الاعتراف/ الندم، الثأر/ العدالة، العنف/ الغفران، مقولات نَبضَ بها عرض الاعتراف من تأليف وائل قدور وإخراج عبد الله الكفري الذي عرض على خشبة مسرح ”دوار الشمس“ في بيروت يومي 7 و8 من الشهر الجاري، بأداء كل من جمال سلوم، حمزة حمادة، أسامة حلال، سهى نادر وشادي مقرش، وقدم العرض ضمن مهرجان ”ريد زون“ 2018 في بيروت، الذي يسعى إلى تقديم أعمال فنية تقارب مواضيع تتعلق بحرية التعبير.
خمس شخصيات سورية في عام 2012 تجمع بينهم صلات مختلفة كالقرابة والصداقة والحب، يرصد العرض بالتحليل مفاهيم إنسانية متعددة ويضيء على التحولات التي أخذت بالظهور والتشكل، إبان عام من الحراك السوري، أولى هذه التحولات ما تعرض له ”الخال جلال“ (جمال سلوم) وهو ضابط سابق تخلى عنه النظام السوري قبل زعزعة استقرار حكمه، ليعاود الأخير الاتصال بجلال طالبًا منه العودة للخدمة بعد اندلاع الحراك وبداية ظهور التسليح كخيار لبعض الثوار، الأمر الذي يسبب جدلًا حادًا بين جلال وابن اخته ”عمر“ (أسامة حلال) ذاك الشاب المسرحي، محاولًا منع خاله من اتخاذ قرار العودة للخدمة، وهو ما لا يوافق عليه جلال ويبقى مُرجّحًا خيار العودة، ويُظهر ذلك مدى الرغبة لدى جلال في استعادة مجده واستعادة القوة التي كان عليها لسنوات طويلة، ولكي يصبح ذلك ممكنًا، يطلب من عمر الاكتفاء بالحد من ”طيشه“ لأنه لم يعد بمقدوره حمايته، وأن يسافر عقب انتهائه من إخراج عمله المسرحي ”الموت والعذراء“ للكاتب الأرجنتيني “آرييل دورفمان”.
استخدم المخرج تقنية المسرح داخل المسرح، إذ نشاهد في العرض مشهداً من مسرحية ”الموت والعذراء“ التي يقوم بإخراجها ”عمر“، هنا يصبح التداخل في أكثر من موضع بين العرضين، خاصة وأن ”الموت والعذراء“ يقوم على لقاء بين سجين وجلاد سابقين، ”هيا“ (سهى نادر) خليلة عمر، تؤدي دور السجينة السابقة التي تعرضت للاغتصاب والتعنيف أثناء فترة اعتقالها، التي تحظى بجلادها السابق الدكتور (شادي مقرش) مكبلة إياه في منزلها، لتحاول انتزاع اعتراف منه تحت تهديد السلاح بأنه هو من قام بتعذيبها واغتصابها، مقابل نكران الدكتور، فدليلها الوحيد هو صوته فقط، لتجد نفسها تحت ضغط نفسي بين الثأر لنفسها منه بقتله، والضغط الذي يمارسه زوجها عليها، بعدم اتخاذ قرارها على أساس العنف فقط، لأن بفعلتها تلك تكون قد أعادت السيناريو الذي يمارسه الأمن في انتزاع الاعترافات تحت التعذيب والتهديد دون أن يسمحوا للمعتقلين بأن يدافعوا عن أنفسهم ولو بكلمة واحدة، لذا يطلب منها أن تحتكم لمحاكمة عادلة ومن ثم يمكنها اتخاذ القرار، يمر ذلك دون أن يتضح تمامًا فيما إذا كان فعلًا هو من فعل بها ما ادعته أم لا، تنتقل مناقشة القتل إلى خارج التدريبات بين عمر وهيا، حيث ترى بأن القصاص من الجلاد يحقق العدل ولو كان هذا القصاص لا يمس النظام ككل، كيف لا وهيا لديها شقيق معتقل ولا تدري عنه شيئًا رغم كل محاولاتها الوصول لأخباره.
