هذا الجزء الثاني، لقراءة الجزء الأول من الدراسة…. هنا
3. راشد حسين “الحب.. والجيتو” أو النكبة تقف أمام المحرقة وتسائلها:
شهدت السنوات الأولى التي تلت إقامة إسرائيل وبالتوازي مع عملية محو المشهد الفلسطيني وذاكرته تسارع عملية بناء وترسيخ مؤسسات الدولة الجديدة على أنقاض فلسطين، وشهدت هذه السنوات إقامة مؤسسات حفظ/إنتاج الذاكرة خاصة المرتبطة بالمحرقة من خلال إقامة مجمع ياد فشيم فوق أراضي حمامة التابعة لقرية عين كارم. وبعكس كثير من القرى التي دمرت بيوتها وسويت بالأرض، تم الإبقاء على بيوت عين كارم التي تتميز بجمالها، وتم تحويلها لإسكان المهاجرين اليهود.
في السنوات الأولى التي تلت النكبة، كان بقايا الفلسطينيين الذين ظلوا على الأرض التي أقيمت عليها إسرائيل، والبالغ عددهم ما يقارب نحو 150 ألف نسمة، يلملمون هزيمة شعبهم ويحاولون إعادة ترتيب حياتهم وفق القواعد الجديدة التي وضعتها الدولة اليهودية المستجدة بوصفهم مواطنين فيها. وقد وصفت رواية «أولاد الغيتو.. اسمي آدم» لإلياس خوري التي ذكرت في تقديم هذه الورقة تجربة “الناجين-الباقين” التي عاشها جزء من هذه البقية في المدن المنكوبة من خلال تناول الحياة في “جيتو اللد”.
كانت مشاعر الخوف والارتباك والقلق بشأن المستقبل تتحكم بكثير من السلوكيات الجمعية خاصة بعد طرد غالبية سكان البلاد وهدم الحواضر المدينيّة وتسوية مئات القرى بالأرض. ويمكن الاستدلال على واقع الخوف الذي ساد في سنوات الخمسين الأولى من حالة الخرس التي هيمنت على الإنتاج الثقافي بين الفلسطينيين في إسرائيل فيما عدا حالات قليلة. وقد بدأت هذه الحالة بالتغيّر التدريجي مع مرور الوقت وانحسار خيار الطرد خاصة بعد مجزرة كفر قاسم عام 1956، عشية العدوان الثلاثي وما أعقبها من عقد راية الصلح في كفر قاسم. ويضاف إلى كل هذا ارتفاع صوت الحزب الشيوعي وحزب مبام المناهضين لسياسات الدولة تجاه العرب، وإصدارهم مجلات ثقافية لنشر الإنتاج الثقافي الفلسطيني في الداخل، من بينها مجلة الفجر التابعة لمبام التي كتب فيها الشاعر راشد حسين (1936-1977) والشاعر والكاتب فوزي الأسمر (1937-2013) ومجلة الجديد الصادرة عن الحزب الشيوعي بالإضافة إلى جريدة الاتحاد.
في مقابل حالة الخوف التي هيمنت على “البقية الباقية” كما أسماهم الكاتب إميل حبيبي، وصل إلى إسرائيل في أول عقدين من إقامتها ما يقارب نصف مليون ناجٍ من المحرقة. وكما تقول حنة يبلونكا مؤرخة المحرقة كانت علاقة الإسرائيليين مع موضوع المحرقة مركبة وتمزج ما بين النظرة السلبية لضحاياها واتهامهم بعدم المقاومة والخنوع المذل للنازيين (تختصر بمقولة سيقوا كالخراف للذبح) وبين الرحمة والشفقة، مقابل محاولة المؤسسات الرسمية التشديد على المقاومة والتمرد في الجيتوات وإنتاج ذاكرة جمعية سياسية تحتفي بهذا الفعل بدل مركّب الضحية وهو ما تجلى في إطلاق تسمية “يوم المحرقة والبطولة” على يوم الذاكرة السنوي لضحايا المحرقة وربطه وتزمينه قبل احتفالات “استقلال إسرائيل” بأسبوع ليكون التزمين بمثابة صورة السلب “للانبعاث” الذي تدعي الصهيونية أنها تجسده في مقابل مصير “الموت” في الـ “شتات” لليهود “السلبيين”، وفيما يتم تذكر الضحايا وتمجيد بطولات المقاومة في الجيتوات على الرغم من ضآلتها وضعفها كما أشارت إلى ذلك حنة ارندت في كتابها “ايخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر” ( ص 171) مقابل ضخامة وكارثية دور مجالس قدماء اليهود في المحرقة (انظر/ي خاصة ص 162- و168) فإن جدلية “الموت والانبعاث” و”السلب والإيجاب” تُشكل سياسياً على يد الصهيونية اليهودية لأهداف إقامة الحلم الصهيوني.
