في الوقت الذي تعيش فيه الثقافة على الهامش غالبًا، وليس من المفهوم ضمنًا استدامة مشاريع ثقافيّة فلسطينيّة، ولا سيّما في ظرف سياسيّ استعماريّ مستمرّ، يأتي مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام لخلخلة كلّ هذه الأمور مجتمعة، باستدامته للسنة الثالثة على التوالي في مدينة مثل حيفا، وبالتفاف جماهيريّ حول المهرجان، وبوضعه بصمة في المشهد السينمائيّ العربيّ سريعًا، وبرغبة صنّاعه في أن يكونوا جزءًا منه، بشكل ما.
الإيمان بالفكرة
في حديث مع روجيه خليف، مدير مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام وأحد مؤسّسيه، حول سرّ هذه الاستدامة، يقول: “السبب الأساسيّ لاستمرار المشاريع أن تكون حاملة لتصوّر واضح؛ خطّة عمل وخطوات استراتيجيّة تقود إلى شكلها في المستقبل القريب والبعيد، وعلى هذا يعتمد عملنا في المهرجان، من جهة بناء استراتيجيّ واضح للاستدامة، وكذلك لمبادرات وأفكار جديدة بإمكان المهرجان احتضانها مستقبلًا. خلال السنوات القادمة سوف نمنح جوائز، على أمل أن نمنح فرص إنتاج سينمائيّة أيضًا. الشقّ الثاني الذي يضمن الاستدامة، إيمان الطاقم بالفكرة، وهذا ما يجعل المهرجان قابلًا للتنفيذ، ولا من شيء مستحيل، بالإضافة إلى ثقة الجمهور واحتضان الفضاءات الثقافيّة في حيفا، فجميعها عناصر داعمة للمواصلة.”
إلى جانب بيروت وقرطاج
أمّا لينة منصور، إحدى مؤسّسي المهرجان والقائمين عليه، فتقول: “أعتقد أنّ المهرجان صعد درجات عديدة، فعلى سبيل المثال، كي نحضر أفلامًا إلى المهرجان، كان المجهود أقلّ بكثير مقارنة بالسنوات السابقة، ولا سيّما على مستوى التواصل مع مخرجي الأفلام، إذ لم تكن حاجة لشرح ماهيّة المهرجان، فقد أصبح معروفًا لمخرجين في تونس، والجزائر، ولبنان، ومصر، وغيرها، ومن أهداف مخرجين يرغبون في أن تُعرض أفلامهم في المهرجان، وقد أصبحوا يضعون مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام إلى جانب مهرجانات بيروت، ودبيّ، وقرطاج، وغيرها في العالم العربيّ.“
ترى لينة، وفق تعبيرها، أنّ المهرجان أهمّ حدث ثقافيّ في حيفا اليوم، وتتابع أنّه “يُصنع بطرق مهنيّة، فنحن، الطاقم، نتعلّم ونبني قدراتنا ونتعرّف إلى عالم المهرجانات من خلاله، وأعتقد أنّ كلّ ما يرتكز عليه المهرجان، من مهنيّة، وأساليب تسويق، وكتابة مضمون، ورسالة، وأهداف، نلتزم بها تمامًا منذ اللحظة الأولى لوضع أفكارنا على الطاولة. أحضر المهرجان للمشهد الثقافيّ شيئًا جديدًا، ولا سيّما كيفيّة عملنا لمدى بعيد لا قصير، وهذه قوّة المهرجان.“
نخلق حيفا التي تشبهنا