يتطرق العرض لموضوعة الاعتراف من محاور مختلفة، فها هو عمر يحاول أن يوقع ”رضوان“ (حمزة حمادة)، بفخ الاعتراف بسرقته لأمواله، يرفض رضوان وهو صاحب الشخصية العشرينية المرتبكة، تلك التهمة، ليضعه عمر أمام خيارين، إما الاعتراف أو أن يبلغ خاله جلال بذلك، فرضوان عسكري يخدم في بيت جلال، مما يزيد إرباكه وحيرته، فيجبره الخوف على مصيره بعد أن أبلغه جلال بأن يلتحق بالخدمة الميدانية وإنهاء خدمته الثابتة، على الاعتراف بنفسه لجلال بأنه قام بسرقة المال من عمر مضطرًا لإرسالها لعائلة صديقه الذي مات، وأنه على استعداد للعمل بعد التسريح وإرجاع المال، مقابل عدم مشاركته بالخدمة الميدانية، لكن يتضح أن عمر لم يخبر جلال، ويتضح أن سرقة رضوان للمال أمر غير مثبت
يشارك جلال رأيَ هيا بأن يكون القتل هو نهاية عرض ”الموت والعذراء“، ويبرز تدخله في مناقشة العرض، عبر خطين، الأول قراءته لقسم كبير من المسرحية متوقفًا عند مشهد اعتراف الدكتور، والثاني عبر لقائه للمثلين بعد دعوة عمر لهم على الغداء الذي يقوم بتحضيره جلال، والنقاش الأول يكون مع ”أكرم“ (شادي مقرش)، ممثل ومعتقل سابق، ليبدأ جلال بطرح الأسئلة على أكرم، محاولًا أن يتعرف على موقفه من العرض، وكيف موقفه وهو يؤدي دور السجّان، وفي الوقت ذاته كان معتقل، مما يدفعه للتشكيك بمدى قدرته على أداء هذا الدور، لاختلاف الشخصيتين، لذا يُرجِئ حكمه إلى ما بعد مشاهدة العرض.
المساءلة نفسها يوجهها جلال لهيا بسؤاله إياها عن تعرضها للاغتصاب من قبل أو التعذيب، فترد هيا بالنفي، وأنها تعمل جاهدة على استحضار مواقف مشابهة أو مروية لها في عقلها ثم تحاول الشعور بتلك اللحظات، ما دفع جلال لأن يطلب منهم التمثيل والحكم من خلال المشاهدة، لا يوافق أحد في البداية، ولكن بعد أن روى أكرم قصته مع مصادفته لسجانه عندما كان معتقلًا، وكيف آثر الصمت على محادثته، ينتهي عرض الاعتراف بمشهد تمثيلي، يبدأ من حيث توقف جلال عن القراءة، يعتري المشهد الحقيقة هذه المرة، فالسلاح حقيقي لصاحبه الضابط جلال، تحمله هيا، ويبدأ المشهد بانفعال الدكتور أكثر من العادة، طالبا من السجينة السابقة أن تقتله وتنهي الأمر، بيد أنها تميل إلى ان تختم المشهد والعرض بسؤال العدالة وإمكانية تحقيقها.
رغم عمق الدلالات الفلسفية والإنسانية للمفاهيم المهيمنة في الواقع السوري والتي تشكل المفاصل في نص الاعتراف، وأهمها الغفران أمام العنف المستمر منذ سنوات، استطاع المخرج الإمساك بتلك المفاصل، ومقاربتها فنيًا عبر طرحها على المسرح في وقتنا الراهن، والتعبير عنها كما لو أن النص كتب منذ فترة قريبة، ولم يعطينا إجابات محددة وجاهزة، بل تركها مفتوحة كما حال الواقع السوري اليوم، فالاحتمالات أمام هذا الواقع كثيرة والنهايات عبارة عن مشاهد متعددة وتحمل وجهات نظر مختلفة.