بين ثنايا العلاقة الإسرائيلية المتناقضة مع مسألة المحرقة، وما بين مواقف التشكيك والشفقة والاتهام تجاههم، التزم كثير من الناجين من المحرقة ” كما كتبت مؤرخة المحرقة حنة يبلونكا، الصمت، واتجهوا نحو إعادة ترميم حطامهم، ليتقاطع صمتان في أول الخمسينيات، صمت قسم من الناجين من المحرقة وصمت بقايا أهل البلاد الأصليين ممن نجوا من الطرد الجماعي ومن النكبة، مع فارق جوهري، أن الأولين يحاولون بناء كيانهم مجدداً على حطام التالين.
مدّ راشد حسين حبل الكلام بين الصمتين، واستنطق الخرس المنسوج بالحزن والفقدان، حكى حكاية النكبة والخراب الذي أصاب بلده عبر صور يافا المدمرة، وسمع حكاية المحرقة من خلال قصة ناجية المحرقة “يافا” التي جاءت هاربة من هول المحرقة لتحط فوق تلة خرائب يافا. هناك حاورها، من فوق الوجع والفقدان، صك الحوار مع الناجية القادمة من البحر لقاء يبدأ بالحب وينطوي على إعلان مضمر للموقف من المحرقة، يبدأ من الحب الذي يستحيل بعد أن تسطو عليه القومية الصهيونية وتخضعه لعنصريتها ومنطقها الإحلالي.
وقف حسين في “الحب والجيتو” ممثلاً للنكبة أمام ناجية المحرقة التي حطت في بيته، تتوسطهما الصهيونية وتحدد اقتصاد العلاقة الممكنة. ينظر هو إلى عينيها مباشرة ويقوم بمساءلتها، يحاكم ضفرها بنكبته لينتفض عليه. وهو بذلك يحرر المحرقة من السياسة، أولاً، ثم يحاكم تسييسها، ثانياً، ثم ينتفض على المنتج السياسي الذي يدمجها في بنية المستعمرة العنصرية، ثالثاً، وهو ما يمكن اعتباره قراءة إنسانية تحررية للمحرقة تتضامن مع ضحاياها، وفي ذات الوقت تضع حداً فاصلاً بين هذا التضامن وبين المشروع الاستعماري الذي سيّسها.
النكبة تنظر إلى المحرقة وتسائلها
تشكل قصيدة راشد حسين “الحب …والجيتو” التي كتبها عام 1963، أي بعد 15 عاماً من نكبة 1948 اللقاء الإشكالي بين المحرقة والنكبة على خرائب فلسطين. وتعتبر هذه القصيدة باكورة وأهم ما كتب فلسطينياً عن هذا اللقاء بسبب جرأتها وإنسانيتها وتفكيكها للقاء بوساطة الصهيونية وإرهاصاته التدميرية.
تبدأ القصيدة كحوارية ثم تتطور تدريجياً إلى مساءلة ثم محاسبة، يقوم بها ضحية النكبة الناجي من مشروع المستعمرة الإحلالي مع ضحية المحرقة، فنكون أمام ما يشبه وقوف للنكبة أمام المحرقة واستجواب دورها في الكارثة التي حلت بالفلسطينيين ووطنهم، وكشف مدى توريط المحرقة في النكبة عبر تسييسها وإعادة تأطيرها ضمن مشروع المستعمرة.
تتوزع القصيدة على ستة أبواب، هي عبارة عن ستة مشاهد تصف التقاطعات بين المحرقة والنكبة على أرض فلسطين، عبر توصيف الحب المستحيل بين ناجية المحرقة يافا، وناجي النكبة على أنقاض يافا، نظراً للعلاقة المميتة بين إنشاء حياة جديدة لـ”يافا” الفتاة الناجية وموت يافا المدينة في الدولة التي أقيمت على أنقاضها.
