“ذاكرة الأرض”، اللغة، والإفلات من أدوات السادة جميعاً… عمل فني لسميرة بدران

ذاكرة الأرض، لسميرة بدران

اديل جرار

كاتبة من فلسطين

يأتي عمل الفنانة سميرة بدران "ذاكرة الأرض"، ضمن معرض "أمم متعاقدة من الباطن" وهو المعرض الافتتاحي لمؤسسة عبد المحسن القطان احتفاءً بافتتاح مبناها الجديد. يضم المعرض 53 عملاً فنياً معاصراً، لفنانين محليين وعالميين، عرضت الأعمال بإشراف يزيد عناني قيّماً، وبمساعدة عبد الرحمن شبانة مساعدَ قيّم، في جاليري المؤسسة الجديد، وبحرفية وطريقة عرض عالية الجودة، تنافس المعارض والبيناليات العالمية.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

31/07/2018

تصوير: اسماء الغول

اديل جرار

كاتبة من فلسطين

اديل جرار

ومعمارية، تخرجت من جامعة بيرزيت. تهتم بالعمارة والمدينة، وترجمات القوى والأنظمة السياسيه والاجتماعية والاقتصادية بالفراغ، كما تهتم بالفنون البصرية.

انتشلني ضوء ساطع لسيارة قادمة من الاتجاه المعاكس في غمرة المساء من أفكاري. عدت بتركيزي إلى المساء الهادئ والمسافة الصغيرة التي تكشفها مصابيح السيارة أمامي. لا أذكر بما كنت أفكر حقاً، قلت لنفسي يجب أن أدير المذياع، لكي أبقى يقظةً على الطريق من رام الله إلى جنين، فبعد وقت قليل سأصبح على الطريق السريع الخارجي، ويجب أن أكون في كامل تيقظي.

مددت يدي وأدرت المفتاح، وتركت المذياع يفتش بين موجات الـ FM على موجة نقية الصوت، واستقر فيه البحث على إذاعة محلية تبث أغنية ما لأم كلثوم.  هكذا تجري العادة هنا، فيروز صباحاً وأم كلثوم مساءً، هذا الطقس تتفق عليه كل الإذاعات. لا أعتقد أني من معجبي أم كلثوم المخلصين، ربما سأكون بعد عشر سنوات، أحب من أغانيها اثنتين أو ثلاثاً، سمعتها أيضاً صدفة خلال السفر، عبر الإذاعات، علاقتي بها رسمية جداً وتخضع للصدفة، ويتحكم بها مزاج من يختار الأغاني في الإذاعات، نادراً ما أذهب لها عن سبق إصرار.

خلال السفر بين المدن، لا أحب أن أشغل موسيقاي الخاصة، بل أستسلم لموجات الـ FM، وأترك الأمور تجري كما يراد لها أن تكون. والحق يقال إن صوت أم كلثوم، بما فيه من غلظة محبّبة، يضفي دفئاً، وبخاصة على الطرق بين المدن الموغلة بالوحشة. كما تعلمون، فإن الطرق بين ما تبقى من المدن الفلسطينية، مناطق (أ) الخاضعة لسيادة السلطة الفلسطينية، لا تخضع لسيادتها -أي الطرق- وتصنف مناطق (ج).  فهذه المدن تشبه جزراً صغيرة متناثرة في بحر كبير، تخضع سيادته لسلطات الاحتلال الإسرائيلي. لاحظت خلال تنقلي بين المدن لما يزيد عن عشر سنوات، وكطقس أسبوعي، أن ترددات المذياع، أيضاً، كذلك. تصدح أم كلثوم مثلاً بصوت واضح ومتواصل دون انقطاع، طالما ما زلنا في حدود المدينة، ومناطق (أ)، ثم ما تلبث الموجات في التشويش في الطريق مع تداخلها مع موجات إسرائيلية عند دخولنا مناطق (ج)، يصل أحيانا إلى انقطاع البث تماماً، واحتلاله بالكامل من موجة أخرى إسرائيلية، نظرياً في وسط المسافة بين منطقتين تتبعان تصنيف (أ)، ويقل هذا التشويش تدريجياً ليعود واضحاً كما كان عندما تصل مشارف المدينة التي تقصدها، كم هي غريبة ومتنوعة أشكال الاستعمار وعنفه، والغريب أن ما يزعجني أنني لاحظت هذا الاحتلال الموجي.

