أصعد على سلم السفينة، في طريقي إلى إسبانيا. لم تلوح لي أيدي “جموع المودعين”، ولا شهقة الأحبة ولا لهفة الأهل!
أتطوع للحرب ألأممية في إسبانيا، فلا يظنن أحد أنني أفعل ذلك هربا من النضال القاسي الذي يخوضه شعبي الآن.
إسبانيا، اليوم، مكان ندق فيه أوتاد خيمتنا في بحثنا عن مستقبل أفضل، وهي ملتقى أحرار العالم. فيها تَجَمَعَ خيرة أبناء الإنسانية المناضلة ضد الفاشية والنازية وموبوقات الدكتاتورية الفرنكية.
إسبانيا ساحة النضال. كل ساحة للنضال، ساحة شرف. لم ينتفض جسدي، يوما، إلا من أجل النضال ضد الظلم ونصرة المظلوم.
أقف على سطح سفينة حديدها بارد، لا يبعث على الود.
كانت السعادة تفيض من وجوه رجال المخابرات. وكان الغم ووجع الحنين يكدران وجهي.
مثقلا بالهموم والاختناق، تباطأت خطواتي على سطح السفينة.
يتصاعد الأسى من فؤادي كما يتصاعد الدخان من مدينة محاصرة تشتعل بالنيران.
أنا في طريقي إلى الجبهة. للحرب رهبة وقسوة. في الحرب أنت قاتل أو مقتول. من يدري، ربما أكون قاتلا ومقتولا.
هل أموت بعيدا عن الأهل والأحببة، خارج الوطن؟
هل يكون لي ضريح أم “جندي مجهول”؟
أعزي النفس بأن من لا يستألف الخطر يعيش خائفا.
تنثال الذكريات.
أرنو إلى حيفا وبيوتها الجميلة تنزلق على سفح الجبل. تتدثر بين الشجر. بدت لي بيوت المدينة كأهرامات قاعدتها في البحر.
حيفا أمامي، لؤلؤ منثور قذفه البحر على شاطئ مشمشي. مسترخية تستلقي في حضن الكرمل الأشم، تتستر حياءاً من عشقها بين غابات السنديان الكثيفة وانحناءات الجبل وتعرجات الوادي.
أنظر إلى البحر محملقا في أعماقه الزرقاء الداكنة. قوارب صغيرة فوقها بحارة يجدفون نحو الشاطئ، بهمة قوية، وقد عادوا باللؤلؤ والمرجان وحكايات جميلة، وآخرون منهكون عادوا بأوجاع الخيبة وأحزانها.
أرنو إلى خليج ينبسط نصف دائري. في طرفه البعيد عكا.
بين حيفا وعكا يتيه النظر والتاريخ: بحارة فينيقيون، غزاة هللينيون ورومان، صليبيون، وقراصنة من مالطة، أتراك، ومراكب تجار البندقية، ظاهر العمر والجزار، نابليون حيث “ضاعت أحلامه”…
في الليالي، تهبط أضواء “المنارة” من على “ستلا مارس” تنير طريقاً للسفن. ترسل أضواء ساطعة تمرح على سطح الماء. تبتعد وتقترب.
عين ترقب المشهد تدور معه. أذنٌ تتابع ضجيجا لا يأتلف مع طبيعة حميمة اعتدت عليها.
طيور النورس تقترب مني. صغيرة وكبيرة، بيضاء ورمادية تحوم حول السفينة. أتراها تودعني أم تلومني؟
نهارات حيفا، صافية وهّاجة يصاحبها نسيم عليل هاب من فوق البحر مضمخ بطراوة منعشة.
مساء حيفا، رائق مرح لا تكدره غيوم، ولا تغضن جبينه هموم. سماؤها مرصعة بالنجوم الزاهيات يتوسطها قمر نحاسي- كلون بشرة أهلها- وسنان يطل من الأعالي.
حيفا خجولة مغناج تتيه بجمالها ورونقها. جمال ولهان.
تهيم في مخيلتي: صبايا، يقتلهن العشق تدرج في وادي النسناس. حواري يتغندرن بين شارع الأنبياء وشارع الملوك. عذارى متبرجات متزينات، طالت عزوبتهن يصعدن مع العذراء نحو ستيلا مارس. وشباب جسور تدور عيونهم بين المليحات.
أودع كرملها الفخور شامخ القامة تجلله خضرة الغابات.
آه ما أجملك يا بلادي!
أمامي الكرمل الجميل. أشعة الشمس رقصت على زرقة ماء يتماوج. يتغضن وجه البحر، كأنما بعثرت عليه برادة فضية.
واقفا على سطح سفينة تتقلقل أرنو إلى الفضاء الشاسع. إلى الجهات الأربع.
