لعلّ أغنية الراب الفلسطينيّة، هي تلك الأغنية الوحيدة التي ليست بحاجةٍ لإثبات هويّتها، كما أنّها لا تسعى إلى تجميل أيّ واقعٍ كان، ولا تجعله رومانسيًا أو زهريًا، خاليًا من الشّوائب والانزلاقات، فهي، بملامحها الغاضبة، لا تخضع لأيّ مسلّماتٍ أو قوالبَ، موسيقيّة كانت أم “أخلاقيّة”، بل على العكس تمامًا، فهي تُرغم المتلقّي على مشاهدة شريطٍ حقيقيٍ مسجّلٍ لحياته، مجراها ومعالمها.
لا بل أكثر من ذلك، فهي تدفعه إلى مواجهة هذا الشّريط من خلال كشف السّتار عن أدقّ التّفاصيل، وأبسطها أحيانًا، بنبرةٍ طافرةٍ أو ساخرةٍ في كثيرٍ من الأحيان، في محاولةٍ لمحاكاة هذا الواقع البائس، الذي يمتاز بفائضٍ كبيرٍ من أساليب وطرق قمعٍ مختلفة، النّاتجة عن وجود كياناتٍ غاصبةٍ للحريّة الفرديّة، السياسيّة منها والمجتمعيّة، على حدٍ سواء.
فإنّ وجود الاحتلال من جهة، واتّباعه لسياساتٍ خانقةٍ -بطبيعة كونه احتلالًا- والتي تهدف إلى ترويض الفلسطينيّ في جميع أماكن تواجده، وإلى جعله شخصًا خانعًا لا رأي له ولا قوّة، وفرض “وجهاء المجتمع” لقوانين وحدود تساهم في بناء ثقافة القطيع المُطيعة والمُسالمة من جهةٍ أخرى، كلّ هذا، لم ينجح إذا تناولنا أغنية الراب الفلسطينيّة كفعلٍ أو كردّ فعل صارخٍ، صريحٍ، مباشرٍ وطاعن في تلك المحاولات جميعها.
ثيمة المعاناة المتنوعة
أمّا الأكثر أهميّة من كلّ هذا، وأشدّه إثارةً، هو تناول معظم مؤدّي الراب في حيفا ورام الله وشاتيلا وأوروبا، للعناصر ذاتها، والتي تشكّل موضوعاتٍ قريبةٍ من بعضها البعض، مؤكّدةً على فشل تلك المؤسسات السّاعية إلى تفتيت ما تبقّى منّا، فتأتي معظم الأغاني لتتمحور في معظم الأحيان حول ثيمة المعاناة في مناطق التواجد المختلفة، والتي تظهر بأشكالٍ مختلفةٍ أيضًا، من خلال التطرّق إلى الحديث عن الهويّة الفلسطينيّة، وما يُلحق بها من ملامح، كالحدّ من حريّة الحركة والتنقّل، الحدّ من حريّة التعبير عن الرأي، صراع الهجرة والبقاء، وبشكلٍ قاطعٍ: العودة.
كما تقوم أغنية الراب على نقد ما ومن في أعلى الهرم، ونصر ما ومن في أسفله، وبهذا يلحق النقد بالسّلطة السياسيّة والأبويّة والذكوريّة والحمائليّة، وباستخدام بعض الألحان الفولكلوريّة الفلسطينيّة في بعض الأحيان، كالدّبكة والدحيّة وأغانٍ تراثيّةٍ أخرى. بالإضافة إلى ظهور استخدام التّناص مع نصوصٍ أو أغانٍ عربيّة وفلسطينيّة قديمة، ليُوثّق التاريخ مربوطًا بالحاضر وكل ما يشكّله من أثرٍ عليه، حتّى الوصول إلى المستقبل.
كما أنّ اللغة المستخدمة في أغنية الراب، لا تتبع بالضّرورة لإطارٍ أو قالبٍ محدّد، فهي ليست بالضرورة لغة فُصحى أو عاميّة، مؤدّبة أو “بذيئة”، إنّما وجود أسلوبٍ حُرّ يمكّن بسهولة من استخدام اللغة والتّلاعب بها بشكلٍ جميلٍ وابداعيّ.
عالم مواز
بمعانٍ أخرى، تأتي أغنية الراب الفلسطينيّة لتخلق عالمًا جديدًا خاليًا من الحواجز التي قامت عليها، ولتضع مرآةً كُسرت مرارًا وتكرارًا، وخُبّئت لسنين طوال في أقبيةٍ مظلمةٍ، تكدّست بمفاهيم الـ”عيب” والـ”حرام” والـ”مش مناسب” والـ”لا يجوز”، لتجعل كلّ شيءٍ ممكنًا وجائزًا وجليًا، حتّى الوصول إلى تجارب مشتركة جميلة بين مؤدي راب فلسطينيّين وعرب في لبنان وسوريا، وما هذا إلّا تأكيدًا على تشارك الهمّ والمقاومة في آنٍ واحد.