أتوقف عن التفسير والتحليل والتفكير بأحرف الأبجدية الإنكليزية، وأعود بسمعي إلى المذياع، تصدح أم كلثوم: يا فؤادي لا تسل أين الهوى، فتقاطعها على حين غرة موجة أخرى يتلوك فيها مذيع إسرائيلي كلاماً عبرياً لا أفهمه، لنفترض أنا وأنتم جدلاً أن ما سمعته هو (خلوشيم دوراخام ليزيوميم) مع ضحكة صفراء للمذيع، تعود موجة أم كلثوم لتكمل، “كان صرحاً من خيال فهوى!”، يقفز الصوت المزعج ليكمل شيئاً يشبه “لوخودام ليزوميم تيربيم”… “اسقني واشرب على أطلاله”… “ديليوم بيروميم خازلام”… “واروِ عني طالما الدمع روى” فيرد: “ميروميم لوشام!!؟؟”… “كيف ذاك الحب أمسى خبراً؟”… “ديبوليم مورتيم الواخ!”… “وحديثاً من أحاديث الجوى”… فتقفز جملة “دوبامين سيريم دوكيم”… وهكذا. إني لا أستطيع أن أتخيل مدى قلة ذوق شخص يقاطع آخر بهذه الصلافة، فما بالكم عندما تجتمع معه صلافة الاستعمار؟

أضغط على الكوابح لوجود صف طويل من سيارات “الضفة” تقف على الحاجز، تتجاوز عن سيارتي سيارة ذات لوحة صفراء إسرائيلية، أرقبها بطرف عيني وهي تنسل ببطء، تتجاوز هذا الحاجز السيارة ذات اللوحة الصفراء، أراقبها عن كثب وأسأل نفسي إن كان يحدث العكس في مذياعها، وتقاطعها أم كلثوم بصروحها التي هوت، أتخيل أم كلثوم تقفز إلى داخل السيارة -حرفياً لا موجياً فقط- فابتسم قليلاً وأنا أتخيل الست محدثةً خلخلة في السيارة عند قفزها المفاجئ داخلها وفزعاً لدى السائق الإسرائيلي، تمضي السيارة مسرعةً وأنا ما زلت أتخيل أم كلثوم داخلها، سرعة السيارة أكبر من أن أخرج أم كلثوم من السيارة -بخيالي على الأقل- وتمضي السيارة خاطفةً كوكب الشرق، وتنعطف يساراً بعيداً وتختفي في الأفق، فلا أعود أرى أو حتى أسمع أم كلثوم، أفيق من خيالي وأنظر إلى صف السيارات أمامي، وأقول لنفسي، يجب علينا أن نقوي أبراجنا الإذاعية وموجاتنا على الأقل.
 

تصوير: بهاء نصر، وفا. عمل سميرة بدران

أين يبدأ العنف وأين ينتهي؟ ذاكرة الأرض: عمل فني لسميرة بدران

تتنوع أشكال العنف والاضطهاد، فتبدأ بما يعترض الحواس الخمس وهو عنف ناعم وماكر يمكنه الاختباء، فما تشاهد وتسمع وتشم وترى وتلمس/تُلمَس من المحتمل أن يحمل تعنيفاً، وتنتهي بإفناء الأجساد (النيكروبوليتكس)، ومن الجلي أنه أقوى أنوع العنف وأوضحها، مروراً بالسلطة الحيوية على الأجساد (بيوباور) لأغراض اجتماعية/دينية (الأبوية كمثال) واقتصادية (النيوليبرالية كمثال) وسياسية، بحيث تمتلك القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها سلطةً حيويةً على الجسد، وعملياته الحيوية، فتحوله إلى جسد مسيطَر عليه، لتحقيق مصالح عليا، تهمل الإنسان/الجسد نفسه، وهذه السياسات وإن كانت تبقي على الجسد حياً، فإنها تعني “موت الإنسان” بالنتيجة، كنتيجة استعمالها له بشكل لا أخلاقي وسلبها حريته.