أنظر إلى حيفا فتداهمني ذكريات السنين الخوالي.
شرد الخيال يستذكر أيامي الجميلة. يسترجع اللحظات الهنية والبدايات الحلوة.
رجعت في ذاكرتي في محاولة لجعلها نافعة بشكل ما، إلى بداية البدايات. لا بد من وجود نقطة عبور بين ما سبق وما لحق . لا بد لوجود أثر للماضي في هذا المكان، وعليّ البحث عن هذا الأثر.
أغرق في بركة أحلامي وماضيّ والذكريات.
تمر أمامي أيامي الشقية فتنحني أمام تغريبي. أغترب عن وطن أعطيته عسل الأيام وورد الشباب، بادلته الحب فبادلني.
هل أعود من إسبانيا؟ سالما؟ معاقا؟ أم يكون هناك لحدي؟
حيفا! الكرمل! الوطن! يزدادون مني بعدا وأنا أزداد إليهم حرقة.
حيفا! الكرمل! الوطن! يا قطعة من كبدي، “تكسرت فيها النصال على النصال”.
على حد الشفرات أنزلق. أنشطر نصفين، نصف مسافر ونصف مقيم يحرس تلالها الوردية ويصون قلاعها المسبية. يستبد بي وجع الحنين الذي يطرأ على قلب المسافر العائد.
فهل أنا مشرد يحمل بذور ألم العودة؟
أأنا مسافر أم مُهجر؟
هل أعود؟
عيناي معلقتان ببصيص النور المنبعث من شبابيك البيوت، من فوانيس شوارع المدينة. غباشة البعد تتكاثف فتبعد الوطن عني أكثر. وأكثر.
حنين يتأجج. إلتياع جارح. حظ تعيس. وأنا أنتزع من حضنك يا وطني الحنون!
يتمي الأول من أب ما عرفته قط وأم تركتني أحبو، لم يحزني بقدر حزني الآن. يومها، مداركي ووعيي لم يتكونا بعد. فهل الحزن من علامات الوعي؟
شريط يمر في المُخيّلة، يذكرني بطفولتي. أتذكر نزق الصغار، وشقاوة الأولاد.
أستذكر مدارج طفولتي. ومرابع الصبا. أستذكر جريي في ساحة البيت وزقاقات الحارة.
أتذكر صخرة ناهضة قرب الغدير يجلس عليها صبي ينفخ في شبابته وخراف تمرح، ترعى العشب النامي…
كان اسمه علي. صار اسمه إبراهيموف!
أتذكر زقاقات القرية وكيف ملأتها طفولتي؟ أتذكر “شلة الحارة” جمع من الأولاد. وكيف كنت “أحمي” الحي وأصد “العدى” عن مراجيحنا. وأصون ملاعب الصبا من “أعدائنا”… باب الثنايا حميمة وذكريات ندية.
أتذكر وردة! أطول زنبقة في باب الثنايا. وردةٌ فواحة. صدر حنون ألقي برأسي عليه، كلما داهمني الهم واشتد عليّ الغم. كانت الحلم الجميل والحب النقي. عشق الصبا وأحلام الولدنة. مررت بها مرور النسيم ومنحتها لشواطىء النسيان والذكرى.
استرجع صدى الأيام الخوالي. أردد في خلدي:
“تعشَّقتُ [وردة] وهي غرٌ صغيرةٌ/ ولم يبد للأترابِ من نهدِها حجمٌ
صغيرين نرعى العشبَ يا ليت أنّنا/ إلى اليوم لم نكبرْولم تكبر البُهمُ”
أبوح بكلِّ مذلاّت عمري.
أبحث في البذرة عن شجرةٍ!
بكيت لما مرَّ وجهها في مخيلتي.
ترى أين أنت اليوم يا وردة؟
أتذكر أيامي في الحقل. أقبض على المحراث، خلف الفدان. تغوص السكة في جوف الأرض فتقلب سافلها عاليها. تهبط عصافير صغيرة تبحث عن ديدان ظهرت. تُبعثرُ روث البقر، فلعل بذرة بقيت سليمة؟
من جرح الثلم يفوح شذى طراوة فجة يسكر الفلاح من عبقه.
يا أرض الخير! أعطيتك فأعطني.
أتُراني أعود، كما تعود العصافير إلى أعشاشها؟
شريط جارح يمر أمامي، الآن. بطش الإنجليز بالمواطنين. في القدس العتيقة، على درج باب العمود مدوا النقع. في خان الزيت، ليس بعيدا عن طريق الآلام، أعادوا فصول الجريمة. استشهد اثنان وجرح العشرات.
