انتشر مؤخراً في العالم العربي مصطلح (أوتاكو) otaku وهي كلمة تعني “الملازم للمنزل” وتطلق على المهووسين بالألعاب والمسلسلات وما شابه، إلا أنها حصرت لاحقاً لتشير إلى مهووسي الأنمي الياباني تحديداً.
في البداية كان الأوتاكو في اليابان يطلقون على أنفسهم (أوتاكو) بفخر، إلا إنها مؤخراً تحولت إلى كلمة سلبية، وقد أشار إليها مخرج أفلام الأنمي الياباني الشهير (هاياو ميازاكي) في إحدى مقابلاته، واعتبر إن مشكلة صناعة الأنمي هي (الأوتاكو) الذين وصفهم بأنهم “لا يستطيعون النظر إلى البشر”. وبالتأكيد لم يقصد بهذا الانتقاد محبي الأنمي، إنما المهووسين الذين يبحثون فقط عن عالم بديل.
تنتشر مشكلة الأوتاكو عادةً في المجتمعات التي تعاني من مشاكل اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. بالنسبة لليابان فهي أرض خصبة لنمو شيء مثل الأوتاكو، فبالإضافة إلى كونها البلد المنتج للأنمي والمانغا، هناك أيضاً المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها اليابانيون نتيجة الضغط الأخلاقي الكبير والمطالبة بأن يكون الشخص منتجاً ومثمراً في المجتمع، وهذا ما ينتج الرغبة في البقاء في المنزل مع الشعور بالفشل وبالتالي يقع المحبَطون فريسة لهوسٍ كهذا.
والأنمي هو رسوم متحركة يابانية -تستعمل كلمة أنمي بدلاً من أنميشن للتفريق بين الرسوم المتحركة اليابانية والأمريكية- وهذه الرسوم لها خصائصها المميزة في الرسم، وأبرز تلك الخصائص هي العيون الكبيرة بشكل غير طبيعي.
إذا عدنا إلى تاريخ الدراما في اليابان، نجد مسرح البونراكو والنو والكابوكي، ومسرح البونراكو هو مسرح دمى عملاقة يحركها ثلاثة أشخاص، والنو والكابوكي يعتمدان على الأقنعة والأسلبة في الحركة، والرابط بين الأنواع الثلاثة هو عدم وجود الممثل بشكله الواقعي، وهو ما يشبه الأنمي بهذا تحديداً.
عقلية الإنسان الياباني اعتادت هذا النمط البديل عن الممثل الحقيقي، وربما هذا ما جعلها رائدة في صناعة العوالم الوهمية، لكن متابعي الأنمي ليسوا فقط في اليابان، فقد حقق هذا النوع انتشاراً في العالم بأكمله، وقد عبّر الكثير من الأهالي عن قلقهم من هذا، إذ أن أطفالهم يفضلون البقاء في البيت ومشاهدة الأنمي طوال اليوم دون أي نشاطات أخرى، وقد يصل الأمر إلى الهوس بشخصيات محددة ومحاولة تقليدها.
ما زاد الأمر سوءاً هو انتشار الأنمي الإباحي (الهنتاي) بأنواعه المختلفة، والذي لا يختلف أبداً عن البورن العادي سوى بكونه رسوماً متحركة، ولا يتوقف الهنتاي على شخصياته الخاصة، بل قد تجد هنتاي أبطاله شخصيات محبوبة مثل (ران موري) من أنمي المحقق كونان.
ما الذي يجعل الأنمي جذّاباً إلى هذه الدرجة؟
الإجابة النمطية على هذا السؤال هي: الألوان والرسم المدهش وقوة الخيال، لكن كل هذا قد نجده في الأفلام والمسلسلات الحية، وكون جمهور الأنمي ليس مقتصراً على الأطفال، فهناك أسباب أكثر عمقاً تجعل من شخص في العشرينيات مهووساً بالأنمي.
نلاحظ أن جمهور الأنمي يتكون عادةً من الانطوائيين، وكما وصفهم ميازاكي فهم أشخاص “لا يستطيعون النظر إلى البشر”.
رغم واقعية الأنمي وعمق شخصياته الذي يميزه عن الكرتون الأمريكي، يبقى هو الدراما المفضلة للأشخاص الذين لا يستطيعون احتمال الواقع، وهناك عدّة تفسيرات للأمر، وتفسيري الخاص يعتمد على (القناع). والقناع هو كل ما يخفي تفاصيل الوجه أو الجسد ويطمس الهوية الحقيقية. وهو يقارب الأنمي كونه لا يعتمد التفاصيل الحقيقية للوجه البشري (حجم العين، والأنف، والشفاه، والحركات المبالغ بها)
يقول عالم الأنثروبولوجيا رولاند كوهن عن القناع إنه: ”يقطع القناع علاقته مع الماضي“. هذه الجملة يصف بها كوهن تأثير القناع على مرتديه، والناظر إلى القناع لا يربط مرتديه بأي ماضي. والأنمي هو قناع بحالته الأقصى، إذ إن المتلقي يدرك أن هذه الشخصية رغم عمقها الإنساني لا تملك أي ماض بشري، ولا تذكّره بأي شيء قد يحيله إلى واقع حياتي يربكه، بالتالي يسمح له الأنمي بالانفصال عن هذا الواقع، في حين أن الممثل الحي يحيل إلى أشخاص قد يشبهونه بالشكل أو تعابير الوجه التي تذكر الشخص الانطوائي بالمجتمع الذي لا يحبه أو يخافه. وجه شخصية الأنمي لا يجبرك على التعامل مع “الآخر” بشكلٍ مباشر، فالوجه غير البشري لا يحكم عليك، أنت من يحكم فقط، حتى وإن كانت الشخصية عميقة، فإنها بهذا الوجه حتماً تنتمي إلى عالم آخر، عالم لن تُجبر على التعامل معه.