لنذهب الآن لفيديو ذاكرة الأرض لسميرة بدران، في عمل سميرة، وهو مقطع فيديو تركيبي (رسوم متحركة – أنيميشن)، نرى في مشاهد عديدة ساقين بلا جسد، وهما بطلتا هذا الفيديو، وقد حضر الجسد بالفن بقوة كطريقة للتعبير عبر التاريخ، وكوسيلة تسقط عليها المعاني، معنوياً في العمل الفني، ومادياً في الواقع فـ”لا جسد لا سياسة”. هاتان الساقان هما وسيلة الحركة والتنقل لدى الإنسان؛ أي حرية الحركة ووسيلتا التعبير المكاني، وهما أيضاً العضوان المستهدفان لإطلاق الرصاص عندما لا يراد قتل المستهدف، بل شل حركته، بحسب ما قالت بدران. تحاول هاتان الساقان عبور حاجز إسرائيلي. وخلال هذه “الـرحلة”، منذ لحظة الدخول، تتغير لغة الجسد خاصتهما، وتتعرضان لممارسات شتى داخل هذا الحاجز، الشبيه بنفق من الأعمدة الفولاذية، والمليء بالبوابات الحديدية الضيقة الدوارة، والمناطق التفتيشية، كما هو تصميم الحواجز (حاجز قلنديا كمثال). ترافق حركات هاتين الساقين المذعورتين، اللتين تتقدمان بخطوة، وتتراجعان باثنتين، لدرجة أن المشاهد يظن أنهما لن تخرجا من هذا الحاجز بتاتاً، فالفولاذ لا ينتهي، مهما تقدمتا، ربما هي إشارة من الفنانة، على أن أثر الممارسة الاستعمارية يستمر حتى بعد انتهاء الحاجز المادي.

ترافق هذه المشاهد، أصوات مشوهة، وعنيفة، من كلمات غير مفهومة، تشتمل على مقاطع عربية وعبرية وإنكليزية، صوت هذه المقاطع المشوهة مع بعضها، يعد مظهراً آخر للعنف اللغوي/السمعي. (من منا لم ينادَ على اسمه بطريقة لفظ خاطئة على حاجز؟ أو وُجّه إليه أمر ما بخليط من اللغات أو بالـ”عربي المكسَر”؟). أما اعتياد العين على رؤية الحاجز في المشهد الحضري، فهو عنف بصري وعنف ممارس ضد الوعي بلا شك، وإلى تغير رائحة المكان، أو الملامس للمواد داخل الحاجز عن المحيط، واعتياد الخلايا الحسية على هذا التغير، هو أثر لهذا العنف الذي يهدف منذ البداية إلى تطويع الحواس.

من الملاحظ أننا طبقنا كل هذه المظاهر، فقط على عملية المرور عبر حاجز، فكم سنفاجَأ بالسياسات الكبرى الممارسة ضد الإنسان في كل مكان وتحت كل نوع من أنواع السلطة/السيطرة؟ يلاحظ، أيضاً، في الفيديو تغير لغة جسد الساقين، أي أن عملية إدراك وجود هذا الحاجز، أوقفت السيل الطبيعي للحركة الجسدية وطرق التعبير الجسدي الخاصة بالفرد، التي تميزه عن الآخر، فاللغة الجسدية قبل وبعد الحاجز تختلف عن خلاله، فخلال المرور بالحاجز تضحي اللغة أكثر حذراً وتصلباً وتحفظاً لكي لا تثير الشكوك. وخلال مراقبتنا لحركة الأرجل في الفيديو، نبدأ بالشعور بالترقب، لنرى ما سيحصل لهما مقبلاً، كل ما يحدث لهما داخل هذا الحاجز، هو في سياق سياسات لفرض القوة، وتأكيد مستمر ويومي ومبسط للمسيطر، فالأجساد لا تولد مستعمرة، بل تصبح كذلك (بتصرف من مقولة لسيمون دو بوفوار – الجنس الآخر) باستخدام سياسات اقتصادية، اجتماعية، عسكرية وغيرها، لاستعمار الأجساد، والمكان بالنتيجة. والاستعمار هنا بمفهومه الأشمل، ليس فقط بمفهومه السياسي. يشتمل الفيديو على مشهد آخر، وهو مشهد لبنادق، تضرب بكعبها دماغاً، فتتغير حالة هذا الدماغ، ويفهم ذلك عن طريق تغير لونه بعد كل ضربة، وكأنها إشارة على أن العنف الفيزيائي له آثار غير محسوسة، ولا مرئية، آثار تختزن في الذاكرة، واللاوعي.
 