أسترجع ما قاله، أحد رجال الحركة الوطنية على القبر المفتوح، وعلق في ذاكرتي، بشكل مشتّت وغير متناسق. مهمّة الذاكرة تصفية الذكريات وتنقيتها من الشوائب، فيصبح الحدث ذكرى:
[اليوم! مقرورة هي القدس حيث ينام الشهداء، الليلة، في باطن أرضها. ترتجف فلسطين، يرتجف الناس من الحزن والغضب، قلوبهم تنزّ حزنا على الشهداء وغضبا على الجلّادين.
الأموات يرقدون في سفوح التلال المقدسية. هنا مدفن الأبطال وصرح الشهداء. هنا شهادة التاريخ، وتاريخ الجريمة. في القدس جلّاد وضحّية وكل شيء حول القضية.
بعد حين ستتحلّل أجساد الموتى وستمتزج بتراب الوطن، وحدة أبدية. ما من طاغية يستطيع فصل القدس عن ترابها. نحن ترابها. نحن أصحاب الأرض والشهداء مشاعل الطريق.
ولأنّ أمواتنا هم جزء من الأرض المقدسية. ولأنّ أرض فلسطين أبدا لن تموت. هكذا لا يموت الشهداء.
يمكنهم – عسكر الإنجليز- هدم القرى والمدن في محاولة منهم لاستعباد الشعب. يمكنهم ملء السجون بالأحرار. يمكنهم أن يرتووا من دم الشهداء. لكن. لا يوجد شعب واحد على وجه البسيطة يمكن أن يرضى بغير الحرية.
سينهض الشعب الفلسطيني مرة أخرى، تماما كما نهض ضد كل الطغاة السابقين.
ناموا يا أحبتي، يا إخوتي ناموا. هاكم، من جديد أرضكم الحميمة. ناموا يا أحبتي، يا إخوتي ، فقربكم يَعْبُرُ الشعب، خائضا الحمام نحو فجر أكيد].
رغم الحزن ورهبة الموت. رغم الألم والوجع، رغم جنون العسكر، انتاب الجماهير شعور بالشراكة.
يقتحمني شعور الإنتماء: أصبحت من المناضلين. من الشعب المناضل. من أولاد البلد.
غارقا في أحلامي الوردية، تمر أمامي نهارت بهية وتتبعها ليال مؤنسة. كلها تتتالى عبر شريط الذكريات الحميمة. أحملها معي إلى ساحات إسبانيا. هل أبقى لحدا هناك؟
الشمس في انحدار شديد نحو الغروب. رويدا، رويدا تسحب نورها الزاهي وعلى مهل تلملم أشعتها الذهبية وتصبغ الغيوم القليلة الشاردة نحو الشرق بلون بنفسجي. في الغروب معركة دامية بين النور والظلام. يتخضب الشفق والشمس مقتولة في كفن نحاسي تنحدر نحو الغرق.
الظلال تطول وتطول أكثر. ظلي، أيضا يطول ويتمدد. أدرك أننا، ظلي وأنا، قريبا سنفترق. أخرج من عالم أعرفه وآلفه، بيني وبينه حميمية. إلى عالم يقتتل فيه الحق مع الباطل. النور يحارب الظلام وأنا أتحزب للإنسان. إنسان أنا. نفسيتي تنحدر وتغوص في بحر كآبتها.
هواجس الموت في الحرب الإسبانية تلون الذكريات وتستدعي الرثاء. فهل الرثاء مديح تأخر حياة كاملة؟
يمضي الوقت بطيئا. والذكريات غزيرة تبللني وتنعشني، تفرض وجودها. تقطع من لحمي.
أحاسيسي تجول في أزقة مدينة يافا. أرى بوضوح تام ومخيلة يقظة، ساحة الساعة والسرايا ومركز الشرطة والسجن الكبير. حيث كانت المظاهرات والكلمات الوطنية والغليان الشعبي. هنا ضربتني الشرطة عندما سقطت “الخندرا” فحنوت عليها وحملتها بين ذراعي. سأبحث عن قبرها، في إسبانيا وأهديها فلة وقبلة…
يافا! كل الكل. مدينة باسمها، بجسدها المنحوت من عظام كنعان. أسطح البيوت، شارع “الحلوة”. حناطير تتسابق وقرقرة دواليبها على رصف حجارة أزقتها. السوق، وصياح باعة البرتقال الشموطي واليوسف أفندي، كرات ذهبية. قوارب الصيادين. تاريخها وناسها. كلها تتأطر في وجداني ومشاعري، تستقر في ذاكرة المسافر المغترب الملتاع، واضحة المعالم قوية الحضور. شديدة الحفر في الذاكرة.