تحمل شخصيات الأنمي الياباني صفات إنسانية كاملة، ولكل شخصية تفكيرها وتصرفاتها وخياراتها في الحياة، وهذا ما يسمح للعقل بقبولها، لكنها أيضاً محدودة في العمل الذي تظهر فيه ويجعلها ذلك آمنة للأشخاص الانطوائيين.
أيضاً هناك سبب آخر لتعلق الكبار بالأنمي، وهو الرغبة في استدامة مرحلة الطفولة. فالأطفال ينشؤون على مشاهدة الرسوم المتحركة، كونها سهلة الفهم عاطفياً، وتحوي الألوان الممتعة والقصص الخيالية الشيقة، لكن قد يكبر الطفل ويبقى متابعاً للرسوم المتحركة، وذلك لرغبته باستدامة مرحلة طفولته وخوفه من النضوج، إن أبطال الأنمي عادةً من فئة عمرية صغيرة مع استثناءات قليلة، ونادراً ما يكون البطل في عمر الثلاثين مثلاً، وهو العمر الذي يجعل هذا الراغب في استدامة طفولته يخاف لو رأى أي تشابه بينه وبين الشخصية كبيرة السن. وما يعزز جاذبية الأنمي للكبار هو توفر الأنمي الموجه لفئات عمرية مختلفة، فالأنمي الياباني يقدم تصنيفات عمرية متعددة ومنها +18، وذلك ليس بسبب الإباحية والعنف فقط، إنما السبب الأكبر يعود إلى التعقيد الفكري فيها.
وقد اكتشف محبو الأنمي العرب ذلك بسبب الإنترنت، فما تقدمه قناة سبيستون على إنه مسلسل للأطفال بعد تغيير الكثير من تفاصيله، هو في الحقيقة موجه لمن هم فوق 13 عاماً أو أكثر، وعند مشاهدة النسخة الأصلية، يشعر المتلقي بأنه يستطيع العودة لمشاهدة الرسوم المتحركة دون أن يحس بطفولية ما يشاهده.
لماذا يسبب الأنمي الإدمان؟
بالإضافة إلى الأسباب المذكورة سابقاً، يتكيف الشخص الذي يشاهد الكثير من الأنمي مع الرسوم أكثر من الأشكال الواقعية. ففي تجربة أجراها قسم علم النفس في جامعة هارفرد، تم اختيار عدّة أشخاص بعناية وفصلهم إلى مجموعتين، المجموعة الأولى شاهدت فيلماً حياً (فيلم الأبطال) والثانية شاهدت أنمي (سلة الفواكه). وأظهرت نتائج التجربة أن المجموعة التي شاهدت الفيلم الحي تفضّل الوجوه ذات الصفات العادية، بينما فضّلت المجموعة التي شاهدت الأنمي الوجوه ذات الملامح الأقرب إلى ملامح الأنمي، أي الأشخاص ذوي العيون الواسعة والأنف الصغير جداً.
تؤدي مشاهدة الرسوم إلى تكيف الدماغ البشري معها، ليعتبرها لاحقاً شيئاً طبيعياً ويفقد غرابته مع الوقت، ثم يصير هذا الشكل هو الأقرب إلى الدماغ بعد تعرضه للكثير من هذه الصور. وهذا ما يجعل شخصاً لم يتابع الأنمي من قبل مدمناً على الأنمي الإباحي (الهنتاي).
قد تبدو فكرة أنمي إباحي مضحكة للبعض، فمشهد شخصية مرسومة تمارس الجنس مع شخصية مرسومة أخرى أو مخلوق غريب لن يكون مثيراً سوى للمهووسين، إلا أنه يكفي أن تشاهده عدّة مرات من باب الفضول ليقبله عقلك كشيء طبيعي، وبعد هذا القبول ستغرق في هذا العالم الذي يجعلك ترى كل خيالاتك الغريبة على شاشة!
رغم ذلك، لا يبدو أن هذا الهوس قد وصل إلى مرحلة تثير القلق في العالم العربي كما حدث في بلدان أخرى، إذ إنه حتى الآن مقتصر تقريباً على فئة صغيرة تبحث عن الأمان في هذا الانتماء، ولم يقم أي أوتاكو عربي حتى الآن بأفعال غريبة قد تستدعي القلق.