عمل سميرة بدران

كيف نواجه عنفاً ماكراً يمكنه الاختباء؟

أخذني التفكير مطولاً في هذه، فمن السهل تشخيص الحالة، ومن الصعب إيجاد الحلول. ربما أول خطوة/ممارسة من الممكن لكل شخص أن يمارسها، هي عمل “إعادة ضبط” في دماغه للخلايا التي تحتفظ ببيانات الوضع الراهن أو (Status quo)، فتجديد الصورة شيء مهم جداً، وجميع الصور التي يحتفظ بها دماغنا عن العالم منذ ولدنا إلى اليوم، تحتاج إلى التعديل من وقت إلى آخر، فالعالم ليس من الضرورة أن يبقى على الصورة التي طبعت له في مخيلتنا، وليس من الضروري، أيضاً، أن يبقى عليها، ولذلك فأن نتعلم تفكيك الصور، في عالم غدا بصرياً للغاية، وأن نتخلص من “الأمية البصرية” أو عسر قراءة الصورة، هو ضرورة ملحة. هناك اهتمام بالنصوص ومحو الأمية بمعناها المتعلق بقراءة النص المكتوب، لا يقابله اهتمام بمحو الأمية البصرية، وقراءة ما خلف الصورة، مع أن الإنسان يبدأ بالرؤية منذ الولادة ويكوّن ذاكرة وقراءة خاصة للعالم من حوله قبل تعلم القراءة النصية (جون برجر – طرق الرؤية، 2017).

وتتجلى أهمية قراءة الصور اليوم بحقيقة أننا نعيش عالماً بصرياً للغاية، بل هو فيضان من الصور الحاملة للرسائل البصرية، ومعلومات وبيانات، وكل صورة تود إخبارنا بفكرة ما، في عالم افتراضي تملؤه مواقع التواصل الاجتماعية التي تفيض بالصورة. يحضرني الآن فيلم يدعى They Live وهو يتحدث عن شاب، وجد نظارة سحرية، جعلته يرى المعاني الخفية الكامنة وراء ما يراه من صور/إعلانات في المدينة. من الضروري أن نفكر دوماً بما يريد العالم إخبارنا به من هذه الصورة، وما تحاول هذه الصورة تطبيعه في أدمغتنا. فكون وجود فكرة “بديل” عن هذه الصورة المطبوعة، وحده طريقة للمقاومة، فطالما أننا لسنا مرهونين بالواقع، فإن هناك مجالاً لتغيير أي نظام، كولونيالي، نيوليبرالي، ذكوري … الخ.