يفتتح الكاتب قصيدته بمقطع “يافا مدينتي” يصف فيه حاضر يافا المأساوي بعد أن تم تدمير حاضرتها ومنع سكانها من العودة خلال 1948. يكتب حسين:
مداخنُ الحشيشِ في “يافا” توزّعُ الخدر
والطُرُقُ العجافُ حُبلى.. بالذبابِ والضجرْ
وقلبُ يافا صامتٌ… أغلقهُ حجرْ
بعد أن يصف حسين مشهداً بانورامياً مأساوياً ليافا يفتح قوسين ليوضح: لمن لا يعرف ماضي يافا وتحوله التراجيدي:
يافا -لمن يجهلها- كانت مدينة
مهنتُها تصديرُ برتقال
وذات يوم ٍ هُدمَتْ.. وحوّلوا
مهنتَها.. تصديرَ لاجئينْ
لا يشير حسين حتى الآن إلى المقصود بالذين حولوا مهنتها من تصدير البرتقال إلى تصدير اللاجئين، لكن كل من يقرأ القصيدة يعرف تماما أن المقصود هم الصهاينة الذين أقاموا وشيدوا إسرائيل عام 1948 بموازاة نكبة فلسطين.
في “يافا …المشردة” يحكي حسين عن قصة لقائه هو، الناجي من نكبة شعبه الذي ظل بعد الكارثة يلملم نكبة يافا المدينة، بـ”يافا” الفتاة الناجية من المحرقة والتي تتشارك ومدينته بالاسم وبكثير من التجارب، وتتشارك معه بالنجاة من الكارثة، ويكتب أولاً واصفاً واقعه وحاله، بعد أن تدمرت المدينة لكنه ظل فيها يرفع الأنقاض عن المكان المضرج بالدم:
وكنت في يافا… ألمّ عن جبهتِها الجرذانْ/ وأرفعُ الأنقاض عن القتلى/ بلا روس ٍ بلا رُكَبْ/ وأدفنُ النجومَ في رحم الرمال/ والأشجارِ/ والجدران/ وأسحبُ الرصاص من عظامِها/ وأمتص الغضبْ/ وأنتقي جديلة قتيلة أفرُمها/ ألفُها سيجارةً/ أشعلها.. وأجرعُ الدخانْ/ لأستريحَ لحظة.. بلا سببْ…..!
على خلفية هذه المشهدية الكارثية التي يمتزج فيها الدم والتقتيل والخراب الكامل، تلتقي اليافتان في لقاء يجمع دمارين وخرابين. تحط الشريدة “يافا” في يافا في مسعى البحث عن مكان لها، في إشارة طبعاً إلى مئات الآلاف من الناجين من المحرقة الذين جاؤوا إلى فلسطين بعد إقامة إسرائيل ضمن ما صار يعرف بالهجرة الكبرى:
لحظتَها صبيةٌ تبحَثُ عن عنوانْ/ جاءَت مع الأمواجْ/ هودجُها لوحٌ من الخشبْ/ يركُضُ خلفَها القبورَ واللهبْ / كان اسمُها كاسم ِ مدينتي../ يافا اسمُها/ تاريخُها: ستة ُ أرقامٍ على ذراعِها/
يكتب حسين عن التشابه بين جميلتين هما أيضاً ضحيتان تنزفان من هول كوارثهما “يافا” الناجية من المحرقة (النازية) ويافا المدينة المنكوبة (من الصهيونية):
جميلة ٌ كانت كأنها مدينتي/ مهدومة.. كأنها مدينتي/ كأنّ ما مرّ بنا…/ مرّ بنا لنلتقي؟!/
ثمَ نُحبْ ؟!
السياق المكاني والسياسي للقاء في يافا المنكوبة هو ما سيحدد إمكانيات تطور العلاقة بين الناجيين كما يتضح لاحقاً في القصيدة بين الفتى المراهق الذي يلتهب جسده في فرن من نوع آخر هو فرن المراهقة ويمر مخاض الرجولة، وهو مأخوذ بـ”يافا” الجميلة المدماة. ويتطور الأمل بلقاء بين محبين تعبر عنه “يافا” ناجية المحرقة بقولها:
” لعلَ هذا الفرنَ يعطينا شهابَ نارْ/ به نضيءُ دربنا/ عليهِ نشوي خبزَنا/ جرّبتَ أفرانَ الكبارْ/ جرّب أفرانَ الصغارْ”.