قباب كنيسة التراسانطة ومآذن المسجد الكبير ومسجد حسن بيك، منارة الميناء والقلعة. كلها شامخة صبورة تجثو على صخرة التاريخ. بيوت واطئة حنونة رقيقة على أسطحها ينشد حبل الغسيل. أكاد أشم رائحة الطعام تفوح من مواقد البيوت. بيوت متجعدة من الطين تتشبث على التلال، وأخرى كبيرة جميلة تتدرج ميادة متفاخرة تنزلق عن السفح! بيوت تتيه بجمالها وحسن رونقها وسط حدائق تسر القلب. بيوت مليئة بالأطفال وكثيرة الولادة. حي العجمي، حي النزهة، المنشية. وأطفال أفاقوا والبسمة على وجوههم والبسملة على شفاههم الصغيرة. أسطح قرميد خمري يسيل على البيوت. شبابيك زاهية ملونة معلقة، كلها مفتوحة وشرفات متدلية. “والحلوة” تفتح شباكها. ترسل فلة وقبلة لحبيبها.
في المخيلة يمر شريط مظاهرة يافا. عنف ودماء وقتلى تدور داخل مخيلتي المنهكة! مع كل دورة أغضب من جديد على الإنجليز الطغاة وعلى “اليشوف” (التجمع السكاني اليهودي في فلسطين قبل النكبة) المخادع. اغتالوا فتاة هيفاء في عز تفتحها. قتلوها لأنها “غردت خارج السرب”. عالم قاس لا مكان فيه للآخر.
أتذكر وأتفكر، قصة حياة الخندرا. قصة فاجعة ووهم قاتل وإنسانية منتصرة.
أغرق في بحر إلتياعي وأتعثر في رحيلي.
تتحرك السفينة. وأنا نهب الذكريات الجميلة. أمامي في المخيلة . في الأفق المتخيل بيوت القدس وحواكير باب الثنايا.
ومرت في عيني أيام الطفولة. مرت القدس القديمة وأبواب المدينة. والساحل مر. كلها مرت.
في المدى البعيد، جبال القدس تنهض من الساحل نحو الشرق البعيد، وقد اكتست بالسندس الشجر.
هناك! في الأفق البعيد الأبعد، في عمق المُخيّلة، في تلافيف الوجدان، القدس العبوسة، الضاحكة، الوقورة، الصابرة. في القدس شمم المجد وشموخه. أصالة التاريخ وعظمة الحكمة. أنبياء وقضاة.
تنثال عليّ الذكريات، تسلمني إلى حسرة عميقة. فيكون للدفء عمق أحلام اليقظة في المستعاد الجميل. ألملم قطرات ندى الذاكرة من جمال السراب.
أتذكر شارع الأنبياء، حيث سار الملوك والقضاة والأنبياء. واليوم يسير فيه الجنود والكولنياليون. خرائب هدّمها إعصار وبيوت حدّبتها الكراهية.
القدس! رواية التاريخ وملحمة العقيدة. نص الحكاية، بداية بلا نهاية. واقع الخيال وخيال الواقع. يجتمع فيها إتقان المعرفة ومتانة الحكمة وجودة الرأي. القدس تقف على باب حلمي.
القدس! كل ما فيها يحرك الألغاز ويخيف المخيلة، ويحركها فوق أماكن تملؤها أعظم ذكريات التاريخ، فيكتسب الوهم ما للحقيقة من صرامة.
كل شيء في القدس يتحول إلى مزيج من ذاكرة قوية ونسيان فعال. برهان على الخسارة والنقصان ومقارنة موجعة مع ما كان.
من تحتي. على اليمين وعلى اليسار، يمتد شاطئ رملي ذهبي ناعم. صِبْية يمرحون. شباب وصبايا يستلقون على الرمل. يتوشوشون.
أهو الوطن؟ هل هذا هو الوطن؟
لن نعرف الوطن إلا إذا غادرناه.
هل نعود للوطن؟ كيف نعود؟ متى نعود؟
عسل الذكريات يسيل.
أتذكر الرفاق. محمود المغربي خريج الجمعية النقشبندية في يافا، رجل تقي ورع يقيم الصلوات في أوقاتها. فرد منديلا على سطح السفينة وشمر للصلاة. في رهبة المكان وهيبة الأذان انضممت خلفه أقدم الشعائر الدينية. باقي الرفاق انضموا إلينا.
ستة “مؤمنين”، بلا وضوء ولا طهارة، واحد منهم مسيحي يؤدون صلاة جماعية، على سطح سفينة سوفيتية في بوسفور إسطنبول، وهم في طريقهم إلى موسكو لدراسة “المادية”!
شعور فرضه علينا رهبة المكان وجلجلة الأذان. أو ضغط الإجماع العام. من يدري؟ ربما نوستالجيا لأيام زمان؟ أو تذكير بالأوطان؟