في رواية 1984 لجورج أورويل، لم يحاول الناس المقاومة أو التغيير أو التفكير حتى، برغم سوء الأوضاع في الدولة. ويقول أورويل في الرواية معللاً: “فالجماهير لا تثور من تلقاء ذاتها مطلقاً، كما أنها لا تثور لمجرد تعرضها للاضطهاد، وما لم تتح لها إمكانية المقارنة بين أوضاعها الراهنة وبين أوضاع أخرى، فإنها لن تدرك أبداً حقيقة كونها مضطهدة”. والأوضاع الأخرى هي أي أوضاع بديلة عن الراهن. أما عن الممارسات اليومية النشطة، التي يمكن ممارستها، لتمييز الاضطهاد الماكر، من الممكن أن نبدأ بقراءة واعية لكل الصور التي أصبح الدماغ يأخذها كما هي، مسلماً بها بحكم الاعتياد، مثلاً تحليل للمشاهد اليومية المكررة نفسها التي تعترضنا من المنزل إلى العمل، بعد ذلك تحديد العنف الخفي الكامن فيها، ومن ثم اختيار عملية بسيطة نشطة، كإعادة رسم الصورة بمخيلتنا ببدائل أخرى من اختيارنا، أو حفظ الأغاني جيداً في الذاكرة، لغناء المقاطع المشوشة.
 

 ذاكرة الأرض، لسميرة بدران

على هامش معرض “أمم متعاقدة من الباطن”: الفن المعاصر/المعولم أيضاً متعاقد من الباطن مع النيوليبرالية

يأتي عمل الفنانة سميرة بدران “ذاكرة الأرض”، ضمن معرض “أمم متعاقدة من الباطن” وهو المعرض الافتتاحي لمؤسسة عبد المحسن القطان احتفاءً بافتتاح مبناها الجديد. يضم المعرض 53 عملاً فنياً معاصراً، لفنانين محليين وعالميين، عرضت الأعمال بإشراف يزيد عناني قيّماً، وبمساعدة عبد الرحمن شبانة مساعدَ قيّم، في جاليري المؤسسة الجديد، وبحرفية وطريقة عرض عالية الجودة، تنافس المعارض والبيناليات العالمية.

المعرض، وبحسب إعلان القيم، يحاول عرض أسئلة حول القضايا المعاصرة المتعلقة بالأمم والمجتمعات والهيكليات السياسية، إضافة إلى النيوليبرالية… من خلال سبر موضوع الانتشار المتسارع لعمليات التعاقد بين الدول والقطاع الاستثماري الخاص… سواء أكان للخدمات الصحية، أم خصخصة الموارد العامة… ويتساءل عن هيمنة الأشكال المختلفة للهياكل النيوليبرالية على المجتمعات ضمن حدود مقبولة اجتماعياً… فقد أمست الآثار التي تنتجها الآليات النيوليبرالية متغلغلة ومتأصلة في علاقات الإنتاج اليومي للفرد… الخ، وضمن هذا الإطار، الهادف لكشف العلاقة بين الوسيط/السمسار والسيادة للدولة ومفهوم الأمة، وما يعنيه هذا المفهوم، في ضوء السيطرة النيوليبرالية الشاملة على الأفراد، كشفت عن هذه المفاهيم، أو حاولت الإفلات منها، وتحطيمها، 53 عملاً فنياً معاصراً بذكاء، عرضت في الجاليري، بعضها اهتم بكشفها عمرانياً كتيدي كروز، ومجموعة رام الله سيندروم، أو سياسياً كسميرة بدران وعامر شوملي، وإياد عيسى، واليكساندرا صوفيا حنضل… وغيرهم من الفنانين والأساليب.