يتنقل حسين في قصيدته بين ثلاثة أفران/ فرن المحرقة النازية الذي حرق به أهل “يافا” (اليهودية)، وفرن الجسد الذي يتلوى فيه مراهقان في أول عمرهما، وفرن النكبة الذي احترقت فيه يافا كناية لفلسطين. ضمن هذا السياق تريد أن تجرب “يافا” الناجية من النازية فرن الصغار، في إحالة لفتح قصة حب بينها وبين الفتى الفلسطيني المنكوب حيث:
“التهم الفرنُ جميعَ ما أملكهُ من الترابْ/ لم يبقَ من الأرض سوى أنا..”
لكن المهم أنه على الرغم من كل هذا الفقدان، فإن الفتى مستعد لأن يبدأ من جديد كي يحيا:
“لذا أريدُ أن أعيشْ !/ على تُرابِ بدني/ يثمرُ طفلاً… من جديدٍ يُبعثُ التُرابُ”.
الرغبة في البدء من جديد رغم كل الخراب هي رغبة مشتركة بين الناجيين الاثنين، مع فارق أن ناجية المحرقة تعتقد أن البداية في المكان الجديد ممكنة لأنه أقيم ليتيح البدايات الجديدة أو بلسانها:
“يقال هذا الفرنُ قام حتى يصنَعُ الأطفال/ لعلهُ من حُبِنا يثمرُ طفلاً.. فتعالْ؟!”
مع هذه الدعوة من “يافا” الناجية من المحرقة للفتى الفلسطيني للبدء من جديد تتكشف في قصيدة حسين استحالة اللقاء بسبب الشروط التي وضعها “الفران” الذي يسيطر على الفرن المقام على خرائب يافا، والذي يريد الفرن/ المكان حصرياً له ولشعبه في إحالة للصهيونية وفكرة إقامة الدولة اليهودية، ويكتب حسين في المشهد الرابع على لسان الفران: “هذا الفرنُ لي/ ودفئُهُ وقفٌ على شعبي”.
في هذا السياق لا تتعلق مسألة البدء من جديد رغم الخراب فقط برغبات الناجيين التائهين واستعدادهما للبدء من جديد (ما نحنُ إلا تائهَينْ/ نبحثُ في الأدغال عن دربِ) بل بقرارات الفران وبخياراته التي تضع قوانين للحب والكراهية وتتحكم بمساحات المسموح والممنوع:” قانوني هُنا :للحبِ قومية/ في المئةِ العشرينِ .. يشوي الحُبُ في فرن ِ الكراهية”.
في هذه الدراما التي تتطور ما بين اللقاء على الخرائب لناجيين متعبين من هول ما مرا به، تتكشف بشاعة المشهد الذي يشيّد على أرض يافا الخربة كما يصفها حسين في المشهد الخامس الذي يصف محرقة يافا مدينته الفلسطينية وانغلاق باب الحب فيها:
“مدينتي يافا…! الحريقُ في مفاصلي/ أينَ حليبُ البرتقال يطفئ الحريق؟!/ حبيبتي “يافا”..! الطريقُ أُغلقت/ أينَ دموعُ الحبِ … تفتحُ الطريق؟!/ لكنَ “يافا” لم تجب…/ وحينَ نادَتْ لَم أُجبْ…/ والفرنُ يشوي لحمنا… يحرقُ حُبَنا!!”