يرى عايد فضل، منسّق العلاقات العامّة والتسويق، بصفته شابًا من حيفا، وُلد ويعيش فيها، أنّ هذا المهرجان مثل حلم، وأنّه بمثابة صورة لحيفا التي يريد، ويتابع: “عندما تكبرين في حيفا، وتكتشفين أنّ الأرض والعمارة والبيت لك، لكن كلّ ما تحتويه المدينة من فعاليّات كانت تهيمن على البلد ليست لك، ولا تقرّرين في شأنها، وليست تحت سيطرتك ولا تشبهك، ثمّ بعد المدرسة والخروج من هذا الإطار، ومع وجود مؤسّسات أهليّة فلسطينيّة في المدينة، تكتشفين أنّه حان الوقت لتصميم حياتك، فحينها تبدئين بخلق نشاطات. وهذا ما حصل معنا بصفتنا مجموعة أصدقاء، بما في ذلك مجموعة جزر، وهو ما امتدّ ليكون شعورًا بالمسؤوليّة تجاه خلق فعاليّات تشبهنا، لأنّنا نحن الذين نعرف ما هو الملائم لنا.“
امتدادًا لذلك، جاء المهرجان جزءًا من رؤيا كبيرة للمدينة التي يريد جيل الشباب الفلسطينيّ العيش فيها؛ يضيف عايد: “يرتكز المهرجان بالأساس على التفكير بكيفيّة الوصول إلى الجمهور الذي يخصّنا، إلى عائلاتنا، وأصحابنا، وأولاد وبنات حاراتنا، والبلاد المجاورة، كي نمنح للجميع مساحة فيها نشاطات ثقافيّة يتشاركونها سويّة، فيها ترفيه وموسيقى ومعرفة، فضاء نمنح به لأنفسنا ما نريد، يخصّنا، نتواصل من خلاله مع بعضنا البعض كما نشاء. يحضِر المهرجان اليوم أفلامًا عربيّة لأوّل مرّة إلى حيفا، ثمّة علاقة جديدة نبنيها مع العالم العربيّ ومع صنّاع السينما أيضًا، مبنيّة على رغبتهم بإرسال أفلامهم لعرضها إلى الجمهور الفلسطينيّ في حيفا، بما في ذلك من مقولة إنّنا موجودون وباقون هنا، من خلال أفلام تقول إنّ هؤلاء الناس يخصّوننا، ومخرجين يريدون أن يعرضوا أفلامهم لنا، وهذه خطوة جريئة ومهمّة.“
التركيز على السينما الأفريقيّة البديلة
سيُعرض على مدار أيّام المهرجان الستّة ما يُقارب الخمسين فيلمًا، ما بين روائيّ ووثائقيّ، قصير وطويل. في حديث عن الأفلام المشاركة هذا العام، قالت لينة سويلم، منسّقة لجنة اختيار الأفلام: “كما كلّ عام، نركّز على الإنتاجات الجديدة في العالم العربيّ، ولا سيّما تلك التي حصلت على اهتمام دوليّ، كي نمنح لجمهورنا فرصة مشاهدة هذه الأفلام. تابعنا الأفلام في مهرجانات دوليّة مثل برلين، ودبيّ، والدوحة، وكان، وغيرها، وركّزنا على أفلام عربيّة محاولين تغطية المنطقة كلّها.“
تقول لينة سويلم إنّ التحضير للمهرجان هذا العام تضمّن محاولة لإحضار أفلام من أفريقيا أكثر من سنوات ماضية، وكان التركيز على السينما الأفريقيّة البديلة، ولا سيّما أفلام مخرجين شباب ومخرجات نساء، وتضيف: “ثمّة تركيز على السينما الجزائريّة، التي كانت نشيطة خلال السنوات الأخيرة في ظلّ شحّ موارد الإنتاج السينمائيّ. كما ثمّة إنتاجات معاصرة وبديلة، لدينا فيلمان لمخرجين شابّين حظيا بنجاح عالميّ، ومن المهمّ أن نعرض الأفلام في فلسطين، ولا سيّما أنّ التواصل الجزائريّ الفلسطينيّ قويّ عاطفيًا، لكن، في الواقع، نحن لا نعرف كثيرًا عن المجتمع الجزائريّ. والأهمّ، أنّ كلّ هذا مبنيّ على شراكة قويّة مع مخرجين ومنتجين من العالم العربيّ، وأشخاص مهتمّين بالمهرجان، ما أدّى إلى حصولنا على اهتمام بالعالم السينمائيّ العربيّ.”