إذن، المعرض يحاول عرض مظاهر هذه الهيمنة النيوليبرالية بغرض إنتاج نوع جديد معرفي على شكل معرض فني معاصر، بالمختصر. وإذا أردنا أن نرجع بخطوة واحدة إلى الوراء، ونتحدث تاريخياً، كيف وصلنا إلى الفن المعاصر، وما علاقته المباشرة، أيضاً، بالنيوليبرالية، فلنذهب إلى فترة الحرب الباردة وما تلاها. خلال فترة الحرب الباردة، كانت القوتان الأمريكية والروسية في احتدام ثقافي كبير، وكان الإنتاج الفني للقوتين عاملاً رئيسياً في هذه البروباغاندا.  بالنسبة للفن الأمريكي/الغربي، حاول أن يكون تماماً نقيض الفن الشرقي الاشتراكي، فإذا كان الفن الاشتراكي فناً واقعياً، يتبع طريقة محددة تمليها الدولة الشمولية، يمجد انتصارات الإنسانية، وبالأخص منها أمجاد الإنسان الاشتراكي، عاكساً أيديولوجيا المعسكر الشرقي، بينما استحدث الفن الأمريكي مفهوم الفن التجريدي (لاحقاً تم كشف خيوط علاقة بين الـ CIA، واستحداث الفن التجريدي (Abstract)، وركز فنه في إظهار حدود الإنسان وقسوته وإخفاقات الإنسانية، وتالياً عقب انتهاء هذه الحرب، تكتل العالم خلف نظام اقتصادي موحد، النظام النيوليبرالي، الحر المفتوح بالنسبة للدول الغربية، والمحكوم بشتى أنواع العقوبات والشروط من بنك دولي، وصندوق نقد دولي، ومنظمة تجارة عالمية، على الاقتصاديات الأخرى الهشة، ما يغرق أسواقها ببضائع الدول ذات الاقتصاد الأقوى، ولجوء حكوماتها للخصخصة، وتقليص برامج الرعاية الاجتماعية وغيرها، من صور التحكم التي يحاول المعرض طرحها.

ما علاقة الفن المعاصر الحر (لغةً ومضموناً) بالاقتصاد الحر (النيوليبرالي)؟

لتوضيح هذه العلاقة علينا أن نبين جزأين: لمَ يبدو شكل الفن المعاصر كما نراه؟ ولمَ هذا الشكل وهذه اللغة بالتحديد؟ وما علاقته بالسوق الحر؟ في الأعمال الفنية المعاصرة، من الملاحظ سعيها المستمر إلى الإبهار والابتكار والمفاجأة أو الاستفزاز، من الممكن أن نرى مثلاً عملاً طاولة بلياردو بيضاوية الشكل، أو حتى عملاً منافياً للأخلاق بشكل قاسٍ كأحد أعمال الفنان الفنلندي تيمو ماكي. يقول جوليان ستالابراس الناقد الفني، في كتابه مقدمة في الفن المعاصر، أن الفن المعاصر، هو فن معَولم، يأخذ قضية محلية أو يستجيب لقضية سياسية محلية، بينما يتساءل عنها بلغة عالمية للفن المعاصر/معولمة، وتبقى وظيفته محدودة بطرح أسئلة في المنطقة الرمادية، كما يتخذ أشكالاً وصوراً غير مرتبطة بالهويات القومية من حيث أشكال التعبير، لكي تسمح للعمل الفني بالسفر حول العالم، سواء لعرضه أو بيعه/اقتنائه، وهو في فعله هذا ينحاز إلى رأس المال العالمي، على حساب الاهتمامات المحلية، بل وأدى دوراً دعائياً للنيوليبرالية، بوصفه منطقة حرة للتعبير، وبقدرته على الوصول إلى كل أنحاء العالم، داخل هذا النظام؛ أي إن وجود هذه اللغة العالمية للفن المعاصر، ما هي إلا طريقة لتسليعه وبيعه في أي مكان في العالم، أي إنه يشبه أي سلعة أخرى تباع بلا أي قيمة ثقافية تقريباً، كملعقة شاي مثلاً.  فالسلعة، كما تحددها الرأسمالية، هي شيء ذو منشأ معلوم، لكنه تخلى عن عمق العلاقة مع أصله من أجل المنافسة في السوق العالمية. يقول ماركس: “إن الطبقة البرجوازية بفعل التحسن السريع في أدوات الإنتاج كافة… تجبر كل الأمم إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك على تبني نمط الإنتاج البرجوازي، وترغمها على تقبّل ما تصفه بالحضارة… باختصار، تخلق البرجوازية عالماً وفقاً لتصورها، وإذا استبدلنا نمط الإنتاج البرجوازي بنمط الإنتاج الفني النيوليبرالي في مقولته، سيتضح لنا الكثير حول تبني اللغة الفنية المعاصرة الواحدة المعولمة، اللغة الغربية.