وسط هذا الخراب والانغلاق في الطريق والأفق يقف ناجي النكبة يتساءل مستنكراً العلاقة الدامية التي يقيمها من يسيطر على المكان بين رتق جرح الناجين من المحرقة وفتق جرح الفلسطيني ممثلاً بابن يافا:
يا شرطيّ الله … هل سلختَ ساعدي/ لترقعَ السواعدَ التي مزقها سواي؟/ يا شرطيَ الله… هل قتلَ كواكبي/ سيُشعلُ الكواكب َ التي أطفأها سواي؟
يا شرطيَ الله حيثُ كنتَ :في التوراةِ/ في نيويورك / في لندنَ/ في باريسْ/ يا مُختارَ … يا رسولَ/ هلا وشمتَ ساعدي بآيةٍ تقول/ ” هذا الفتى كان لهُ/ جلدٌ .. أنا سلختُهُ ./كان َ لهُ نجمٌ … أنا أطفأتُهُ/ ووطنٌ قتلتُهُ…/ كنتُ بلا جلدٍ .. بلا نجم ٍ .. بلا وطنْ/ أحرقني النازي …/ فليدفع هذا الفتى الثَمن”؟/
يلخص حسين العلاقة المميتة التي تجمع اليافتين: يافا مدينته و”يافا” الهاربة من نار المحرقة:
يافا التي حسبتُها لاجئة معذبه/ تُحبُ من يافا مدينتي/ جارةٌ بها تحكُ الرقمَ عن ذراعها/ لكنها مخطئةٌ ان حسبتْ/ حجارةً مسروقةٌ تبني خلايا جَرحِها.
يجمل حسين في المشهد الأخير من قصيدته والمعنون بـ”القبر والصليب” بشعرية مأساوية العلاقة بين مشروع بعث وإحياء وإعادة تشكيل “يافا” الناجية من المحرقة التي اقترفت بحقها في أوروبا وبين محو وإبادة وتدمير يافا مدينته التي تحيل لفلسطين التي تم تخريبها ومحوها ليشيد على خرائبها الكيان الجديد. لا مكان لـ”يافا” الناجية للتنصل من مسؤوليتها عن خراب يافا المدينة، لأنها فعليا تتورط في المشروع الإقصائي التدميري للفلسطيني:
يافا التي تاريخُها/ رقمٌ على ذراعِها/ تبني على يافا مدينتي/ “جيتو بلا أبوابْ”.
الجيتو الذي بلا أبواب يتسع لـ”يافا” الناجية من المحرقة ولمن يقرر صاحب القوة أنه جزء من مشروعه القومي كما أشار سابقا حسين، بل أكثر من ذلك، فـ”يافا” التي “جاءَت مع الأمواج/ تؤمن ُ أنَها الله … أنني القُربان/!
لا يطرح حسين صورة “يافا” الناجية من المحرقة بشكل بسيط بل بشكل مركب يتطور ويتعقد مع مشاهد القصيدة حتى نهايتها، فهي أيضاً تتشكل من صراعات، وتتنازعها رغبات. كذلك الأمر بالنسبة للفلسطيني ابن يافا الناجي الذي كما يبدو يحيل إلى بقية الفلسطينيين الذي ظلوا بعد النكبة في وطنهم وصاروا مواطنين إسرائيليين.
في صورتها الأولى هي ضحية ناجية من فرن المحرقة والكراهية، وهي محبة ومنفتحة مثلها مثل الناجي من النكبة الذي يتضامن مع معاناتها ووجعها وتنفتح أمامهما في لحظة بوابة الحب التي يمكن أن تتغلب على وجع ماضيهما. حتى هنا يكون اللقاء الأول هو لقاء حب مشبع بالتضامن. غير أن اللقاء على أرض يافا هو الذي يجعله إشكالياً، لأنه ليس لقاء على أرض موضوعية منقطعة، بل على أرض دمرها مشروع المستعمرة الذي بني ليكون أيضاً بيتاً للضحية ذاتها وعلى شكل جيتو جديد مغلق أمام أبناء المكان. ولحظة إدخال “يافا” ناجية المحرقة إلى هذا البيت بشروطه التي وضعها صاحب مشروع المستعمرة/الدولة هي لحظة فصل تأسيسية أيضاً بين “يافا” الناجية ويافا الإسرائيلية، وهي أيضاً لحظة انتقال حسين من الحب إلى الغضب ومن التضامن إلى المساءلة، مساءلة اندماج الضحية في هذه العلاقة الإقصائية والمجدولة في تدمير الفلسطيني ليُبنى كيان جديد على أنقاضه يأوي إليه (أيضاً) الناجون من المحرقة وتنضوي تحت سقفه/قانونه أيضاً “يافا” الناجية. هكذا يتطور المشهد نحو علاقة تصادم بين يافتين تتصارعان على الوجود، وهما من كان من الممكن أن يكونا حبيبين لولا شرط المكان المميت الذي يضعهما أمام خيارين: الصليب والقبر: ساعتَها – “يافا” المهاجرة/ “يافا” المغامرة/ سترفعُ الصليبَ لي/ في قمة الجبل/ وأحفرُ القبرَ لها/ في أسفل الجبل…/
الشاعر لا يتنازل عن يافا مدينته/ وطنه، وسيظل يحلم بها، ينتظر عودتها:
أحلُمُ أني سأظلُ لحظةٌ أو لحظتينْ/ منتظرا ً يافا/ يافا الحقيقة/ يافا حبيبتي/ يافا مدينتي/
لكن المهم في القصيدة رغم العلاقات المأساوية المميتة التي تصفها في مشاهدها الستة وتختصر لقاء المحرقة والنكبة على أرض فلسطين، أنها لا تنتهي بالموت كخيار وحيد، بل تنتهي بتساؤل يطرح إمكانيات أخرى للخروج على خيار الصليب والقبر:
“وعندها يا ليلْ../ سوفَ أظلُ حالماً/ منتظراً يافا انتظارَ الطفل للحليبْ/ لعلها تسألْ :أبعدَ كُل ما جرى…
لا بُدّ من قبر ومن صليب؟!”