رحلة اكتشاف الهُويّة
المرّة الأولى التي انكشفتُ فيها على أغاني الراب، كانت حين بدأتُ رحلتي في اكتشافي لهويّتي الفلسطينيّة، إذ أنّ في فلسطين الدّاخل، ربّما يتوجّب عليك اكتشاف فلسطينيّتك اكتشافًا، لا أن تولد معها، وذلك يترتّب بحسب مدى تركيب خلفيّتك وبيئتك.
لم يشغل هذا المركّب آنذاك، وحين كنتُ طالبةً في المدرسة، أيّ مكانٍ أو منحى في شخصيّتي، وكلّما ظهر، أقصوه، أخرسوه أو جعلوا له قالبًا مُهينًا.
كنتُ أعلم أنّني فلسطينيّة عندما كنت أستيقظ في منزلنا في كلّ صباح، أو بعد العودة إليه بعد كلّ دوامٍ مدرسيّ، لكنّ البيئة المحيطة، والتي تكوّنت من زملاء وزميلات وإدارة وبرنامجٍ تدريسيّ، كلّها، كانت ترمي بي في كلّ مرّةٍ من جديد إلى هاويةٍ من الصّراعات، وتتركني عالقةً في وحلها دون نجدة.
في حينها، بدأتُ البحث عن طريقٍ للخروج، وعلى المستوى الحسّي، لم أجد شيئًا أكثر حدّة وقوّة من أغاني الراب لإخراجي من ما لحق بي، وفي كلّ مرّةٍ كنت أستمع إلى تلك الأغاني، شعرتُ أنّ شيئًا ما في داخلي ينفجر، كأنّ النتوءات التي بقيت ظاهرة جرّاء ما عانيته من أزماتٍ وجوديّة، أخذت تزول. كانت حقًا “فشّة غُلّ” بكل ما يحمله هذا التعبير العاميّ البسيط من معنى.
كأنّ طريقًا أخذت تتعبّد.
لكنّني، لم أقرّر قط أنّني سأتبع هذا الطريق للتعبير عن ما يجول في خاطري، بل تجاربي جميعها، وإن كانت ضئيلة، فهي وليدة لحظةٍ معيّنةٍ، نتيجة حدثٍ أثّر بي حدّ القيام بفعل الكتابة، ومن ثمّ تحويله إلى مادّةٍ مسموعة، وبرأيي، هذا أكثر ما يميّز أغاني الراب عامّةً، ففي لحظةٍ معيّنةٍ يترتّب بعض الكلام الذي تراكم بأشكالٍ مختلفةٍ سابقًا، ليكسر روتينًا وما كان مفهومًا ضمنًا، دون أيّ قيد.
مشهد ليس كاملًا
بيد أنّ، ليس هناك أيّ شيءٍ كامل الملامح والأوصاف، سوى عنوان أغنيةٍ لعبد الحليم حافظ، فإذا نظرنا إلى المشهد العام لأغنية الراب الفلسطينيّة عن كثب، سنجد أنّه يكاد يخلو من التّجارب النسائيّة، فإلى جانب التّجارب الكثيفة والمبهرة التي قام ويقوم بها شبابٌ فلسطيني حُر، لا يزال الصّوتُ النّسائيّ غائبًا، ولا بدّ له أن يُسمع.
مقطع من أغنية “طب هل”، من تأدية “شب جديد” و”داكن”- موسيقى النّاظر:
“لا ببيع حشيش ولا ببيع سلاح
ولا أنا بتاجر ولا إلي بالصّنعة
خال بلادنا بتخزي بس بنحبّ البلاد
شب جديد تأخّر معناها أزمة ع المعبر
ايري باللي بفتي بيحكي انه هذا راب
هذا علم مالو كتب هذا قرف على قرف
هذا عنده شغل على الخمسة فاق
ف طوابير على الدّور نتصفّت
مين يتفتّش في الأول نتدفّش
ف راس اللي قبالك نص ساعة بتتفرّج
هذا واقع أم حلم ولا بدري
قد ما تأزّم اخريتها رح تُفرج“
هذا المقال هو جزء من ملف “الأغنية الفلسطينيّة، سردية الناس والمكان” إهداء لذكرى الفنانة الفلسطينيّة ريم بنّا. وهو من إعداد رشا حلوة.