تحدّيات التواصل مع العالم العربيّ
في حديث مع سليم أبو جبل، منسّق لجنة اختيار الأفلام، حول أهمّيّة المهرجان على المستوى الفلسطينيّ، قال: “يتشابه مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام في خطوطه مع المهرجانات السينمائيّة في الضفّة الغربيّة والقدس، ما يؤكّد على التواصل الجاري والفعل الثقافيّ المتشابك. تجري في الآونة الأخيرة مراجعة مستمرّة لنقاط الالتقاء، من حيث رفض كلّ ما هو إسرائيليّ قادم من المؤسّسة أو من المنتفعين منها، ومع الزمن، ستحتاج هذه المراجعة، التي تحثّها خيارات الأفلام والضيوف، إلى النضوج ضمن سياق الخطوط التي تتبلور شيئًا فشيئًا، بهدف صياغة شكل مقبول ومتّفق عليه لمثل هذه الفعاليّات. الأمر الإيجابيّ أن يثير وجود مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام هذا النقاش في الاتّجاه المرغوب، وهو تشكيل وحدة حكم ذاتيّ ثقافيّ بين مناطق فلسطين التاريخيّة، ومن دون إذن من أحد، لمجرّد الحاجة الملحّة، وبسبب وجود مبادرين قادرين على الفعل!“
وحول أهمّيّة المهرجان على المستوى الثقافيّ العربيّ، يرى سليم أبو جبل أنّ “أكثر ما واجه المهرجان من تحدّيات، التواصل مع العالم العربيّ، فنسبة كبيرة من أفلام هذه السنة جاءت من مصر، ولبنان، والجزائر، والمغرب، وسورية، بالإضافة إلى الأفلام الفلسطينيّة طبعًا؛ ولم يكن المرور عبر الشركاء والموزّعين في رام الله ملحًا للحصول على شرعيّة العرض في حيفا، بل عاملًا مساعدًا. كما في السنوات السابقة، يحتفل المخرجون العرب المشاركون بعرض أفلامهم في حيفا، ويحسب لهم إدراج حيفا ضمن المنطقة العربيّة لتوزيع الفيلم، لا في إسرائيل، كما يرغب الموزّع الأوربيّ في بعض الأحيان. أدار طاقم اختيار الأفلام في المهرجان بعض الحوارات المفتوحة مع المنتجين العرب لتأكيد هويّة المهرجان، ومصادر تمويله العربيّة الخالصة، وتأكيد استبعاد المشاركة الإسرائيليّة، ما يؤسّس بنجاح لاستمرار هذا التواصل.“
حركة ثقافيّة تفهم أهمّيّة الاستقلاليّة
رنا عسلي، مستشارة تسويق ومنسّقة الموقع الإلكترونيّ، وفي تعليق على المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ اليوم في حيفا، تقول: “نحن نعيش في دولة استعماريّة كولونياليّة، وكما هو المعتاد في مثل هذه المنظومات، حسب رأيي، ينقسم الاستعمار الثقافيّ للعقل والروح إلى قسمين، الأوّل سياسة المستعمِر ضدّ السّكان الأصليّين في طمس ومحو الثقافة الفلسطينيّة، أو الاستخفاف بها ونشر الإحساس بالنقص لدى أصحابها، بصفتهم بلا ثقافة، وإن وُجدت الثقافة فهي بدائيّة، أو همجيّة، أو غير متطوّرة، إلخ… بينما يعرض المستعمِر ثقافة الإسرائيليّ بصفتها المتطوّرة والمتقدّمة، ومن هنا ينتج عند بعض الفلسطينيّين، أو بعض أفراد شعب ما تحت الاستعمار، الافتتان أو محاولة التشبّه بالمستعمِر، لكونه المتطوّر والمتفهّم (وفقًا لفرانس فانون)، وطبعًا، تقوم مؤسّسات الدولة بالإقلال من شأن ثقافتنا والتعظيم من ثقافتها دائمًا، وذلك