السؤال المفتوح هنا هو بالذات ما يقدمه نموذج راشد حسين كمخرج دون أن يقوله: يمكن أن ننجو من القبر والصليب إذا تنحت عقلية المستعمرة!
خلاصة
حدث اللقاء بين الفلسطيني والناجي من المحرقة في سياق استعماري استيطاني مجدول بمشروع إقامة إسرائيل عام 1948 على محو المشهد الفلسطيني. تشكلت العلاقة بين الإثنين على أساس بدئي إقصائي ومميت للفلسطيني بسبب تأطيره ضمن المشروع القومي الصهيوني، حيث تمت إقامة دولة إسرائيل بأدوات العنف والتطهير الإثني للمشهد الفلسطيني كما أظهرت في الجزء الأول، آخذين بعين الاعتبار أنه كما يشير البعض فإن نصف المشاركين في حرب 1948 / نكبة الفلسطينيين هم من الناجين من المحرقة (حنة يبلنكة 1998)، ثم تم بعد ذلك تحصين ونظم وجود الدولة على أساس قومي إثني يهودي إقصائي من خلال القوانين والتشريعات ومنظومات العنف الرمزي والمباشر وبنى الدولة المختلفة.
جاءت ضمن مشاريع الدولة التي تأسست بعد النكبة مجمعات الذاكرة والتذكر لتخليد الضحايا اليهود الذين سقطوا في الحرب وفي المحرقة كجزء من مشروع بناء الدولة، وتم تقنين هذه المشاريع ضمن قوانينها وتخصيص ميزانيات رسمية لها. يشكل إقامة مجمع ياد فشيم جزءاً من مشاريع الدولة، ويعكس بجغرافيته الزمكانية علاقات القوة الاستعمارية التي توسطت وجوده. فالمجمع مقام بمحاذاة قرى تم تخريبها ومنع أهلها من العودة إليها، وإسكان مهاجرين يهود فيها، وهو ما يعني فعلياً من ناحية الفلسطيني ابن المكان الممنوع من ممارسة حقه في العيش بوطنه أن المحرقة تم توطينها استعمارياً، وأن المجمع بوصفه تمثيلاً لذكرى المحرقة هو بناء سياسي مجدول بعلاقة المحو الأولي للفلسطيني.
