في مشهد الصيدلية حين يدخل الأب وابنته ويبدأ حوارٌ يبدو مفتعلاً كثيراً، في الحديث عن حصار المدينة، وسوء التغذية الذي يعانيه أطفال الأحياء الشرقية نتيجة لذلك الحصار. ربما كان على المخرج البحث عن آليات أخرى ليقول ما يريد عن ذلك، بدلاً من أن يضعف مشهديته وواقعيته أحياناً بافتعال تلك الأحاديث.
رغم ذلك، يبدو الفيلم على صعيد الحكاية بشكل عام، قد قدم معايشة حقيقية لشخصياته بتفاصيلهم اليومية، وكان واضحاً أنه يحسن بشكل جيد التقاط اللحظات البسيطة والهامة، ويحسن إدخال متفرجه في الأجواء الحقيقية للترقب والخوف التي تعيشها الشخصيات والناس في ذلك المكان.
كذلك نجح في تقديم شخصياته عبر العلاقات الإنسانية المتشابكة التي تنشأ وتتطور بينهم، في أكثر اللحظات الصعبة، والصراعات في داخلهم ما بين البقاء بالمدينة أو الرحيل عنها، خاصةً مع بدء حصار المدينة والتدخل الروسي، الذي جعل من حياة كل سكان المناطق الشرقية في حلب ومن بينهم أصحاب القبعات البيضاء في خطر.
هذا الخطر الذي يبقى مستمراً طوال مدة الفيلم، والذي يعني أنه كان مستمراً طوال السنوات الثلاث التي تطلبها تصوير الفيلم الذي ينتهي بجنازة خالد، الشاب المفعم بالحياة والأمل والذي يموت أثناء قيامه بعمله الإنسان. كما يقرر زميله محمود مع من تبقى من رفاقه الخروج من المدينة باتجاه إدلب، بعد الاتفاق الذي أفرغ حلب الشرقية من المقاتلين وعائلاتهم والعمال الإنسانيين أيضاً. في حين تلجأ زوجة خالد إلى تركيا بعد أن وضعت طفلاً لن يرى أباه يوماً، لكنه يحمل اسمه الأول أيضاً “خالد خالد”.
فيلم عن الحرب لكن… بلا مقاتلين
وعلى غير عادة الأفلام التسجيلية عن الحرب، لم يظهر المقاتلون، لكن المشاهد يرى ويسمع ويحس بكل ما يتعلق بالحرب، من معارك، دمار، وقصف، وضحايا. ليقول مخرجه بأنه لا يرى أبطالاً في تلك الحرب سوى من ينقذون أرواح الناس، ولا يحملون السلاح، فدوافع الموت في تلك اللحظات أكثر بكثير من دوافع الحياة، لكن الحياة تستمر وتتجدد، ويولد خالد الصغير، ابن خالد الكبير، الذي رحل بطلاً حقيقياً، مثله مثل بقية شخصيات فيلم فراس فياض، وكذلك مثل طاقم فيلمه من الشباب الذين قاموا بالمخاطرة بأنفسهم بالبقاء بمدنٍ تحت القصف، لتوثيق جرائم الحرب. حرب الديكتاتور على شعبه والتي حُشد لها كل أنواع المتطرفين من الجيوش النظامية والعصابات لحرب الشعب السوري وتهجيره.