من خلال خلق صور نمطيّة عنّا، مستوحاة من وحي خيال تلك المؤسّسة ومن أجنداتها السياسيّة، التي تعبّر عنها من خلال التلفاز، والأفلام، والفضاء العامّ، والمنهاج التعليميّ للأطفال الفلسطينيّين في أراضي 48، ومشاريع عديدة تخدم هذه الأجندات. القسم الثاني ناتج عن عدم قدرة المستعمِر على إزالة أو محو أجزاء من الثقافة الفلسطينيّة، وما يقوم به من استيلاء على فنّ الفلسطينيّين وثقافتهم، ليعيد تقديمها بعد ذلك للفلسطينيّين وللمجتمع الإسرائيليّ، بعد أن يجرّدها من أيّ عمق، وتاريخ، وعلامات ورموز تدلّ على الهويّة والانتماء.“
ترى رنا أنّه على الرغم من الواقع المركّب الذي فُرض على الفلسطينيّين، ومع زيادة وعي الأفراد والمجموعات لهذه السياسات وأهمّيّة محاربتها، فإنّ هويّتهم تبدو واضحة وغير متزعزعة بعامّة، وتتابع: “إنّهم يحترمون ثقافتهم ويفهمون أهمّيّة الفنّ والثقافة لبناء الإنسان والمجتمع، لا يأبهون لكلّ محاولات الترهيب والترعيب، وقد بدأت الحركة الثقافيّة تفهم أهمّيّة الاستقلاليّة، بعيدًا عن الإملاءات المادّيّة، ولا سيّما من ناحية مقولتها ومضمونها.“
يرتكز مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام، كما مشاريع عديدة في المدينة، على التعاون بين فضاءات ثقافيّة وفنّيّة تأسّست خلال السنوات الأخيرة، ويواصل العديد من الأفراد والمجموعات خلق مساحات جديدة، عن هذا تقول رنا: “جزء كبير من هذا التعاون خلقته الضرورة وعدم وجود بديل، ومن دونه لن يتطوّر هذا المشهد الذي يؤدّي إلى بناء، واسترداد، واستمراريّة ثقافة حقيقيّة، ومن هنا يأتي دور مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام ومبادرات نوعيّة مشابهة. المبادرون لتأسيس المهرجان واعون لأهمّيّة النقاط أعلاه، وهم من الأوائل الذين فهموا أهمّيّة استعمال عدّة فضاءات فلسطينيّة مستقلّة ودعمها لتستمرّ، كي يعتاد الجمهور الفلسطينيّ على وجودها وأهمّيّتها.“
كاسرًا للحدود التي فُرضت عليه
من الجدير بالذكر، أنّ مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام تأسّس ليكون هيئة مستقلّة تقدّم عروض أفلام جديدة من فلسطين والعالم العربيّ والعالم، لمخرجين محترفين وكذلك صاعدين، وهو يطمح إلى أن يواكب التطوّر الحاصل في المشهد السّينمائيّ في العالم بعامّة، وإلى المساهمة في مشهد صناعة السينما في فلسطين والمنطقة العربيّة بخاصّة، كما يلتزم طاقمه بإعادة الاعتبار إلى حيفا المدينة في المشهد السينمائيّ العربيّ، بصفتها جزءًا أساسيًا منه، كاسرًا الحدود التي فُرضت على المكان وناسه.
يُذكر أنّ الدورة الثالثة من المهرجان بدعم من الصندوق العربيّ للثقافة والفنون – آفاق، ومؤسّسة عبد المحسن القطّان؛ وبرعاية إعلاميّة من تلفزيون “مساواة”، موقع “عرب 48″، “فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة”، صحيفة “المدينة”، مجلّة “رمّان”، وكذلك محلّات تجاريّة محلّيّة فلسطينيّة، ويهدف هذا الدعم إلى استدامة المهرجان لسنوات قادمة.