في الجزء الثاني من المقال تتبعت المفهمة الفلسطينية للتوريط الاستعماري للمحرقة في النكبة عبر قراءة قصيدة راشد حسين الحب والجيتو، والتي تتبع العلاقة المركبة بين ناجية المحرقة يافا وناجي النكبة، ثم تتطور حتى إيضاح مدى توريط الناجين من المحرقة في نكبة الفلسطيني عبر محاولة تطبيب جرحهم بسلب الفلسطيني بلاده، إذ يتم بكل بساطة تدفيع الفلسطيني ثمن جريمة نكراء اقترفت في بلاد بعيدة، دون أن يكون له ذنب فيها. بل إن فلسطين تتحول بشكل مأساوي إلى قربان يقدم من أجل افتداء الضحية في علاقة مميتة ودموية فيها الفلسطيني هو ضحية الضحية التي تصير شريكة في الجريمة، أو كما لخصها حسين بشكل مميت:
هل سلختَ ساعدي/ لترقعَ السواعدَ التي مزقها سواي؟
المصادر
باللغة العربيّة
أورون، يائير. المحرقة، “الانبعاث”، النكبة، ترجمه من العبرية أسعد زعبي، رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية”مدار”، 2013
أشقر، جلبير. العرب والمحرقة النازية، حرب المرويات العربية-الإسرائيلية، بيروت: دار الساقي، 2010
حسين، راشد. الأعمال الكاملة، الطيبة: مركز إحياء التراث العربي، 1990
الخالدي، وليد. مجزرة دير ياسين، بيروت ورام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1999
خوري، إلياس. أولاد الغيتو: اسمي ادم، بيروت: دار الآداب، 2016
غانم، هنيدة. “المحو والإنشاء في المشروع الاستعماري الصهيوني”، مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد 96، ص118-139، (2013)
المدهون، ربعي. مصائر: كونشرتو الهولكوست والمحرقة، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2015
باللغة العبريّة
بار زوهر، ميخائيل ومشعال، نسيم. الموساد: العمليات الكبرى، تل أبيب: يديعوت أحرونوت وكتب حيمد، 2010، الفصل 10
بن أرييه، يهوشواع. تاريخ أرض إسرائيل- حرب الاستقلال (1947-1949)، القدس: يد يتسحاق بن تسفي وكيتر للنشر
بن ناحوم، زوهر. الحالم والمُحقّق- فصول في حياة مردخاي شنهابي، الجزء الثاني. منشيه: يد يعري، 2011
ديان، موشي. “كتيبة الكوماندو تغزو اللد”، معرخوت، العدد 62-63، ص. 34-40، (1950)
سيغف، توم. المليون السابع: الإسرائيليون والكارثة، القدس: دار النشر كيتر وماكسويل مكميلان، 1991
مِلمان، يوسي وربيب، دان. حرب الظلال: الموساد وأوساط المخابرات، تل أبيب: دار النشر يديعوت للكتب، 2012
موريس، بيني. 1948: تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، رعنانا: عام عوبيد، 2010
يبلونكا، حانا. “الناجون من الكارثة في إسرائيل- تلخيصات أوليّة”، على سبيل الذكرى، عدد 27، إصدار ياد فشيم- هيئة إحياء ذكرى الكارثة والبطولة، 1998
يبلونكا، حانا. أخوة أغراب: الناجون من الكارثة في إسرائيل 1948- 1952، القدس: يد يتسحاق بن تسفي، 1994
باللغة الإنجليزية
Ghanim, Honaida “The Nakba” Jadal , issue no.3, (May 2009) http://jadal.mada-research.org/?LanguageId=1
Hecht, Ben, Perfidy, New York: Julian Messner, Inc, 1961
Khalidi, Walid. “Plan Dalet: The Zionist Master Plan for the Conquest of Palestine,” Middle East Forum, 37, no.9, p.22-28 (November 1961)
Khalidi, Walid.” Why Did the Palestinians Leave?” Middle East Forum, no.24, P.21-24 (July, 1959), Reprinted as ‘Why Did the Palestinians Leave Revisited’, Journal of Palestine Studies, XXXIV, No. 2, p. 42-54 (2005)
Mbembe, Achille. ” Necropolitics”, Public Culture 15, 1, pp. 11-40 (2003)
Pappe, Ilan. The Ethnic Cleansing of Palestine, Oxford: One world, 2006
Piterberg, Gabriel. The Returns of Zionism: Myths, Politics and Scholarship in Israel, London and New York: Verso, 2008.
Shavit, arieh. ”Lydda, 1948”, The New Yorker, (13 Oct 2013): http://www.newyorker.com/magazine/dept-of-history (last seen 2.3.2018)
Tamari, Salim. “The city and its Rural Hinterland”, in Salim Tamari, (editor) Jerusalem 1948, The Institute of Jerusalem Studies and Badil Resource Centre, 1999
Veracin, Lorenzo. “Introducing settler colonial studies”, settler colonial studies, Vol.1 No.1 (2011)
Wolfe, Patrick. “Settler colonialism and the elimination of the native”, Journal of Genocide Research, 8(4 ) (2006)