ما الفرق في حال كنت أفهم اللغة العبرية وما الذي يسببه التشوش اللغوي سواء باللغة البصرية أو المحكية؟

سأعود قليلاً لمثال المذياع والتداخل اللغوي، والربط بين اللغة/الكلمة والصورة.  في علم السيميائية، يقسم دي سوسير الرمز SIGN إلى قسمين، دال (signifier) ومدلول (signified). الدال، هو الصوت أو الحرف المكتوب، والمدلول هو الصورة الذهنية أو الفكرة عن الشيء، فالكلمة هي إشارة، لا تحمل معنى مجرد من أصواتها، لكن تم اختيارها اعتباطيا واتفق على أنها تعني صورة ما. فكلمة شمس مثلاً بأحرفها، تدل عند سماعها على صورة الشمس وخصائصها، والكلمة والصورة معاً (الدال والمدلول)  يسميان بالرمز عند دي سوسير، أي أن الكلمة نفسها أو الدال ليس به قيمة معينة أو خاصية محددة مفصولة عن قدرته على بث الصور في الدماغ، أي أن اللغة/الكلام هو مجموعة من المحفزات والإشارات التي تكون صوراً في المخيلة، تشكل تسلسلاً معيناً في الخيال، ينتج عنه المشاعر، التجربة، تكوين الأفكار، والتبادل المعرفي وغيرها من وظائف اللغة. أي أن قفز لغة جديدة، ودون توقع من المستمع، سيعبث في تسلسل الخيال الذي يكونه حول الموضوع الأساسي المستمع له، وحين تكون اللغة مرئية، لا مسموعة، أي بصرية، فلا بد أن يحدث العكس، أي، أن تترجم من مدلول (مرئي) إلى دال (منطوق) أي مفهوم خاطئ، أي تكوين قراءات مغايرة لما أريد للغة البصرية/الصورية أن تدل عليه في المقام الأول بسبب اختلاف لغة/ثقافة دالات الرائي عن لغة المدلولات التي يراها، والتي من الممكن أن تكون عملاً فنياً في هذا السياق، أو أية منتج بصري آخر.

كيف يمكن أن ننتقد السياسات النيوليبرالية فنياً، دون استخدام أدواتها ولغتها؟

من الجلي أن عملية إنتاج وعرض و”بينلة” الفنون المعاصرة، هي الشكل النيوليبرالي للفن، إذن لكي ننتقد نظاماً “متعاقداً من الباطن”، لا بد أن نخرج خارج النظام نفسه، لننقلب عليه، لا أن نعيد استخدام أدواته نفسها في الإنتاج المعرفي، فأدوات السيد لا تهدم بيت السيد. هناك أسئلة عدة من الممكن أن نسألها لأنفسنا، لننقلب على النظام من خارجه، لا من الداخل، فطرح الأسئلة من الداخل يساهم في دعم البروباغاندا القائلة بمدى الحرية التي توفرها النيوليبرالية. من الممكن أن تخرج بنا من دوامة إنتاج الفن بصورة ليبرالية، وهذا يتطلب التفكير بأسئلة عدة تتعلق باللغة (لغة الفن البصرية) التي يجب أن يعرض بها الفن “المعاصر”، وطرق تمويل المعارض، ودور القيّم، وكيف يختار الفنان موضوعه، أما بالنسبة لفن فلسطين، ولا أرغب بتسميته بالفن الفلسطيني، لكي لا يربط بجغرافيا معينة، ولعدم وجود تعريف واضح لما هو الفن الفلسطيني حقاً، لكن لنقل أنه مجموع ما ينتجه الفلسطيني خارج وداخل فلسطين، والذي ليس من الضرورة أن نجد فيه أية خيوط رابطة أو هدفاً واحداً، من المهم أن ننظر للحظة التي سبقت تحوله إلى لغة الفن المعاصر، ونفكر بما كان سيكون عليه الآن لولا تحوله لهذه اللغة.
 

الكاتب: اديل جرار

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع